لم تستسغ بعض الأوساط أن يظل في المغرب من يقول لا للتعسف وللأحكام المزاجية، فأرادت أن تسوق استقالة طارق القباج ، بركاكة أخلاقية وسياسية ترى في الأمر مجرد ضربة حظ انتخابي، في أحسن الأحوال، أو لعبة نرد سياسية ، في أسوئها. لقد تعودنا على قراءات من هذا النوع، حتى بات أي موقف يخبئ في طياته، لدى من يدافعون عن مثل هذه القراءة، شيكا مكتوبا قابلا للصرف أو قابلا للتعميم. حقيقة الأمر أن مثل هذا النزوع هو الذي ساعد على قتل السياسة وتعليقها دوما على مشجب النظرية الشهيرة، نظرية المؤامرة والاشياء العابرة، حتى أصبحت السياسة هي مجرد مواقف انتفاعية، عابرة، هزيلة إن لم نقل مغرضة. ولا يمكن، ضمن هذا المنطق أن تتخذ المواقف التي لا بد منها. طبعا، هذا النوع من التسويق لا يكون دائما بغرض تبخيس للمواقف ، تبعا لقراءة مبتورة ، بل يكون في أحيان كثيرة تعبيرا عن أن إرادة الذين يريدون تتفيه كل شيء ، تحقيره، أولئك الذين من مصلحتهم ألا تقال الحقيقة الحقة في الموضوع، ويسربون تحليلاتهم حتى ينظر الى الأمر كأنه فقط مسألة رغبات تجارية وسياسوية لا صدق ولا موقف فيها، ولا قوة أخلاقية ، باعتبار القيم هنا هي قوة القانون والاعراف السياسية. هناك سبب واحد كاف للرد على أولئك ،يكمن في كون الأمور بدأت منذ 2004، منذ التجربة السابقة، وأن التراكم السلبي والمستمر الذي جمعته القضية ، عمره اليوم 7 سنوات، أكبر من تجربة انتخابية وأكبر من عمر مجلس جماعي. إنه عنوان لعلاقة لم تتضح بعد بين السيادة الشعبية ، وكافة مراكز إنتاج القرار في بلادنا، بين الإيمان القوي بأن الشعب فعلا سيد قراره من خلال الديموقراطية التمثيلية، وبين التوهيم بأنه في حاجة دائمة الى وصاية تملي عليه مصالح.. الذين يضعون أنفسهم أوصياء عليه. إن الذي يقرأ بتمعن رسالة القباج، سيعرف أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الصبر الذي دام، كان على أشياء رهيبة فعلا. وقبل ذلك ، لا بد من القول إن الاستقالة جاءت لأن الحديث المباشر فيها ، أكبر من أن يقبل الاتحاديون حشره في التصفيات السياسية أو الانتخابية، وأكبر من أن تنسف أخلاق الدولة لأجل أمور خاصة، وذات علاقة بالأشخاص أكثر مما هي في علاقة مع الدولة ورمزها. لقد بدأت المضايقات ، من حرمان توزيع الدفعات الخاصة بمساعدة المعوزين ( نعم توزيع الدفاتر) بادعاء أن ذلك شأن سام ولا علاقة لممثلي السكان به، ولم يتوقف عند الضغط ومحاولة إرشاء المنتخبين لإسقاط القباج بالرغم من الاغلبية التي حصل عليها. لماذا كل هذا التكالب؟ هل كان القباج والاتحاديون يوزعون بينهم خيرات المدينة، ولم «يقتسموا» مع الآخرين؟ أبدا... الواقع هو أنهم لم يريدوا سوى أن تبقى ثروات المدينة ووعاؤها العقاري للسكان فقط، وأن يظل التحكم في هذه الثروة بيد الذين اختاروهم فقط، وأن الترضيات والتسويات الاخرى لا مقام لها عندما يتعلق الأمر بممتلكات المدينة الشهيرة في بلادنا. وكان أكبر مثال هو محاولة تحويل ملك عمومي الى بقعة للاستثمار الشخصي والربح الخاص، ولما رفض القباج ذلك، في هذه السنة بدأت لجن التفتيش. وقبل ذلك ، توالت الاستفزازات منذ 2004، أي في التجربة السابقة للمجلس، حيث كان من الممكن «اختراق بعض عناصر التحالف التي انتهت إلى الهامش والنسيان، ويراد لها اليوم أن تشكل البديل المنتظر. وفي صلب هذاالمخطط، كان التعمير والعقار والاستفادة من تراب اكادير، هو الرهان والمعركة. طبعا لم تدخر أية وسائل، بما فيها الوسائل المشروعة ، مثل لجن تقصي الحقائق والتفتيش (زعما زعما)! وابتداء من يناير من هذه السنة، وصل السيل الزبى، عندما بدأت «التحرشات» من هنا وهناك ، من الأعلى والأسفل، من الشرق والغرب، ومن الارض ومن السماء. رسالتها واحدة» «غادي نصيفطوك للحبس». نعم السي، إما اعطينا بقعة وإما تدخل الحبس. ومن هنا جاءت لجن التفتيش، »خيط من السما». وقلنا لا بأس في الامر، إذا وجدوا في جورب القباج خيطا زائدا، فليذهبوا به الى .. الگولاگ، بل ليعودوا بنا، طواعية، الى تازمامارت وليبحثوا له عن حراس من الدرك الاسفل لجهنم. والآن ها هو القباج يصرخ ، بل يستقيل من الرئاسة ليطالب بنشر نتائج هذه اللجن التي تقاطرت على مدينة اكادير كما لم تفعل مع المناطق الأخرى منذ الاستقلال!! هل رأيتم رئيسا يقوم بتسخينات انتخابية (گالك!!) بتقديم الاستقالة من أجل أن تعلن نتائج لجن التفتيش التي استهدفته؟ اللهم أكثر من أمثاله!! فهل يستطيعون أن يقدموا لنا أحدا من محظوظيهم ومن الذين يرعونهم سياسيا وإداريا، له هذه القدرة والشجاعة؟ نطرح السؤل ونحن نعرف الجواب.. لقد ابتلينا في هذا البلد بتحالف مصالحي ومركب إداري، تجاري، مالي اقتصادي سياسي يريد أن يوزع البلاد على هواه. ويريد أن يجعل من الجميع مجرد حراس لمصالحهم، وإذا ما أبان مغربي ما عن مغربيته ، فهو منبوذ. إن المطروح، من وراء كل ما حدث هو : 1 -احترام السيادة الشعبية، احتراما لا هوادة فيه، وإذا لم يحصل ذلك، فإننا سنجد أنفسنا دوما أمام نماذج التسيير كما في الدارالبيضاء أو في غيرها من كبريات المدن التي تعرف خللا لا يوصف. واحترام السيادة الشعبية هو التأويل الديموقراطي للدستور وليس غيره، ولا يمكن أن تفوض هذه السيادة لأي كان، نقول لأي كان، لأن الشعب هو مصدر الشرعية كما نصت روح الدستور. 2- لقد علق القباج الجرس،ونشكره على ذلك الى جانب إخوته في التجربة الاتحادية الاشتراكية المتينة، وهو ينبهنا ، منذ 1 غشت الى أن مغرب تنزيل الدستور قد بدأ، وأن ضياع هذه الفرصة هو ضياع الحلم الذي تولد يوم الاستفتاء على مغربنا الجديد. 3 -أن حادثة الولاء ، تعني أن هناك من لا يرعوي في توريط الرموز السامية للدولة المغربية في قضايا حساباتية ، تنم عن التفاهة، وهو ما يدفعنا جميعا، مواطنين وقادة سياسيين وباحثين ورأيا عاما، الى البحث فعلا عن تحرير الدولة ورموزها الثابتة من بعض رجال الدولة أنفسهم. 4 - لن نبالغ إذا قلنا أن تقاليد سياسية يجب أن ترحل ، وأن المغرب اليوم يريد ««لوجيسييل»» جديدا في تدبير العلائق بين مكونات الحقل الوطني، لا يسمح بترتيبات هزيلة للعواطف الشخصية داخل الحقل السياسي المغربي. هناك أخلاق للدولة ظل المغاربة يحترمونها، ولا يمكن أن نضعها كل مرة موضع قياس ظرفي وعابر، لأن ذلك يضر بالدولة، ككيان وكجهاز وكقيم وثوابت. وقد آن الأوان لكي تنتهي «دولة الفشوش»! دولة من يريد شيئا يحصل عليه أو يقلب المغرب على رأس المغاربة، ويغيب من يشاء ويحرم من يشاء من طقوس التعلق برموز الدولة ومكوناتها. هناك اليوم دستور جديد ، يرفض أولا دولة الريع والامتيازات والمحسوبية، أيا كان مصدرها أو غطاؤها، ويرفض أيضا دولة الأوامر والترضيات، وينص صراحة على قدسية التصويت الشعبي. وأن الذي يختاره الشعب ، لا يمكن أن يكون هو الرجل الذي توجه إليه المسدسات والقنابل . في كل يوم وحين. وسنكون سعداء عندما سنرى أن النزهاء والذين يخدمون بلادهم ، يتم تكريمهم وتشجيعهم والاحتفاء بهم ، وأن المشتبه بهم ، والمتابعين أمام القضاء في قضايا الاحتفاء هم الذين «تطير» دعواتهم ويشعرون دوما بأنهم غير مرغوب فيهم في كل المحافل، بالأحرى في محفل مهيب وسام مثل محفل الولاء. إن الفساد هو الابن الطبيعي لدولة الفشوش، ولا يمكن أن يتعايش معه مغرب المنعطفات الصعبة والمبهمة والحبلى بكل الاحتمالات.. مغرب كان الجواب السليم عليه هو الدستور،الدستور الذي التقى حوله ملك البلاد وجزء كبير وأساسي من الشعب المغربي الأصيل والأبي ، والذي لا يمكن أن يسلم باستمرار دولة الإهانات. إن الجواب السليم هو الدستور وليس الهواتف المزمجرة والآمرة بالبقع والمنتزهات، والحاملة للوعيد والتهديد.