يكثف سؤال «من نحن؟» كل جدل وتوتر قضايا «الهوية». من نحن؟: جماعة مؤمنين؟ سلالة خالصة لعرق نقي؟ مواطنون تعاقدوا على دولة القانون والولاء المدني للوطن الواحد؟ مسلمون، أم عرب أو أمازيغ، أم مغاربة منخرطون في مغامرة إنسانية أشمل؟ سؤال يحيل الى آخر: ما «الوطن»؟ بوثقة ذكريات مشتركة لأجيال تقاسمت الآلام والحروب والأحزان والأفراح والرموز والأساطير؟ شراكة أحلام تنهض على رغبة ملحة في العيش المشترك وعلى إحساس قوي بالمصير المشترك؟ قومية مكتملة التشكل أم مجرد محطة عابرة في أفق محطة قادمة، على مرمى حلم أو وهم، قد تكون: أمة الإسلام، وطنا عربياً أو بلاد تامزغا..
الدستور ليس بعيداً عن ما قد يبدو «قلقاً ثقافوياً» الدستور ليس مجرد خريطة للصلاحيات وهندسة للمؤسسات، إنه تدوين لروح الأمة، ترجمة لهويتها، تجسيد للقيم وللمشترك الإنساني والسياسي لشعب ما
هنا كذلك فلا مجال لتربية الأوهام، إن الهوية ليست بالتأكيد مجرد ديباجة إنشائية في تصدير الوثيقة الأسمى، إنها قبل هذا الإقرار القانوني والسياسي، خلاصة مركزة للتاريخ وللسياسة وللجغرافيا، للدين واللغة والثقافة، بالجمع وبالمفرد، لذلك فهي دائماً متحولة، دينامية ومفتوحة على المستقبل
إن تمثل شعب ما حول ذاته، يختلف من جيل الى الذي يليه، يختلف من حالة السلم الى حالة الحرب، من حالة الاستبداد الى حالة الديمقراطية لقد كان على الاستعمار، موضوعياً، أن يعيد بناء التمثل الجماعي الذي يعرف به المغاربة أنفسهم، من خلال «وطنية» مغربية، بروافد دينية، لغوية وثقافية محددة ببصمات وذاكرة النخبة ،وبأجواء الصراع مع الآخر/ المستعمر ثم كان لهذه الهوية أن تترسخ بآثار المدرسة الموحدة والإعلام الرسمي والاندماج المجتمعي وتوجهات الدولة الوطنية، بعد 1956
على أن التدافع الثقافي الداخلي، في مغرب ما بعد الاستقلال، وسياق التحولات الديمقراطية، وتصاعد خطابات الحقوق الثقافية والانفجار العالمي للهويات، سيثير الانتباه الى الحاجة للتدبير الديمقراطي لقضية الهوية في إطار احترام التعدد خدمة للوحدة الوطنية، وهو ما انطلق مع مسلسل المصالحة مع الثقافة و اللغة الأمازيغية فماذا عن الإسلام وعن المرجعية الإسلامية؟ يقدم القانون الدستوري المقارن، في العلاقة بين الدين والدولة، نماذج تتوزع بين الدولة اللادينية والدولة الدينية ،وبين هذين النموذجين المتطرفين تمة صيغ توفقت في الجمع بين مقتضيات الحرية والديمقراطية وبين مقتضى تقرير وضع خاص لديانة الأغلبية إن دساتير النرويج وفنلندا والدانمارك تنص على الدين الرسمي، كما أن المسيحية الأنجليكانية تعتبر دينا رسميا لانجلترا
مغربياً لابد من القول، إن الحديث عن المملكة كدولة إسلامية، يحتمل لبساً واضحاً إذ لم يكن في بال واضعي دستور 62 أن هذه العبارة ستصبح شعاراً يختزل البرنامج السياسي لحركات الإسلام السياسي الأكثر تشدداً، في حين فإن مضمون احترام البعد الإسلامي كرافد أساسي من روافد الهوية، وهو أمر ليس مثار خلاف، من الممكن التعبير عنه من خلال مقولة «المغرب بلد مسلم» المؤكد ،هنا ،أن جزءا من الحركة الاسلامية المغربية دشنت لدخولها زمن الشرعية،بالظبط من مدخل نقد مقولة "الدولة الاسلامية"،هذا مانجده في مراجعات الثمانينات داخل ما تبقى من الشبيبة الاسلامية، أو بصورة أقوى في أدبيات البديل الحضاري والحركة من أجل الأمة، بل وحتى في إحدى الافتتاحيات المنشورة أخيراً في موقع جماعة العدل والإحسان حول الدولة المدنية
إن الدولة المدنية ليست دولة لادينية بالضرورة، إنها لا تعادي الدين، بل قد تجعله جزءاً من الهوية الجماعية للأمة وللوطن، كما قد تجعل من شرعيتها ووظيفتها حماية دينها الرسمي والحرص على تأمين ظروف ممارسة شعائره، لكنها في المقابل، لن تجعله إيديولوجيا للحكم، غطاءا سماوياً لقرارات السلطة واختياراتها، لن توزع المواطنين على خانات: المؤمنين، أهل الذمة والكفار ،ولن تختزل فكرة الانتماء للوطن في رابطة الديانة
ان الحرص على مطابقة الهوية مع انتماء واحد، ديني أو إثني أو قبلي أو عرقي، معناه الانزلاق نحو ما يسميه أمين معلوف بخطر «الهويات القاتلة» إن هويات بلون واحد، بانتماء أحادي مغلق ،معناه مواطنة معاقة فالوطن ليس قبيلة ولا ديناً. تاريخياً لا يبدو مطلب فصل الدولة عن الدين، مطلباً مطابقاً لحاجة المرحلة في سياقنا السياسي و الثقافي و المجتمعي، لكن في المقابل، فإن فصل الدين عن السياسة، داخل الدولة يشكل عنواناً واضحاً للانخراط في منطق الدولة المدنية بهذا المعنى، فإن الحقل الديني برعاية مؤسسة إمارة المؤمنين يشكل مصدراً للشرعية الدينية، دون أن يكون حقلا بديلاً أو وصياً أو متعالياً عن الحقل السياسي كمعبر عن الشرعية التاريخية والديمقراطية، وكمجسد للتعاقد المدني ولدولة القانون إن اعتبار المملكة المغربية دولة مدنية، معناه اعتبارها دولة مواطنين، يحتكمون للقوانين البشرية، يتعاقدون على تدبير فضائهم العام بناء على تنافس انتخابي بين مشاريع بشرية، وضعية، نسبية، لا أحد فيها يحتكر المقدس والمطلق، ويؤسسون لقيمة المواطنة كرابطة مدنية للانتماء، لممارسة الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الدين، الطبقة، اللغة، اللون، العرق أو الجنس
عموماً، فسؤال الهوية اليوم، ليس أمراً بسيطاً ستحسمه توافقات شكلية حول عبارات غامضة داخل الوثيقة الدستورية إنه سؤال يوحي بالتوتر والتمزق، إنه انعكاس ارتدادي واضح لمسار العولمة ،التي انطلقت بفرضية سادجة حول التنميط والنمذجة، لتنتهي بانفجار قوي للهويات، وعودة صاخبة للإثنيات المقموعة وللأصول المنسية وللأقليات والديانات التي ظلت كامنة لذلك، فإن التلويح بالمسيرات المليونية في هذه القضية، لايبدو الحل الأنسب ثمة شعوب خاضت أكثر من ذلك: حروباً أهلية تساوى فيها الأخضر باليابس، ومع ذلك، لم يتمكن لا ركام الجثت ولا دماء الضحايا من غلق جراح الهوية وتمزقاتها
ليس ثمة بديل عن الحوار، شعوب عديدة لم تخجل في محطات من حياتها من طرح السؤال الذي يبدو بسيطاً، بل مفرقاً من المدرسية: من نحن؟ كي ترافق تحولات هويتها الجماعية بما يكفي من الإنصات والحوار العمومي: أمريكا بعد 11 شتنبر، فرنسا على ضوء تحولات الهجرة وقضايا الإسلام في بلد الجمهورية والعلمانية وحده الانخراط في العصر من بوابة المشترك الإنساني، من مدخل حقوق الإنسان، الحرية، الديمقراطية، المواطنة، سيسمح بتأطير النقاش حول الهوية والخصوصيات قد يعلن بعضنا تفضيله للأمامة على الملكية البرلمانية، وقد يؤمن البعض منا بولاية الفقيه أو بالحلاقة، بأن تحكم السماء عوضاً عن الاقتراع العام، النصوص المقدسة عوض قوانين البرلمانات
لكن ليس من المقبول أن نجعل من المفاضلة بين التيوقراطية والديمقراطية، مسألة للتدافع الجماهيري، لمنطق الأغلبية والأقلية، لموازين القوى بين المسيرات والمسيرات المضادة الديمقراطية ليست مجرد أرقام بكماء وحسابات عددية، إنها قبل ذلك قيم وثقافة وفكر و مرجعيات. لذلك، ففي مجتمعات لم تعش ثورات ثقافية ولا عرفت إصلاحاً دينياً عميقاً، ليس تمة ضمانة غير الإقرار بمنطق الدولة المدنية كثابت مركزي وكخيار غير قابل للمراجعة
نعم، إن سؤال الهوية، سؤال غير قابل للالتفاف، لكن التفكير فيه لابد أن يتأطر بمحددات أربعة: الإقرار بالانتماء للمشترك الإنساني الديمقراطي، الحرص على الوحدة الوطنية، الإيمان بمسألة الدولة المدنية، العمل على التدبير الديمقراطي للروافد المتعددة لانتماءاتنا الجماعية ذلك ما يجعلنا جديرين بأن نكون فعلاً «مغاربة هذا العصر»