أحب الكذب والكذابين كثيرا. ولا أفهم إصرار الأديان والأخلاق على التحذير من هذه العادة، التي ليست سيئة، كما يوحي بذلك هذا الإجماع حولها. شخصيا الكذب يشفيني، ويحدث لي أن أبحث عنه، وأجملُه الكذب الذي يمتزج بالحنين. وعندما نبالغ في الكذب نصنع الأساطير، ثم ونحن نتذكر الماضي، نخلق حكايات لا تصدق من أجل الحاضر والمستقبل. لم أعد أذهب كثيرا إلى المكان الذي ولدت فيه، في عين السبع بالدار البيضاء، وعندما أذهب، أبحث عن الكذابين، هؤلاء المنقطعون عن الحاضر، الذين يعانون من تحول هذه المنطقة إلى مسخ، المنعزلون، الذين لا يكلمون أحدا، والذين يعيشون في الماضي، ولا يقبلون العالم كما هو الآن، ويرفضون عين السبع الحالية، البشعة، والفقيرة، والضاجة، والشريرة، وينتظرون شخصا يعرفونه، ومستعدا لأن يصدقهم، مهما حكوا له، يستمع إليهم كي يكذبوا عليه. لم يبق لهم مكان يذكرهم بحيهم إلا البارات، وقد تغيب أعواما وتجدهم في أماكنهم التي تركتهم فيها، في حانة بوليو أو لونابارك، الوحيدتان المتبقيتان في منطقة كانت تعج بالفرح والسكر والملاهي والكباريهات وأندية الكرة الحديدية. لا يتحدثون أبدا عن الحاضر، إنه غير موجود بالنسبة إليهم، وأنا أحبهم، لأنهم يثقون في، ويعتبرونني شخصا له علاقة قرابة بذلك الماضي، يحكون له، ويحكون، ويكذبون، ويبالغون، وأنا كلي آذان صاغية. في الخمسينات أو الستينات من عمرهم، ومازالوا يعيشون كما الشباب، جنتلمانات ومتأثرون بالماضي وبالفترة التي كان فيها الفرنسيون في عين السبع. يقول لي أحدهم في بار بوليو: أنت لا تذكر يا حميد الكباريه الذي كان على بعد خطوات من منزلكم، أمام المسجد، ويتابع هل تعلم أن أبي تشاجر فيه مع مارسيل سيردان، طبعا أنت تعرف مارسيل سيردان، الملاكم المشهور. جاء سيردان إلى كباريه La Guinguette fleurie (الصورة)، ومعه المغنية إديث بياف، وبعد أن سكر الجميع، قام والدي ورقص مع بياف، فلعبت الخمر والغيرة برأس الملاكم، وجر عشيقته بعنف، فغضب والدي ووجه إليه لكمة قوية أسقطته أرضا. بعد ذلك حمله الفرنسيون معهم بأنف مكسور وكدمات في وجهه، وظلت بياف معنا في عين سبع لمدة، تتسكع مع والدي وأصدقائه في النهار، وفي الليل يذهبون إلى "لاغانغيت فلوري"، فتغني لهم بياف، وينفحها السكارى الأوراق المالية، وهي سعيدة. وأنا أصدق كل ما يقال، وأطلب مزيدا من الكذب، لأني أعرف أنه بالكذب يحيا الإنسان المريض بالحنين. لو لم يكن الكذب لانتهت حياة هذا النوع من الناس، إنهم يعيشون من أجل ماض لم يعد موجودا، ويروون القصص والوقائع، التي نصفها حقيقي، ونصفها الآخر محض خيال. لا أحد يكذب ابن حينا السكران، بل الجميع يستمعون إليه، ويؤكدون كلامه، حتى أنا لم يكن بإمكاني إلا أن أصدقه، لأن ذلك الماضي يمنحني نوعا من الثقة والاطمئنان، وبأن الجنة كانت في الماضي، وما علي إلا أن أحن إليها، وأعود، كلما شعرت بالضجر والقرف، إلى بار بوليو أو لونابارك، أمر على المكان، وأغادر بعد ذلك إلى الواقع. كل الذين عاشوا تلك المرحلة الجميلة من تاريخ عين السبع يعيشون بالكذب، ويشربونه مع النبيذ والبيرة، ثم يذهبون بعد ذلك إلى النوم، في الليل، في الفراغ، كي لا يروا عين السبع الحالية. قال لي شخص آخر: لقد جاء جاك بريل وغنى في La Guinguette fleurie، وغنى شارل أزنفور وجيلبير بيكو أيضا، ونجوم آخرون، وأقسم بالله أنه حضر لشارل أزنفور وهو يغني، رغم أن الفترة الذهبية لهذا الكباريه، كانت في الخمسينيات، وهو حينها كان طفلا. لكن الكذب جميل، وممزوجا بالخمر، يجعلك تنسى أنك تكذب، بل تصبح كمن يتناول مهدئا، كمن يشرب مقويات ليواجه الحياة. للكاتبة الفرنسية إنغريد ناوور رواية صغيرة عنوانها"بار الكذابين"، تحكي فيها عن سفرها لقرية، بعد أن منحها صديق لها مفتاح بيته، وأوصاها بزيارة ذلك البار. شخصيات كل حياتها في بار الكذابين، لهم أسماء حركية خاصة بالمكان، وكل واحد منهم يملك حكاية ويكذب كي يعيش، وقد يكفون عن أي شيء إلا الشراب، وخصومهم هم أولئك الذين لا يشربون إلا الماء، يحكون عن الثورة ويشتمون باريس وحياتها المتصنعة والرهيبة، ويلجؤون حين المرض إلى طبيبهم المدمن، الذي يحبونه، لأنه لا يأمرهم بضرورة الانقطاع عن الشرب، بل يقدم لهم وصفات خمرية للعلاج، وينصحهم بقنينة واحدة، وبكأس واحدة، وحين يستمرون ولا يتوقفون عن الكرع، يقول لهم لا بأس، لا بأس، اشربوا، اشربوا، ويبررون حياتهم بالأغاني والشعر وببودلير الذي كتب"شخص لا يشرب إلا الماء، له سر يخفيه عن أقرانه"، ويروون الحكايات تلو الحكايات، وأغلبها لا يصدق، وممتعة، وإنسانية، وكذبها آسر ومضياف، وهو الذي جعل الشخصية الرئيسة في الرواية لا تمل بار الكذابين، وقد غادرته وفي قلبها غصة، عائدة إلى جحيم الواقع والصدق والروتين والعمل القاتل. لنعد إلى بار الكذابين في عين السبع، الذين يحكون لي الحكايات وأنا أوافق عليها وأصدقها، رغم أني لم أعش معهم تلك الفترة، لكني أنتمي إليها وشهدت أطلالها. وأنا صغير كان La Guinguette fleurieعبارة عن آثار، وكانت مازالت تحتفظ باسم "لا غانغيت"، الذي ننطق به دون أن نعرف معناه وتاريخه، وكنت مع أصدقائي الصغار، نتسلل خلسة إلى كاباريه لونابارك، خلف البار، الذي مازالت خشبة مسرحه موجودة إلى حد الساعة، نصعد إليها، بعد أن نصنع كمنجات من جالونات طوطال أو شيل، ونغني ونرقص دون إديث بياف ودون خمر ودون شارل أزنفور، ودون أن نتعارك مع مارسيل سيردان، ودون أن نسقطه أرضا بالضربة القاضية، ودون أن تتركه إديث بياف وتقضي الليلة معنا. كما أني لعبت لسنوات الكرة الحديدية في ناديLa maison basque، المطلة على الشاطىء، والتي كانت ملهى شهيرا في عين السبع، تقام فيه سهرات ويأتي إليه نجوم ومشاهير فرنسيون. هذا ما يرويه لي أصدقائي في بار الكذابين، ولأني منذ مدة لم ألتق بهم، ولم أزر بارهم، فأنا في أمس الحاجة اليوم إلى الكذب، أتذكر الأطلال، وأختلق القصص، لأستمر على قيد الحياة. آه نسيت، لقد حكى لي ذلك الشخص الذي هزم والده مارسيل سيردان، وأوقعه أرضا في بيست لا غانغيت فلوري بعين السبع، أن إديث بياف دخلت إلى منزلنا، وأعدت لها أمي قصعة كسكس، وغنت لها، وأخبرتها وهي تبكي بمغامرات الملاكم الشهير، وخياناته لها، وأنه كلما رأى امرأة جميلة أو راقصة في ملهى، أهملها وتركها وحيدة مع رجال غرباء، إلى أن مات في تلك الطائرة. ما أجمل الكذب أكذب وأكذب وأكذب ولا أشبع وفي لحظات الحزن، وكلما استبد بي الحنين، أبحث عن الكذب، وأذهب إلى عين السبع، وألج إلى بار الكذابين، لأجمع منه ما أحتاجه، وأشحن روحي بزاد الكذب والحكايات، وكلما بالغ السكيرون، وكلما اختلقوا القصص، وزادوا على الواقع بهارات الكذب، تظهر علي السعادة، وأصدق كل كلمة يقولونها، كل واقعة، كل عراك، وأضيف على كذبهم كذبا، وأصنع الأساطير العظيمة والأبطال والمعجزات من الكذب، الذي لولاه لانتهت حياة عدد من الناس في أماكن مختلفة من هذا العالم، ولذلك لا أفهم كل هذا التحامل عليه، ولا أتخيل شخصا يستطيع أن يواجه الحياة دون أن يكذب. والدتي لا تذكر أن إديت بياف تناولت الكسكس في منزلنا. أسألها ولا تذكر. لكني أنا أتذكر ذلك جيدا، كأنه اليوم، في يوم جمعة من خمسينيات القرن الماضي، استضفنا المغنية الشهيرة، وأكلت الكسكس، حتى جاء مارسيل سيردان، وأخذها، وبمجرد مغادرتها لمنزلنا، كانت بياف تقبله وتعتذر، وتضربه على صدره، وهو يهدىء من روعها، ويدعوها إلى كأس في بار بوليو، بينما هي لا تكف عن البكاء، ولا تكف عن تقبيله.