شكل المغرب عبر التاريخ فضاء جذب للكثير من الوافدين عليه، فهناك من اتخذه محطة انطلاق نحو فضاءات أخرى، وهناك من فضل الإقامة فيه. وتحتفظ ذاكرة أزقة ومقاهي وفنادق أشهر المدن المغربية، مثل طنجة، ومراكش، وفاس، والصويرة، بسجلات كاملة عن العديدة من الشخصيات الأجنبية المعروفة على خطى إيف سان لوران، وجاك ماجوريل، والعديد من فرنسيي الجزائر المعروفين باسم "الأقدام السوداء" اختار الملاكم الفرنسي الشهير، مارسيل سيردان، العيش في المغرب، وتحديدا في مدينة الدارالبيضاء، التي حل بها رفقة والده الإسباني وأمه الفرنسية ابتداء من سنة 1920. في سنة 1924 انضم سيردان إلى أحد نوادي الملاكمة، التي كان يشرف عليها أحد الفرنسيين بالدارالبيضاء، ولعب كرة القدم مع فريق الحي رفقة العديد من الفتية المغاربة، الذين سيكون لهم شأن كبير في عالم الكرة، مثل اللؤلؤة السوداء العربي بن مبارك، وعبد الرحمان بلمحجوب، وأحمد الشهود، ولخميري وغيرهم من نجوم الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، الذين لعب معهم أيضا، في صفوف المنتخب المغربي، كما مارس رياضة سباق الدراجات الهوائية، والكرة الحديدية، التي كانت رياضة مزدهرة في ذلك الوقت، وكانت نواديها الكثيرة تستقطب العديد من المغاربة والأجانب. ظل مارسيل سيردان، خلال مساره الرياضي الحافل، يراكم الانتصارات مباراة تلو أخرى، سواء في المغرب أو في فرنسا، وتروي القصاصات الصحفية، التي كتبت عن مسار سيردان الرياضي، أنه كان يمتلك قوة خارقة من خلال قدرته على خوض ثلاثة نزالات في اليوم، في ثلاثة أنواع رياضية مختلفة، ما نسج العديد من الحكايات حول شخصيته، التي تحولت إلى أسطورة. وتروي القصاصات ذاتها، أن سيردان اشتهر بلكماته المباشرة بيده اليسرى، التي حقق بفضلها 119 انتصارا متتاليا من أصل 123 مباراة، تميزت ب 61 انتصارا بالضربة القاضية، وفاز ببطولة فرنسا للوزن ما دون المتوسط سنة 1938 وبطولة أوروبا 1939، وبعدها بطولة فرنسا للوزن المتوسط سنة 1945 ثم بطولة أوروبا 1947، وتوج ألقابه ببطولة العالم لسنة 1948 بفوزه على الأمريكي، طوني زالي، بالضربة القاضية في نيو جيرسي بالولايات المتحدة، ليدخل التاريخ من بابه الواسع. في قمة مجده الرياضي، ارتبط سيردان بعلاقة عاطفية عنيفة مع المغنية الفرنسية الشهيرة، ذات الأصول المغاربية، إديت بياف، خلدها المخرج الفرنسي كلود لولوش في فيلم "إديت ومارسيل". كانت بياف تزور سيردان في الدارالبيضاء وتتابع مبارياته المحلية والخارجية، وكان فندق ما بين القارات في زنقة كولبير سابقا، والطاهر السبتي حاليا، شاهدا على تلك الجلسات المشبعة بالرومانسية، حيث دأبت بياف على التغني بروائعها، كما شهدت جنبات سينما فوكس الشهيرة على هتافات بياف وهي تشجع سيردان في جميع المباريات التي خاضها بتلك القاعة الأسطورية، التي احتضنت مباريات في الملاكمة، إلى جانب حفلات غنائية أحياها نجوم الطرب والغناء من كافة أنحاء العالم. في 1949، خسر سردان لقبه العالمي أمام جاكي لاموطا في ديترويت، برسم بطولة العالم للوزن المتوسط، بعد إصابته بجرح في الكتف منذ الجولة الأولى، وصرح لوسائل الإعلام الأمريكية بأنه خسر معركة دون أن يخسر الحرب، وأضاف أن المباراة الثأرية، التي ستقام بعد شهر في المغرب هي التي ستحسم أمر اللقب، متوعدا بأن تكون الدارالبيضاء المتوى الأخير للاموطا. بعد يومين، استقل سيردان الطائرة المتوجهة إلى الدارالبيضاء، وفوق صخرة جبل طارق تحطمت الطائرة وقضى كل من كان فيها، وأجمعت وسائل الإعلام، التي نقلت حينها وقائع الحادث، على وجود مؤامرة ضد سيردان، خصوصا بعدما اعتبر العديد من المتتبعين، أن الحادث كان نتيجة استخفاف سيردان بالأمريكيين، وذهبت بعض الروايات إلى حد التساؤل عن سر تراجع مدربه الخاص، روب، وبعض الشخصيات الأمريكية في آخر لحظة، عن السفر على متن الطائرة نفسها، وتأكيد الصحافة الأمريكية على أن المباراة الفاصلة في الدارالبيضاء لن تجرى. خلفت وفاة سيردان حزنا عميقا في قلوب كل المغاربة والفرنسيين، الذين أطلقوا اسمه على المركب الرياضي محمد الخامس خلال تدشينه سنة 1955، وكذلك الأمريكيين، الذين أقروا بأنه أحد أمجاد الملاكمة الفرنسية، وأدخلوه متحف المشاهير عام 1958. مات مارسيل وظل البيضاويون يذكرونه بتقدير كبير، خصوصا أبناء كارتيي كوبا في المدينة القديمة، وأبناء المعاريف، وأصدقاؤه الكثيرون أمثال عبد الرحمن بلمحجوب الملقب بأمير حديقة الأمراء، والعربي بنمبارك، الملقب بالجوهرة السوداء، الذي تألم كثيرا لوفاة سيردان، والملاكم المغربي عباس حنين، الملقب ب"الكريك"، الذي لم يطق لوعة فراق سيردان ومات حزنا في شقته القريبة من مطعم مارسيل سيردان، الذي مازال قائما بشارع رحال المسكيني بالقرب من مرس السلطان وقاعتي سينما "لانكس" و"ليبيرتي" ومطعم "لاكوريدا" وكلها أماكن شهدت على علاقة الحب التي جمعت سيردان بأصدقائه المغاربة. ومن بين ما كتب حول سيردان "كان مارسيل سيردان رجلا غير عادي، جعل من الرياضة عشقا أبديا، فعاش من أجل قيمها، ومات دفاعا عن شرف المنافسة... لم يهزم مارسيل على الحلبة لكن القدر هزمه جوا، فلم يفقد لقبه العالمي بل دفن معه".