في الفقرة الثانية من تصدير مسودة المراجعة الدستورية لمغرب 2011 يتم تحديد هوية البلاد من خلال عبارة "المملكة المغربية دولة إسلامية" وهذا منطلق عام يضعنا أمام حقيقة صريحة هي أننا أمام دولة مغربية ثيوقراطية بكل معاني الكلمة، وأن الدين هو قوام وجودها التاريخي والاجتماعي وإحدى غاياتها ومثلها، وهو الفاعل المحوري في صناعة كل تجليات الحياة الاجتماعية، أي أن الأمر يتعلق بكل وضوح بتكريس الدين كمرجع أول وأخير تستمد منه "أشياء" الحياة شرعيتها وقيمها ومعاييرها الأخلاقية والسياسية والثقافية. وتبعا لهذا فإن دستور 2011 لم يبتعد تماما عما كرسته الدساتير المغربية السابقة التي أضفت في كل مرة الشرعية الدينية الإسلامية على الدولة، مما يعني أن النظام حافظ على إستراتيجيته في التعلق والتحصن بالشرعية الدينية، واعتماد الدين عاملا أساسيا وحاسما في وجوده واستمراريته، وأن استبداده الرمزي المرئي واللامرئي سيظل الدين أداته الفعلية. إن العبارة الاستهلالية للفقرة الثانية من التصدير بالصيغة المشار إليها تشوش بقوة على ما تضمنته الفقرة الأولى من التصدير التي يتم التأكيد فيها على " مواصلة إقامة مؤسسات دولة حديثة" إذ كيف يمكن إنشاء مؤسسات دولة حديثة - بالمعنى الحقيقي والفعلي للدولة الحديثة- ضمن إطار هذه الدولة الدينية التي بمقدورها أن تحطم هذه المؤسسات في أي لحظة ما لم تكن مشدودة إلى قوة الدين وشرعيته، وقد لا نغالي إذا قلنا إن هذا الخيار الدستوري هو خيار "طالباني"، وغير قادر على أن يستوعب أو يواجه التحديات التي يواجهها وسيواجهها المجتمع المغربي في ظل المتغيرات الجذرية التي يشهدها العالم، لأنه ببساطة لن يؤمن شروط "المجتمع الحداثي الديموقراطي" الشعار الخادع الذي غدا بضاعة رائجة لدى كثير من الجماعات السياسية التي تصطاد في مياه التحولات والمخاضات التي يشهدها المجتمع المغربي. وقد نتفهم لدرجة ما طريقة الإصغاء التي اعتمدها صانعو مسودة الدستور وخضوعهم لآليات الابتزاز التي حركتها الجماعات ذات النزوعات الطالبانية التي تبرر الحاكمية المطلقة للعقل الديني ولا ترى في تجربة التحديث في بلادنا غير مظهر للردة والكفر والانحراف، ولكن ذلك لا يسوغ أبدا بناء دستور وطني يضمن أو يقوم على الولاء لجماعة دينية أو سياسية معينة، لأنه ينبغي أن يكون شكلا من أشكال "الممارسة الجماعية" التي يجد فيها كل مواطن ذاته وخصوصياته وحقوقه وواجباته، وأن يكون أداة لترسيخ قيم ومثل جماعية تهم الجميع، و لاتدعم توجها سياسيا أو ثقافيا أو دينيا أو إيديولوجيا أو عرقيا محددا، لقد كان مأمولا أن تكون صيغة الدستور فوق الحسابات السياسية والدينية الضيقة ولكنه بهذا يختار الطريق الصعب، لما ينطوي عليه بناء نظام الدولة على مرتكزات دينية تلغي أي شكل من أشكال الخروج عن نمطيتها وإطلاقيتها من أخطار محدقة، لعل في مقدمتها إعاقة عمليات التغيير والتجديد والتصدي لفكرة التقدم والتفاعل أو التعامل الإيجابي مع مقتضيات ومتطلبات العصر. وفي آخر الفقرة يتم العودة إلى هذه الهوية الدينية، بإصرار أقرب إلى القسرية والترهيب ويتم التأكيد "..أن الهوية المغربية تتميز بتبوأ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها" والصدارة تعني كما هو معروف الأسبقية والأولوية والأفضلية والامتياز والمقدم على كل شيء، أي أن الدين يتحول إلى مرجعية مطلقة للهوية والدولة ويلغي أية عناصر أخرى عالقة بهذه الهوية، وسلطته هنا مطلقة ولا جدوى لسياق التوازنات التي صيغت قبل العبارة، ولا معنى لما يليها من مفاهيم وقيم مثل: الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار.. لأن هذه القيم في ظل المطلقات الدينية المتسامية والمستبدة تفقد أية فاعلية لها على صعيد الملموس. في تماه مع الهوية الدينية للدولة، الهوية الوطنية كذلك دينية، لكنها قائمة على تلاحم وتلاقح وتكامل وتفاعل هويات متعددة يتولى الدستور تصنيفها وترتيبها حسب ما يلي: 1 – المكون العربي – الإسلامي: وهو المقدم، ويحتل الصدارة.وهذا يؤكد مجددا وبوضوح البعد الديني للدولة بصيغة تتوخى المزيد من التأكيد والإثبات والتثبيت، وقد اقترن المكون العربي هنا بالإسلامي وكأنهما وجهان لعملة واحدة، مع أنه لا يبدو أن الضرورة تستلزم إعادة توظيف صفة الإسلامي، ما دامت الدولة إسلامية، عدا إذا كان الأمر يعني إبعاد أي التباس في لفظة "العربي" والعمل على تسييجه بشكل لا يفتح أي مجال للإفلات من آفات التعميم أو التجريد ليكون المراد صريحا بأن الأمر يتعلق بالعربي الإسلامي واستبعاد "العربي" غير الإسلامي أو ما شابه ذلك. 2 – المكون الأمازيغي: وهو تحصيل حاصل لأن الأمازيغ هم سكان المغرب الأصليون كما علمتنا دروس التاريخ وحقائقه ووقائعه، وأنهم أصحاب الأرض وصانعو تاريخه الطويل والعريق. 3 – المكون الصحراوي الحساني: الصحراء جزء من البنية الأساسية لتضاريس المغرب وأحد مجالاته الجغرافية الهامة، واعتبارها جزءا من مكونات الهوية المكانية والثقافية أمر طبيعي وعادي، غير أن المثير هنا هو اقترانها بالحسانية، نسبة إلى قبيلة بني حسان الذين يمثلون أكثر الهجرات العربية التي كان لها دورها العظيم في المغرب وفي شمال إفريقيا على العموم، وفي تقديرنا فإن العنصر الحساني قائم بالضرورة في المكون الأول العربي الإسلامي، ولكن مع ذلك تم تخصيصه وتمييزه، ربما لإقصاء أي مكون صحراوي آخر غير الحساني، وهذا وارد لأن أكثر من مكونات صحراوية مختلفة كان لها أثرها وموقعها المتميز في بناء الشخصية المغربية عبر التاريخ، ولكن أبعد من ذلك فالتخصيص هنا له مرامي معلومة استوجبتها إرادة احتواء الميول الانفصالية التي يخشى أن يتشبع بها سكان الصحراء. ويبدو أن الدستور يعتبر هذه المكونات الثلاث أهم وأبرز العناصر المؤسسة للهوية المغربية، وفي ظل هذا يتراجع المكون الأمازيغي ليمثل الثلث ( 1 على 3) من الهوية الوطنية، وهو ما يمكن اعتباره إجحافا في حق هذا المكون، باعتباره البعد الثابت والأصيل في بناء وتكوين الشخصية المغربية. أما عملية الترتيب فلا تخلو أيضا من توجيه مباشر أو بعد أيديولوجي وديني، إذ إن الوقائع والمعطيات التاريخية والجغرافية تستوجب أن يحتل المكون الأمازيغي الرتبة الأولى، لأن المكون العربي الإسلامي لم يبدأ أثره في الشمال الإفريقي إلا مع حركة التوسع الإسلامي إبان القرن السابع الميلادي، وبنو حسان لم يستقروا في المغرب إلا خلال القرن الحادي عشر الميلادي. على أن الهوية المغربية تتغذى من روافد أخرى صنفها الدستور كالآتي: 1 - الرافد الإفريقي: ويبدو غريبا أن تتحول إفريقيا إلى مجرد رافد لهوية المغرب، لأن الموقع الجغرافي والحيز المكاني لوجود المغرب هو إفريقيا، وهي أحد ينابيع هويته التاريخية والجغرافية والبشرية، ومعينها الأصيل والفريد، ولا يمكن في تقديرنا اعتبارها مجرد رافد لأن دلالة رافد قد تقودنا إلى إدراك مغلوط يصب في اتجاه أن المغرب قائم في قارة أخرى، بينما وجوده وكينونته مرتبطة ارتباطا عريقا وعميقا مع إفريقيا وهي ما يمنحه الكثير من المقومات التاريخية والحضارية والثقافية. إن قصر دور الطاقة الحضارية لإفريقيا وأبعادها الثقافية وآثارها وتأثيراتها في بناء الشخصية المغربية في "الرفد" لا يبدو موضوعيا لأنه يجرد المغرب من خصوصياته المكانية والجغرافية والإنسية. ولذلك يبدو طبيعيا الإقرار بانتماء المغرب الإفريقي وأن البعد الإفريقي مكون أساسي من مكونات هويته، لأنه أسبق وأعرق من انتمائه للدين أو اللغة أو ما شابه. 2 – الرافد الأندلسي: إن التنصيص على هذا الرافد لا يخلو من إحالات مباشرة أو مواربة إلى الزمن المضيء في تاريخ التوسع الإسلامي، فالأندلس رافد اعتبارا لحمولاته التاريخية المشرقة التي تعود بنا إلى أزمنة البذخ والترف السلطوي في الأندلس الفردوس العربي الإسلامي المفقود، وإلى الدور الحضاري الذي اضطلع به الإسلام والمغرب في شبه جزيرة أيبيريا، وهو إقرار باسترداد تاريخ مأهول بالشعور بالقوة والسلطة المتعالية، وعمليا فإن استعادة هذا الرافد يضمر في العمق بعدا أصوليا وقناعات "طالبانية" تبحث فقط في دورات التاريخ عما يمكن أن يرفع من شأو العطاء الخاص للسلطة والثقافة الدينية. 3 – الرافد العبري: ويستوقفنا هنا توظيف كلمة العبري، إذ لا تخلو بدورها من حمولات دلالية موجهة، يمكن القول إنها تسعى بالضرورة إلى إلغاء أية دلالات بمقدورها أن تنافس الدين الإسلامي في موقع الصدارة الذي وضع فيه، ولذلك يمكن بيسر أن ندرك لماذا مثلا لم تعتمد لفظة اليهودية، على الرغم من أن الدارسين يذهبون إلى أن لفظة اليهود أشمل من لفظة العبرانيين لأنها تشمل العبرانيين جميعا الأصلاء منهم والدخلاء، ومن هنا يتكشف البعد الكامن وراء اعتماد العبري، لأنه أصلا يحيل إلى منظومة تاريخية رسخها الإسلام حين التصريح بأصوله الإبراهيمية، وتاريخ العبرانيين يبدأ بإبراهيم وهجرته من بلاد الرافدين، أي أن المنطق الخفي الذي تحكم في إرادة صياغة الهوية المغربية كما يظهر يعود دائما إلى المرجعية الكبرى التي يشكلها الدين الإسلامي، وهذا واضح لأن العبرانيين ،كما يقول المؤرخون، هم مزيج من جماعات مختلطة من شعوب آسيوية سامية، ولا نعتقد أن صيغة الدستور تستهدف هذا الوجه الدلالي، بقدر ما تستهدف الوجه الآخر الذي يصل العبرانيين بإبراهيم، الذي يمكن اعتباره مرجعية ثابتة وأساسية في الديانة الإسلامية،أي أن الأمر يتعلق مرة أخرى بدين إبراهيم كرافد.إضافة إلى أن لفظة اليهود لها وقع ثقافي وديني وعرقي سيء في الثقافة الإسلامية، وتحفل كثير من الأدبيات والنصوص الإسلامية في هذا الباب بكل ألوان الاستعداء عليهم ونبذهم. 4 – الرافد المتوسطي: واعتبار الانتماء إلى مجال البحر البيض المتوسط مجرد رافد للهوية المغربية لا يبدو كذلك موضوعيا، إذ إن المغرب ينتمي من حيث الحوامل السكانية والمكانية والتاريخية إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط، وهي جزء لا يتجزأ من هويته التاريخية والحضارية، والبحر كان يسمى قديما بحر المغرب. وعلى كل فإن استبعاد الأصول الهوياتية الإفريقية والمتوسطية و الوقوف بهما عند حدود الرافد فحسب، لا يرسم غير معالم توجه دستوري يتوخى تجميد أو إلغاء كل طاقات وإمكانات المغرب الحضارية في مداها الشمولي، إذ هما في الحقيقة أبرز عناصر مقومات الهوية المغربية وتحولاتها على مر التاريخ. في السياق ذاته نشير إلى مسألة أخرى هي أن الدستور تعامل مع الهوية المغربية وتاريخها وسيرورتها من منطلق غير تاريخي وبمنطق انتقائي صريح إذ لا يتعامل مع عناصرها إلا ابتداء من تاريخ التوسع الإسلامي وفرض سيادته على الشمال الإفريقي، واستبعاد أية مقومات قبل هذا التاريخ، فهل يمكن إنكار أو تجاهل الأثر الفعال للوثنيات المختلفة وللديانة المسيحية وللحضارة الرومانية والحضارات الأخرى التي سادت في الشمال الإفريقي وفي المغرب بالذات، والتي ما تزال آثارها شاخصة وتدل على عظمة وقوة هذا الأثر.كما أنه لابد من الإشارة إلى أن مسالة التفريع والتفصيل في عناصر ومقومات الهوية، قد يحمل على المدى البعيد في أحسن الأحوال مضاعفات غير محسوبة العواقب، تفقد معها الكلمات الفضفاضة التي اعتمدتها صيغة الدستور: الوحدة الوطنية، تلاحم مقومات الهوية، انصهار كل المكونات..، أية دلالات إيجابية،فالتشديد على الإقرار والاعتراف بالوجود الفاعل والمستقل والمؤثر لكل مكونات الهوية يتعارض بشكل أو آخر مع سياق دلالات هذه الكلمات ويغذي بشكل قوي احتمالات الانزلاق نحو التجزئة والشعور بالتميز والبحث أو الدفاع عن آليات تضمن الوجود المستقل لبعضها عن البعض.