إلى رضوان الرمضاني لا كلمة تحدث في ما تحدثه كلمة"مَّا". أمي لا تعني شيئا بالعربية الفصحى. الواليدة نقولها تخلصا من الارتباط الرهيب بالأم، من خجلنا من الحب، ونقولها باردة ومحايدة لنخفي هذه العلاقة، ونخفي أننا نظل أطفالا مهما كبرنا. تصيبني"مّا" برعشة، ولا كلمة تعوضها. كل العائلة تقولها، إلا أنا ضيعت إرثي، وفرطت فيها. الحب لا يترجم، وأنا ترجمت أمي. وأحسد أفراد عائلتي، أحسد أبناء أعمامي، عندما ينطقون"مّا، بتلك الرنة، وتلك الموسيقى، فتصيب القلب، وتعني ما تعنيه. كم هي مؤثرة ومدوخة حين أسمعها، وأشعر كما لو أنني ارتكبت خيانة، كما لو أنني فرطت في أرض أجدادي. كما لو أنني قتلت نخلة، مع ما تعنيه النخلة بالنسبة إلى سكان الواحة التي جاء منها أبي وأمي. لم أتعلم لغتي ولست ندمان، لكن كلمة"مّا"ليست متاحة للجميع، وضيعتُ هذه الكلمة. مّا مّا أجريها في السر على لساني، وأتلمظ. أحسد أهلي في فكيك وفي شرق المغرب، وفي وجدة وبركان…، حينما ينطقون هذه الكلمة. بينما أنا لا أعرف كيف فرطت فيها، ولا كيف قمعتها وعوضتها بكلمة أخرى فارغة وخفيفة ومتهربة من أثر الأم الخطير على أبنائها. لا تضاهيها كلمة إلا "يما". نفس السحر ونفس التأثير، آتية من الباطن ومن التاريخ ومن الإحساس الأول ومن الطبيعة ومن المغرب. ليست أمي بل مّا مّا هي أمي، وأمي ليست هي. كان يمكن لي أن أتخلص من كل أصلي، وأحتفظ فقط بهذه الكلمة، لكني لم أفعل، ولم أحافظ على الإرث. لم تُعد رواية الجزائري كمال داود"ميرسو، تحقيق مضاد" الاعتبار فحسب للعربي المقتول الذي لا اسم له في رواية"الغريب" لألبير كامي، بل أعادت الاعتبار بالنسبة لي أيضا إلى كلمة"ما". إلى أمي. وبدل الجملة الشهيرة لأبير كامي"ماتت أمي اليوم، وربما أمس، لا أدري.."، كتب كمال داود"اليوم، مازالت مّا حية". الأدب له نفس سحر وتأثير كلمة "مّا"، ولم أنشغل وأنا أقرأ الرواية إلا بهذه الكلمة، وكلما ذكرها كمال داود، أشعر كأني بطل ألبير كامي، وأني قتلت هذه الكلمة، وأنني متهم، وأنني ارتكبت جريمة لم يحاسبني أحد عليها. أنا ميرسو آخر أنا قاتل اللغة لكني على عكسه أشعر بالذنب وأعاقب نفسي. مّا مّا الغريب أن من أعاد لها الاعتبار رواية مكتوبة بالفرنسية، ولم تظهر نشازا، كما أكتبها أنا الآن بالعربية الفصحى، بل ظهرت صادمة ومدوخة وصادقة. لم يكتب كمال داود أمي كتب مّا فانشغلت عن كل القصة وعن كل الأحداث وضربني في موضع الألم قضى علي ولم أهتم بما كتب ولم أنتبه إلى الرواية بل ركزت على أمي الواليدة مّا. لا يعير الأدب العربي والمغربي أي اهتمام لأثر الكلمات، وينشغل بالفصاحة، وبالعربية الفصحى، بينما لا شاعر ولا لغة أفصح من كلمة"مّا" كل لسان العرب لا يشرحها كل القواميس لا تقدم مرادفا لها ولا شاعر يستطيع أن يكتبها ولا قصيدة قادرة على النطق بها كما ينطق بها أهلها بشدة فوق الميم وبميم ضاغطة على القلب وذاهبة كسهم إلى قصدها.