من فندق البارون المجاور لمقر المخابرات العسكرية المصرية، التي كان يقودها يوماً ما المشير عبد الفتاح السيسي، المرشح للانتخابات الرئاسية إلى جانب الأستاذ حمدين صباحي، والتي ستجرى يومي 26 و 27 ماي 2014، كانت الوجهة إلى جزيرة الذهب المطلة على «النيل نجاشي»، كما وصفه ذات قصيدة جميلة أمير الشعراء أحمد شوقي وتغنى بمعانيها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، المكان نحن المغاربة ألفناه، لأن صاحبه الكريم الأستاذ عمر عبد الخالق، الوجه الإعلامي البارز هنا في قاهرة المعز، يحرص على أن نكون ضيوفه بقلب رحب ووجه بشوش. امتطينا سيارات الإخوة والزملاء في الاتحاد المصري للإعلام والثقافة والرياضة في اتجاه جزيرة الذهب التي كانت شاهدة على الكثير من الأحداث الفنية وغيرها. قبل أن نصل إلى هذه الوجهة، كانت عَبَّارة في انتظارنا لتخرق بنا مياه النيل الأزرق. ما هي إلا دقائق معدودة حتى كان في استقبالنا العديد من الوجوه البارزة ومن مختلف الأجيال، ضمنهم رجل مألوف، كثيراً ما قرأنا أشعاره وسمعنا صوته، وهو يناقش قضايا اللغة العربية وهموم الشعر والشعراء، إنه الشاعر والإعلامي ومدير مجمع اللغة العربية الأستاذ فاروق شوشة، استقبلنا بابتسامته المعهودة وبفرح الأطفال أيضاً، إنها كيمياء خاصة ومحبة نادرة تلك التي تجمع المغاربة بأشقائهم المصريين. هكذا نحس، وهكذا أيضاً يحسون. قبل ذلك، كان الصحافي بجريدة «الأهرام»، والمعلق الرياضي الشهير أشرف محمود، قد أسر إلى أن الأستاذ فاروق شوشة حرص على أن يكون في هذه الضيافة، ويحتفي مع الآخرين بالوفد المغربي من جمعية المحمدية للصحافة والاعلام. وخاطبني: إياك أن تضيع فرصة تواجد شاعرنا الكبير، خاصة وأن جريدة «الاتحاد الاشتراكي» مهتمة بمثل هذه الأسماء وبكل ما هو رصين. بالفعل، طرحت عليه الموضوع، فاستجاب بدون تردد، رغم رائحة الشواء التي كانت تخترق هذا الفضاء الجميل الذي يلامس مياه النيل، بصوته المميز البالغ العذوبة. فتح قلبه للإجابة عن العديد من القضايا من الشعر إلى الفن، إلى السياسة وإلى الإعلام. فكانت كلماته تنساب كماء النيل دون نضوب أو انقطاع، مما شد إليه الحضور لمتابعة هذا الحوار، حتى خيل إليّ أنه حافظ أجوبة كل الأسئلة، ويرددها بدون تفكير، كحفظه للقرآن الكريم، وهذا لم يفاجىء من يعرفونه عن قرب، فهو رئيس مجمع اللغة العربية، وقدم برنامج «لغتنا الجميلة» مدة 50 سنة بالإذاعة التي تدرج فيها إلى أن أصبح رئيساً لها سنة 1994، بالإضافة إلى اشتغاله بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة أستاذاً للأدب العربي، كما ألف العديد من الدواوين، و قدم أحلى 20 قصيدة حب في الشعر العربي و 20 قصيدة في الحب الإلهي، والعلاج بالشعر ومشكلات معاصرة، ومواجهة ثقافية وعذابات العمر الجميل التي هي سيرة شعرية. إلى جانب ذلك، فهو واضح في اختياراته السياسية، ولم يتردد في اعتبار ما يسمى بالربيع العربي بكونه خريفاً عربياً، وحاسم أيضاً مع جماعة «الإخوان المسلمون» الذين يعتبرهم نباتاً شيطانياً، لابد من اجتثاث هذا النبات من الجذور... } أهلا أستاذ على استضافتك لجريدة الاتحاد الاشتراكي شكرا لك أنت، وأهلا بك في مصر، وفي هذا الموقع الجميل على النيل وفي ظل التوأمة الجميلة التي جمعت بين جمعية المحمدية للصحافة والإعلام والاتحاد المصري للإعلام والثقافة الرياضية، وأعتقد أن هناك مظلة بين المودة والمحبة تظلل هذا اللقاء. تفضل. } بصفتكم أمينا عاما لمجمع اللغة العربية، كيف هي حال اللغة العربية؟ طبعا حال اللغة العربية كحال أبناء الوطن العربي، اللغة صورة لصاحبها، إذا كان صاحبها مهتما بها، محافظا عليها مدافعا عنها، حريصا أن يقدمها للناس في أبهى صورة، سواء كانت هذه الصورة شعرا أو قصة أو مسرحية أو روبورتاجا صحافيا، المهم هو الممثل لهذه اللغة، إذا ارتفع مستوى المواطن ارتفع مستوى لغته، ومشكلة لغتنا أننا لا نعطيها الاحترام الكافي، ونهينها بدليل أننا نستخدم أحيانا لهجات وعاميات أو يتظاهر بعضنا أنه صاحب ثقافة أجنبية، فيتكلم بلغة أجنبية، وفي كل الأحوال حرصنا على هذه اللغة وتعلمنا لها تعلما جيدا في المدرسة، وهذا التعلم يؤازره البيت والمجتمع، فيجعل من حال اللغة العربية في كل العالم العربي حالا أفضل. } بصفتكم أمينا عاما لمجمع اللغة العربية، هناك خطأ شائع، هل يمكن أن نقول «مُجَمَّع» بدل مَجْمَّع، وما الفرق بينهما؟ المُجَمَّع من جَمَّع، يُجَمِّع، هو مجموعة أشياء، المُجَمَّع كلمته الأجنبية هو supermarket أي أنك ستجد في هذا المُجَمًّع كل ما يخطر في بالك لتشتريه. أما مَجْمَع فهو ترجمة للكلمة الأجنبية، التي تعني جامعة أو مكان للدراسة والبحث، فهو مَجْمَع، يجمع علماء اللغة العربية والخبراء فيها والمهتمين بشأنها ليقيموا دراسات من حولها ويضعوا خططا لها في المجتمع. } باعتباركم أحد الكبار المعنيين بالحفاظ على اللغة العربية، وتراثها، وقد قدمتم برنامج «لغتنا الجميلة» تقريبا نصف قرن، هل تعتقدون أنكم حققتم الهدف المنشود الذي توخيمتوه، أم الأمر يتطلب المزيد من الجهود وإلى متدخلين آخرين؟ نحن نقول عصفور واحد لا يصنع الربيع، ولذلك برنامج واحد مهما طال أمده لا يمكن أن يحقق كل ما يحلم به الانسان، لأن الاهتمام باللغة العربية لابد أن يصبح قضية قومية. وأن يصبح اهتماما رئيسيا لمن يحكمون الأمة العربية، إذا اهتم حكام الأمة العربية بغض النظر عن أنظمتها المختلفة، بأن يصبح حال اللغة العربية في حال أفضل ستتبنى المؤسسات والهيئات والأكاديميات والجامعات هذا الأمر وتنفذه، أما إذا اعتبر أمرا عارضا وطارئا وليس مهما، فلن يتحقق ما نريد لذلك الوطن العربي محتاج إلى ألف برنامج مثل برنامج «لغتنا الجميلة». } نلاحظ أستاذ فاروق شوشة، أن هناك تناميا للعديد من الأغاني الهابطة التي بها إسفاف على مستوى العالم العربي، أتعتقدون أن هذه الأغاني الهابطة ساهمت في النيل من اللغة العربية؟ السؤال الذي يجب أن يطرح أولا، هو لماذا انتشرت هذه الأغاني الهابطة، انتشرت لأن هناك جمهورا، أي عددا من المواطنين لم يتح لهم التعلم الكافي والثقافة الرفيعة، والذوق الذي يميز بين ألوان الفنون، وبالتالي انتشرت لأن هناك جمهورا لها تماما كما تنتشر أفلام السينما، ونقول هذا فيلم هابط أو غير مرتفع المستوى، أو فيلم غير جيد، في هذه الحالة فالعيب هو عيب الجمهور المستهلك، والعلاج لا يكون بالمنع الرسمي، بل بالرفع من مستوى الناس. إذا تذوق الناس الفن الصحيح، وأحبوه وحرصوا عليه، وحافظوا عليه، سيموت الفن الرديء لا محالة. } بصفتك أيضا إعلاميا، من خلال برنامج «لغتنا الجميلة»، هل مازال الإعلام التقليدي أحد الوسائل المؤثرة في ظل انتشار مواقع التواصل الإجتماعي الآن؟ بالعكس، يمكن أن يفيد من مواقع التواصل الاجتماعي، الحقيقة التي ينبغي أن نعرفها، أنه لم تفلح وسيلة جديدة من وسائل الاتصال في القضاء على الوسيلة التي كانت قبلها، التلفزيون لم يلغ الإذاعة، والإذاعة مازالت قائمة ولها دور، ما جاء بعد التلفزيون لن يلغي التلفزيون، ولكن الوسائل القديمة تستفيد دائما من إمكانيات الوسائل الجديدة، وبالتالي هناك إذاعات وقنوات تلفزيونية تعتمد الآن على ما ينشر على الفيسبوك، وعلى ما يسمى بالتغريدات على التويتر، وتجعلها في خدمة برنامج معين، أو استطلاع رأي معين. فهذه الوسائل إذا أحسنا استخدامها صارت نافعة للإنسان، نحن - أتكلم عن الشعوب العربية - موهوبون في أن أجهزة الحضارة الحديثة نحولها إلى أجهزة مسيئة، بدل من أن تكون في خدمة العقل، يعني شعوب غيرنا مثل الهند والصين. جعلت من الإذاعة أو «الراديو» مدرسة تثقيفية، وجعلت من التلفزيون وسيلة تعليمية، وفي انجلترا لديهم ما يسمى بالجامعة المفتوحة التي يذيعها التلفزيون الرئيسي في انجلترا، نحن حولنا هذه الأجهزة في معظمها إلى أجهزة للترفيه المسف أو لإذاعة أشياء لا ترضى عنها، بدل من أن تكون أجهزة موجهة ونافعة للعقل العربي. } إلى ماذا ترجع أستاذ فاروق شوشة هذا الأمر، هل السياسات الرسمية للأنظمة العربية مسؤولة عن ذلك؟ بالفعل، نحن محتاجون إلى سياسة قومية مركزية تخطط لكل ما لدينا من إمكانيات متاحة، عندما تصبح القنوات الفضائية محكومة بميثاق شرف إعلامي، وقائمة على أسس تستهدف عقل المواطن العربي ووجدان هذا المواطن، سيتغير المُنتج الذي تقدمه، والذي يستهوي في كثير منه قطاعات معينة من المجتمع. } مع انتشار الوسائط الإعلامية، لوحظ تراجع كبير في الأداء اللغوي للإعلاميين، مما أثر على مستوى البرامج وغيرها. كيف ترون هذا الأمر؟ أرى أن التراجع اللغوي لدى الإعلاميين سابق على ظهور هذه الوسائط والوسائل الحديثة، هو قديم. وهو بدأ بعدما انتهت المدرسة ودور المدرسة في التعليم. لدينا مدارس ولكنها لا تعلم، ولدينا معلمون في المدرسة مشغولون بالدروس الخصوصية وبأشياء أخرى، ولدينا مناهج مدرسية لم تتطور، بحيث تحبب النشء في التعلم، فكانت النتيجة أن النشء صغير السن يدخل إلى المدرسة، فيصطدم بمنهج لم يحسن اختياره ونصوص قبيحة ومعلم منشغل، فيكره اللغة العربية بدل أن يحبها. إذا أوجدنا نظاماً تعليمياً يحبب المتعلمين من الأطفال في لغتهم القومية، فإنهم عندما يكبرون ويدخلون الجامعة ويجيء منهم إعلاميون، سيكونون في أعماقهم محببين لهذه اللغة. } ألا تخشى على اللغة العربية من أثر هذا الواقع؟ لا، لأن هناك نسبة كبيرة من الفصحى العصرية تكتب بها الصحافة. تقدم بها نشرات الأخبار، التعليقات، البرامج الثقافية، الأمور الجادة في الإذاعة والتلفزيون، القرآن الكريم الذي يقرأ بلا انقطاع كل يوم، الشعر العربي الذي يحفظه الناس ويرددونه. كل هذه أمور تضمن باستمرار أن اللغة العربية مهما بلغت السلبيات في المجتمع، ستظل بصحة وعافية وجودة. } كيف السبيل للغة إعلامية مبسطة تحافظ على اللغة الأم؟ هي اللغة الصحفية، نحن كان لدينا لغة التراث العربي القديم، لغة الجاحظ ولغة المعلقات، هذه اللغة لم تعد الآن مناسبة للقارئ المعاصر، أو للمتعلم المعاصر، الصحافة التي نشأت في الوطن العربي منذ قرنين من الزمان، أوجدت صيغة للغة ميسرة عصرية لا تعتمد على المفردات التي أصبحت مهجورة أو التعابير التي لم يعد يستعملها أحد، لكنها محافظة على الصواب اللغوي، المهم أن تكون لغة صحيحة وسليمة ومنضبطة، هي اللغة التي تكتب بها الصحيفة والمجلة وتذاع بها مواد كثيرة في الاذاعة والتلفزيون، تؤلف بها المؤلفات الأدبية والمؤلفات العلمية، هي لغة الحاضر التي نسميها الفصحى المعاصرة. } من خلال تجربتكم، هل عبر الإعلام عن الشعر بشكل جيد؟ علاقة الإعلام بالشعر علاقة هشة، وهذا ناتج عن أن الشعر أولا لابد أن نعود إليه في مصادره، لن يغنيك برنامج استمعت إليه لدقائق في الاذاعة أو التلفزيون عن الديوان، وإنما مهمة الاذاعة والتلفزيون أن تشدك إلى أن هذه القصيدة قالها إليا أبو ماضي أو أحمد شوقي أو من نريد أن نفتش عن آثاره المطبوعة، فهي أجهزة استثارة وحفز للمستمع والمشاهد، أما أن يقدم الشعر في الإذاعة، قد يستمع إليه بعض الناس، لكنهم قلة، والتلفزيون لم يفلح في تقديم الشعر، لأنه فن سمعي. في الأساس، والصورة لا تفيد القصيدة، بل أحيانا تشتت انتباه المستمع، وتجعله غير قابض على معانيها وأخيلتها وأفكارها؟. } الأستاذ فاروق شوشة الشاعر والإعلامي كيف ترى هذه الجدلية، ومن الأقرب إلى فاروق شوشة الإنسان؟ أنا أهتم بأن يكون الإنسان هو الأقرب إلي، إن الإنسان هو أساس الإعلامي وأساس الشاعر وأساس الزوج وأساس الأب وأساس المتعامل مع الناس، إذا لم يكن هذا الوجدان يحوي من العناصر الإنسانية ما يسلم به صاحبه، فإن كل الوظائف الأخرى ستكون مزيفة وغير صحيحة. } دائما في إطار دائرة الشعر، كيف ترى واقعه الآن؟ هو مثل حال الأمة تماما، لكن هناك شعراء يعيشون في كل البلدان العربية ينتجون ويبدعون وتطبع مجموعاتهم الشعرية ودواوينهم مرة ومرة. وربما شاعر ناشئ في هذه الأيام يطبع ديوانه عشر مرات، بينما لم يطبع ديوان المتنبي وهو شيخ شعراء العربية كمثل هذا الشاعر الناشيء. الشعراء الآن محظوظون بوسائل اإعلام، بالصحافة، بالمنتديات، والجمعيات الأدبية، بالجوائز، خصوصا التي تأتي من منطقة الخليج، ويسرع إليها الناس.. وأنا أخشى على الشعراء الناشئين من هذه الجوائز التي تسمى جوائز مليونية قد تقضي على الموهبة، وأنا رأيت نماذج نعرفهم في مصر من الشعراء الذين نالوا هذه الجوائز، عادوا ليشتروا سيارات ويعشقوا النساء ويمارسون حياة اللهو والطرب.. ويقولون ماذا أفعل كشاب صغير السن وفي قبضتي مليون، الفساد أقرب الأشياء إلي وليس الشعر. } هل الأستاذ فاروق شوشة له اطلاع على الشعر المغربي والشعراء المغاربة؟ أنا زرت المغرب عدة مرات، وقرأت ما أتيح لي من مختارات الشعر المغربي عندما نشرتها مؤسسة البابطين الكويتي ، لأنه أصدر مجلدات تتضمن مختارات من الشعر في كل الأقطار العربية، ولي أصدقاء من الشعراء المغاربة نلتقي بهم حينما يجيئون إلى القاهرة ونلتقي بهم في الملتقيات الشعرية والأدبية.. أخشى أن أقول لك اسما، فأنسى اسما أهم منه، لكن المغرب فيه حركة شعرية تمثل كل مستويات الشعر العربي، بمعنى أننا نجد الشعراء الملتزمين بعمود الشعر، نجد شعراء قصيدة الشعر الحر، ونجد شعراء قصيدة النثر، وربما الآخرون هم الأكثرية«شعراء قصيدة النثر». لكن هذا يدعو إلى المتابعة وإلى الدهشة، كيف أن المغرب به كل هذا التنوع وكل هذه القدرة على العطاء. } يقال إن القصيدة العامية أو«الزجل» كما نسميه نحن بالمغرب، والتي استطاعت أن تطور نفسها، لكن بالمقابل هناك من يصنفها في خانة اللاأدب، لماذا هذا التصنيف في نظرك؟ أنا أوافقك في تسمية «الزجل»، لأن أصل هذه القصيدة العامية هو الزجال الأندلسي ابن قزمان، الذي لا أقول اخترع، بل توصل إلى صيغة باللهجة الأندلسية التي كانت تجمع بين مفردات عربية ومفردات متبقية من الإسبانية أو من العامية الرومانتية، التي هي تطور للاتينية كما كانت تسمى، وأصبح ابن قزمان رمزا لكل الزجالين العرب. الذين كتبوا الزجل كثيرون، من أشهرهم بيرم التونسي، وهناك الشعر النبطي في منطقة الخليج وأميره ابن لعبون، لكن مع ظهور حركة الشعر الحر في الخمسينيات ظهر شيء لا أسميه زجلا، بل هو قصيدة الشعر العامية، لأن الذي يكتب ليس الزجل بالمقاييس والصيغ والتراتيب القديمة، هو نوع من الشعر، قريب جدا من الشعر الحر، لأنه موزون، والقصيدة متحررة، ولذلك حينما أقول صلاح جاهين مثلا وفؤاد حداد ومن بعدهما عبد الرحمان الأبنودي، وسيد حجاب وغيرهم.. هم لا يكتبون زجلا، بل يكتبون شعر العامية، أو العامية حينما تصبح شعرا،، أنت تأخذ من العامية ليس لغة السوق وليس لغة الشارع، لكن تأخذ المستوى الفني للشعر العامي، العامية ليست مستوى واحدا، أو اللهجة ليست مستوى واحدا، هناك عامية المثقفين، يتكلمها من هم قريبون من صميم الفصحى، وهناك عامية المتنورين يتكلمها من أوتوا حظا من العلم، وهناك عامية قاع المجتمع أو عامة الأميين، الشعر الشعبي المكتوب بالعامية هو المستوى الأعلى والرفيع من المستويات العامية، وهو قريب جدا من الفصحى، خذ مثلا قصائد أحمد رامي التي تغنت بها أم كلثوم، هذا من شعر العامية، لكنه لا يختلف عن الفصحى، إلا في الضبط الإعرابي. فعندما تتأمل الكلام والصور والمعاني تقرأ شعرا فصيحا، وبالتالي هو شعر وفن حقيقي يوضع في دائرة خانة الأدب. } هذا اعتراف جميل من شاعر كبير؟ هذه هي الحقيقة، ونحن في بيت الشعر في مصر، هناك شعراء بالفصحى، وشعراء بالعامية، وفي أي مناسبة شعرية نقيمها، هناك من يمثل الشعراء بالفصحى، ومن يمثلون الشعر بالعامية } هناك إقبال كبير على ترجمة الزجل أو الشعر العامي من طرف دور نشر الأجنبية إلى لغاتهم الأم؟ طبعا، لأن الشعر العامية في كثير من جوانبه يسهل على المبدع الولوج إلى حقيقة مشكلات المجتمع، بعكس الفصحى، فحينما تدخل على الناس مرتديا «لبسه» و«كرافاته» ينظرون إليك بريبة، لكن عندما ندخل عليهم بالقفطان والجلباب البلدي، فينظرون إليك كأنك منهم. هكذا هي العامية في مواجهة الفصحى، الفصحى ماتزال فيها عوائق تمنع الالتحام الحقيقي مع فئات المجتمع، لذلك فالرواية سبقت الشعر، لأن الرواية تتسع للتفاصيل وللأحداث اليومية، بعكس الشعر الذي يعتمد الكليات، يعتمد وصف الحال، أما الرواية تقول لك مثلا: وقف أمام الباب، دق الباب، انفتح الباب بعد قليل، عانقها عند الباب.. في القصيدة لا يمكن أن نقول ذلك. } هل يمكن أن نقول إن هناك صراعا مابين هذين الصنفين من الإبداع على اعتبار أن الزجل أو العامية، تستقطب جمهورا أوسع وأكبر؟ أنا لا أعتبره صراعا، أنا أقول هذه مستويات من بلاغات التعبير، ولكل منها سحره وبلاغته الخاصة، وحينما كان أحمد شوقي يقول ونحن الآن أمام النيل،« النيل نجاشي، حليوة وأسمر، عجب لونو ذهب ومرمر، ارغوله في يدو... يسبح لسيدو.. حياة بلادنا، يا رب زيدو» قال هذا، وهو أمير شعراء الفصحى، لكنه قالها بالعامية، وقالها بمعنى راق، تأمل«النيل نجاشي، النيل امبراطور، قادم من الحبشة، حيث يوجد النجاشي، الذي أوى المهاجرين المسلمين قبل الهجرة إلى المدينة، هذا النيل هو الذي يسقي شعوبا إسلامية ومسيحية. ففيه من أخلاق النجاشي، الإيمان بالوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، كل هذا قاله شوقي بكلمتين «النيل نجاشي» فقط، هل يمكن أن ننكر هذه العامية، هل أقول هذه العامية أبعدها عن الأدب. } من ترى من الشعراء من الجيل الحالي، الذي يمكن أن يشكل إضافة إلى الشعر العربي المعاصر؟ كلمة إضافة كلمة صعبة، تجد في كل عام مائة ديوان، وفيها آلاف القصائد، لكن حجم الإضافة للشعر، هذا سيقرره التاريخ، لن يقال الآن فلان يضيف، وفلان لن يضيف، نحن نقرأ وليس لدينا من النقاد من لديهم من الإمكانيات التي كانت لدى نقاد الأربعينيات والخمسينيات، كان لدينا ناقد بحجم طه حسين، إذا قال كلمة عن شاعر صار في السماء، وإذا قال العكس هبط به إلى الأرض. وسأحكي لك واقعة علي محمود طه وإبراهيم ناجي، أصدرا ديوانيهما الأولين في عام واحد سنة 1934، كتب طه حسين عن ديوان علي محمود طه، وقال هذا قمة البلاغة العربية والشعر العربي، ثم قرأ ديوان إبراهيم ناجي، ثم قال هذا شعر صالونات «الجلسة» التي بها شراب ومزاج، لكنه ليس شعرا حيا، عندما قرأ ناجي هذا الكلام طلق الشعر وسافر إلى لندن بعيدا عن مصر، واعتبر أنه لا ينتمي إلى المجتمع الأدبي، ومشى في الشارع يهيم على وجهه، صدمته سيارة كسرت ساقه، وعندما عاد إلى مصر عاد بساق ونصف، ويمشي على عكاز بسبب كلمة قالها طه حسين، فلما نقلت هذه الواقعة إلى طه حسين، قال لم أتصور أن ناجي بهذه الصورة و كتب مقالا يقول فيه: أنا لم أكن أتصورك ياناجي ضعيفا إلى هذا الحد، تصورتك ستتحداني وتكتب شعرا يرغمني على الاعتراف بك. وأنا في انتظار ديوانك القادم، ولابد أنه سيكون أفضل» فعادت الحياة إلى ناجي، انظر ماذا يمكن أن يصنع ناقد له وزنه وحجمه، الآن لو كتب كل المشرفين كل الصفحات الأدبية وفي كل الصفحات تقريضا لشاعر لن يرفعوه سنتمترا واحدا، ولو اجتمعوا على الإساءة إليه لن يضروه بشيء، لماذا الآن الناس لا تجد السلطة الأدبية التي كان يمثلها الناقد في مجتمعه قديما. } لماذا غابت المدارس الشعرية كما كانت من قبل مثل «أبولو»، هل هذا ساهم بشكل أو بآخر في هذا الواقع التي يعرفه الشعر بشكل عام؟ أولا، كانت تبشر باتجاه جديد لشيء غير موجود، يعني مثل عندما نقول هؤلاء يمثلون «الطليعة» وفي الغرب معروف فكرة المستقبليين . هؤلاء مجموعة من الشباب لم يجدوا أنفسهم في شعر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم واسماعيل صبري، لأنهم كانوا يقرأون الشعر الأجنبي المترجم، الذي بدأت تنشره الصحف والمجلات، فوجدوا عالما آخر وفكرا آخر، وصورا أخرى، يجدون شاعرا يكتب عن الغراب أو شاعر يكتب عن القبرة أو عن المقبرة. والشعر الذي من حولهم يتمحور حول مدح السلطان في تهنئته بمجيء رمضان.. اجتمعوا، ومعهم صاحب العقلية الموجهة أحمد زكي أبو شادي، وهم شباب في العشرينيات، لدرجة أنه انضم إليهم عن بعد أبو القاسم الشابي، وهو في تونس، وكان في عمر العشرين لينشر في مجلة «أبولو» الذي كانوا يصدرونها لمدة 3 سنوات، فهؤلاء كانوا يعبرون عن فكر جديد وحساسية شعرية جديدة، بالإضافة إلى أنه في هذا الوقت، أي في بداية الثلاثينيات، لم تكن هناك وسائل الارتباط بين الناس، كانت مجلة الرسالة تصل إلى تونس، لن يزيد العدد عن عشرين عددا، أما الآن فانظر إلى وسائل الاتصال، الآن في الثانية الواحدة، لو هذا الحوار بيننا كان يذاع على الهواء لاستمع إليه الملايين، وبالتالي كانوا يحتاجون إلى روابط. في مصر جاءت جماعة «أبولو»، وفي نيويورك ظهرت الرابطة القلمية، وكان مركزها نيويورك. في البرازيل في «ساوباولو» أنشئت العصبة الأندلسية، في بلد كان يتكلم لغة غير اللغة التي يبدعون بها. نحن الآن في عصر لم يعد يهتم بالروابط، لكن غلبت عليه صفة الفردية. } لندخل إلى عالم السياسة، كيف تقرأ ما يسمى بالربيع العربي؟ هو ليس ربيعا، أقرب الأسماء إليه هو ذاك الذي سكته له كونداليزا رايس: أي الفوضى الخلافة، هذا ما يحدث في كل البلدان العربية، لا ربيع، هذه العواصف والزوابع تبشر بخريف وليس بربيع. } على مستوى الشقيقة مصر، هل ترى أن الانتخابات الرئاسية، يمكن لها أن تخرج البلد من هذا النفق الذي تعيشه اليوم. ستفعل أهم شيء، مصر محتاجة إلى رجل، والذي أفشل الثورتين الماضيتين، أنه لم يتلقفهما رجل ليصنع من ثورة 25 يناير ومن ثورة 30 يونيو ثورة حقيقية، تولى التورثين أشباه الرجال، العاجزون، المهتزو الأيدي، المرتعشون، نحن خلال الانتخابات الرئاسية القادمة نريد رجلا لديه القدرة على هذه الرؤية ولم الشتات، البلاد التي قامت فيها هذه الحركات كلها الآن شراذم، ميلشيات، عبثيات، خلافات، نريد من يعيد إلى مصر حقيقتها الواحدة من أجل تقدم مصر. } من ترى في المرشحين حمدين صباحي أو المشير عبد الفتاح السيسي، يمكن له أن يجسد هذه الرؤية؟ الإجابة واضحة يا سيدي - ضاحكا - وبشدة هناك رجل المرحلة، وهناك شيء آخر لا يمث لهذه المرحلة بصلة. } كيف ترى مستقبل «الإخوان المسلمون» سواء في مصر أو في العالم بصفته تنظيما دوليا؟ هذا نبات شيطاني لابد من اجتثاثه من التربة من الأصل، حتى لا ينبت ثانية، أن تقص الغصن أو تقطع العود أو ترمي بالثمرة، هذا ليس الحل، الحل هو الاجتثاث، أي أن يقطع النبات من الجذور، لأنه نبات شيطاني، ولن يكون في أي وقت إلا شيطانيا. } كان هناك نقاش في المغرب حول إدخال اللهجة المغربية في التعليم الأولي، حيث عاش المغرب نقاشا كبيرا تدخل فيه وعارضه كبار المفكرين مثل الأستاذ عبد الله العروي وغيره.. هل تتبعتم هذا النقاش، وما رأيكم في هذا الموضوع. أولا الذين يتعلمون اللغة العربية في المدرسة هم كارهون لها، لأننا فشلنا في أن نوجد منهجا تعليميا يلائم الصغار، أحسن اختياره وفشلنا في أن نعد المعلم بالطريقة التي يحبب فيها النشء فيما يقرأ، وثالثا وهذا الأهم، لم نستفد من الأساليب التربوية الحديثة أو الفرنسية الإسبانية أو الألمانية ويقبل على اللغة ويتعشقها، ولماذا حين يتعلم اللغة العربية يكرهها طول حياته، هذا السؤال يجب أن نبحث له عن إجابة، الأمر الثاني المدخل في العملية التعليمية لابد أن يكون وسطا بين العامية والفصحى، يعني العامية المغربية شأنه شأن العامية المصرية، فيها آلاف المفردات، لماذا لا نعزف على هذا الوتر المشترك، كلمات تبدو وكأنها عامية، لكن في حقيقتها فصيحة، فيكون كتاب المطالعة مؤلفا من هذه المادة اللغوية، التي هي أصلها فصيح وفي العامية المصرية آلاف الكلمات انتقلت من العامية إلى الفصحى، وفي كل بلد هذا محاولة في العلاج، الأمر الثاني ألا تكون الفصحى المتعلمة بعيدة عن مستوى التلميذ، سأعطيك مثالا، فالتلميذ في المدارس العربية كلها، يأخذ قدرا من القرآن، نحن لدينا فكرة مغلوطة، فأول تعليم في القرآن يبدأ بجزء (عم) الذي تتصدره الفاتحة، هذا الجزء من الناحية اللغوية هو أصعب ما في القرآن لغة، وبالتالي أن يبدأ التلميذ بجزء «عَمّ» هو يكره القرآن ويكره اللغة العربية، وسأعطيكم أمثلة، هو يبتدئ « لإيلاف قريش إيلافهم» أتحدى عشرة معلمين في اللغة العربية أن يعربوا هذه الجملة، وأن يقولوا أين أولها وأين آخرها، لأن هناك صياغة لغوية مركبة بطريقة معينة، خصوصا والآية التالية: «رحلة الشتاء والصيف» ما الذي جعل رحلة هكذا «منصوبة»، هل هي جملة فعلية أم جملة اسمية، هل شبه جملة تبدأ بالجار والمجرور، أنا أعطي هذا كمثال صغير، والسورة التي فيها الفلق والعلق، لا يستطيع المتعلم الصغير أن يتعلمها، نحن علينا أن نوجد الأساليب المشهية لتعلم اللغة باعتبارها وجبة جميلة وليست درسا سيئا.