الحلقة 15لكم تحيات المبدع عبدالله عدالي الزياني -إلى وصلت منخرك عضيه! هذا قدر الله اللي يڭول، اللي ما يرضى بقضايا يخرج من أرضي و سمايا! تقطع أمي حديثها و هي تصيح في الدجاج: -هش هش!! سيرو لخلا! بوبي! يا بوبي اجري على هذا الهم يمشي برّا! يسرع بوبي كعبد مطيع و يضع رأسه على قدميها ثم ينطلق مطاردا الدجاج الذي يتطاير ريشه في الزريبة الكبيرة و كأنه يقول لها؛ شبيك لبيك، أنا بين أيديك! تضحك أمي و تقول لي: -شوف! ياك كيعرف آش كانقول ليه؟ يسخر أخي الصغير و يقول متصنعا الجدّ: -معلوم يا ماما! فهو خريج جامعة القرويين، قسم اللغات! لا تجيبه أمي لكيلا تثير الحرب الصامتة بينها و بينه. تقف و تقول: -يالله انجيبو الخبز من إينور! تسير بخطو قصير و متثاقل و أتبعها حيث بنت إينور. فرن مقوس من الطين له باب في حجم الخبزة. تملأه بالحطب و تشعله حتى يتحول إلى رماد، ثم تضع في داخله صفائح قصدير تُحمى، فترمي فوقها الرغائف لتنضج و تقفل بابه بعجين الطين. يتكرر ذلك كل يوم من أيام أمي، إلا فيما ندر. تعرف مقاييس الزمن في ذاكرتها العجيبة المشحونة بتاريخ طويل من الأحداث و الآلام و الأشخاص و الأسماء و كأنها سجلّ الدنيا. بعد زمن تعرفه، تقول: -يالله الخبز طايب! تفتح الفرن بقطعة حديد و تزيل عنه الطين و تدخل قضيبا و تبدأ بإخراج الرغائف واحدة واحدة، متفحصة إياها و قد أصبحت في لون حبات القمح. تقول في اعتزاز: شوف! ياكما تحرق! كانت مدام كوكو تقول لي: -رهمة! انت السيرفو ديالك كبير! كن تمشي للسكويلة تكون كبير! أسأل أمي ساخرا: -آشنو السيرفو أمي؟ تضحك مِلء فيها و قلبها و تجيب مستنكرة: -آويلي، أنت ما تعرف الفرنساوية؟ المخ زعمة! و نغرق في الضحك. كانت أمي تنتصب على خشبة المسرح، تواصل الحكي بكل الحركات و تعابير الوجه و اختلاف درجات الصوت، زفرًا و أنينا أو ضحكًا غاضبا و سخرية همجية من الزمن و ما فعل فيها. ملعونة هي الدنيا التي لا تدوم على حال! في رمشة عين، تتحول النعمة إلى يباب و الجنة إلى جحيم. بعد أربع أو خمس سنين على أكثر تقدير، أعلنت السماء غضبها على الأرض في شهر شتنبر و الناس تتهيّأ لحربها مع الأرض حرثا و بذرا و أملا، هبت ريح السموم من لا مكان و من كل مكان. تشتعل الحرارة ليلا و نهارا و يعلن الشرڭي عصيانه على كل الفصول محمَّلا بالبلاء و الخراب. تحولت زرقة السماء إلى لون التراب و كأن الأرض علقت بها. بدا كل شيء يمةت، المواشي و الطيور و الماء و الأسواق و العواطف و الانتماءات. صرخت امرأة و هي تهرب مخلفة أطفالها الصغار؛ راسي يا راسي يااللي ما يخلف الميعاد!! تساوى الأغنياء و الفقراء في يباب الأرض و قفرها و عطشها. انتشر الموت و لم يعد له ميعاد. ذلك كان عام الحلبة! فقد اختفى الزرع و الضرع و أصبح الناس ياكلون الحلبة بمرارتها بعد سلقها بالماء فتطفو صفرتها على الجلود. بارت صناعة الحصائر و لم يعد يرغب فيها أحد، آخر حصيرة طاف بها أبوكم أسواق بني موسى و البرادية و بني شڭدال..و أخيرا عاد دونها و الحمار الذي مات تحت ثقله و ثقل الحصيرة. و انتهت أمجاد الحصيرة الزِّيانية كما نسيت أمجاد عيشة غزة في حروب السيبة و انهزمت بنادق بوحبو و ساسبو و العزيزية و بوشفر. لم يعد هناك زمن للتاريخ في زمن القحط و الجوع. لقد أفرغت الدواوير من ساكنيها و رحل أعمام أبيكم إلى منطقة الغرب و لم يتخلف إلا الأغنياء ليراقبوا بقايا حصاد الموت و دفن الجثت. بقينا وحدنا مع الله و الجوع و الصمت و انتظار المجهول. ذلك الصباح الذي لا ينسى، كنا نتكدّس أمام النوالة و أخواتكم تتأوهن من الجوع و العطش و أبوكم يدفن رأسه بين ركبتيه. همست له: -آش انديرو دابا؟ أجاب: -يصبح و يفرج و لا يفرج قبل ما يصبح. و عاد دافنا رأسه بين ركبتيه. اصفرت جلودنا من أثر أكل الحابة و ذبلت أجسادنا من الجوع و لم تعد لنا طاقة على التفكير بوضوح. حتى الحابة التي تركت فينا روائح كريهة لم نعد نجدها. كبر الخوف مع هول التساؤلات التي تتعاظم كل يوم، إلى أين سنذهب و ماذا سيحدث للبنات؟ هل سيموتون قبلنا أو سنموت قبلهن؟ هل سيدفننا أحد؟ لا جواب لا من الأرض و لا من السماء و نحن في انتظار قرار الخالق في مخلوقاته. الجو صامت كالمقابر، لا طير و لا حيوان و لا بشر، إلا نحن و القدر المحدق بنا دون أن يفعل شيئا، أو كان يقرر ما لا ندري. اخترق ذلك الصمت المخيف صوت يقول: -السلام عليكم! انتفضنا جميعا مفزوعين. رفع أبوكم رأسه و لم يجب و هو يحدق في الرجل لثوانٍ. ثم انتفض واقفا صائحا: -الجيلالي!! فين كنت أصاحبي؟ تعانقا و انخرط أبوكم في بكاء مرّ كمل تبكي النساء. لم أره يبكي أبدا و لكنه اليوم ينهار بكامله، فقد وصلت المصيبة حد العظم و لم يعد له احتمال رغم صبره و إيمانه بالقضاء و المكتوب. انفصلا من العناق و حدّقا في بعضهما و هما يشهقان دموعا. قال الجيلالي: -أنت آش كدير هنا يا صاحبي في هذا الخلا لقفر. يالله نوضو تمشيو للدار. أنا في دار بيضا! الحمد لله الخبز موجود. و لو تبيع الما تعيش. لم يعد هناك من شيء صالح للحمل. غادرنا النوالة و تبعناه و كان ذلك إيذانا بحياة جديدة في عالم يسمونه، دار بيضا!! هذه الدارالبيضاء، المدينة التي لا عقل لها و التي نسميها نحن؛ دار بيضا، كانت أهول و أعتى مما سمعنا. لم يكن في استطاعة أحد أن يصف لنا ما رأيناه. الاكتضاض و الضجيج و الصراخ و أنواع الملابس و الأشكال و البوبيس و حركة المرور و الأضواء و أبواق السيارات و البنايات و الدكاكين و النساء الكاشفات السيقان و الوجوه المزينة بالأصباغ التي أنستني لعكر البلدي و القرنفل.. عندما توقفت المشينة؛ القطار، بدرب السلطان و فتحت الأبواب، تهافت الركاب على النزول في أفواج تشبه المطر، يتدافعون و يتصايحون و يختصمون و يتلاعنون. قال الجيلالي: -شدوا بعضكم! حتى واحد ما يسيب لاخر وابقاو معايا. سبعة أشخاص، أنا و أبوك و أربع بنات و الجيلالي، نمسك بعضنا بعضا كالمجانين. عندما خفّ الزحام نزلنا. كنا في عالم غريب لا نعرف عنه شيئا. لا أحد يسلم على أحد و لا أحد ينتبه لأحد. عالم شبيه بالقيامة، كل واحد يهتم بما يعنيه، يسير في اتجاه لا يعرفه أحد غيره و لا يسأله أحد عنه. نلتقت حولنا و ندور حول أنفسنا كالمجانين. الباعة المتجولون في كل مكان و رجال البوليس يقفون في كل ركن بقبعاتهم الغريبة و وجوههم الحمراء المتفجرة دمًا و أسلحتهم في أحزمتهم و في أيديهم العصي اللامعة البنية اللون و التي تمنيت أن آخذها لأمي لتصنع منها مغزلا. سار الجيلالي أمامنا مادا يده خلفه محذرا إيانا من الاصطدام أو التوقف، حاملا صرة أغراضنا القليلة و هو يسير أمامنا على بعد خطوة و لا يتوقف عن الالتفات وراءه ليتأكد من قربنا منه. كل شيء يثير الخوف و الأحاسيس المتضاربة بين الرهبة و التعجب من كل ما نرى و الذي لم نتعود عليه في حياتنا الماضية. شققنا كريقنا عبر دروب صغيرة ذات عتبات عالية من الإسمنت يجلس فوقها أناس يحدقون فينا بلا مبالاة و لا تحية و كأننا مجرد آلات تتحرك. هذه أرض تموت فيها التحية و التواصل و السلام عليكم و صباح الخير حتى..الله يلعنكم! في ساحة كبرى، ساحة السراغنة، تتوقف حافلات حمراء طويلة تصدر عنها حشرجات المحركات و تنفث دخانا أسود يخنق الأنفاس رغم أنني كنت ملثمة. ركبنا واحدة منها، قال السائق إنها تتجه إلى حي سانترا. كراسي قليلة و لم يكن هناك ركاب، فاحتللنا ثلاثًا منها. أدى الجيلالي ثمن التذاكر و احتل كرسيا وراءنا قائلا: -حتى واحد ما يتحرك حتى نقول ليكم! صعد ركاب قليلون ثم تحركت الحافلة محدثة صوتا كالرعد فتمايلنا حتى فقدنا التوازن. صدرت ضحكات مكتومة من ركاب خلفنا و هم يسخرون منا. أصبت بالدوار من كثرة الانعراجات و الدوران العنيف و تصاعد صراخ أخواتكم. أمسكت أباكم من ذراعه و أنا أشير إليه أن يمسك إيزّة التي كانت بين ذراعي. أصابني القيء و لم أجد إلا اللثام أستفرغ فيه و أنا أتصبب عرقا، و شعرت بألم فظيع في رأسي. كنت أتقيأ معدتي بكاملها بكل ما أكلت في دار الجيلالي، بعد جوع طويل. نزعت عني الإزار و لففته حول رأسي ليستوعب القيء الفظيع، و نظرات التقزز تصدر من الركاب حولنا. أخيرا توقفت الحافلة. قال الجيلالي: -يالله نزلو! الركاب يحدقون فينا ما بين مبتسم و مشفق و متقزز حتى نزلت أدراج الطوبيس. كل شيء يدور حولي، و انقلبت السماء رأسا على عقب. قال الجيلالي: -خلي لمرا تجلس حتى ترتاح. جلست على الرصيف و أنا أشد رأسي بيدي و معدتي تكاد تقتلع من داخلي. أغمضت عينيّ لحظة، و إذا بي أرى برقا و أضواء مختلفة تتراقص أمام عيني. أسندت ظهري لعمود كهرباء للحظات حتى بدأت أعود لوعيي. أبوكم، كان صامتا محدقا في بخوف لا يدري ماذا يفعل. أخيرا أحسست براحة غريبة و بدأت أتصبب عرقا باردا. انحنى عليّ و مسح العرق عن جبهتي و همس: -قتلتيني بالخوف. ما عرفت آش ندير! تنهدت و همست: -أستغفر الله العظيم! صافي راني لباس!!و تحركنا. نظرت أمامي و ذهلت. هذه سانترا! الحي المحمدي اليوم الذي بدأت فيه حياتنا الجديدة و نحن هاربون من القحط و الجوع و رياح الشرڭي. هتفت من الأعماق، أعماق الروح الجريحة يأسا و جوعا و عذابا: -آهيا سيدي بليوط!! احنا ضيافين الله و ضيافينك. جيناك مهمومين و مضيومين، حطنا في حماك و ضللنا بضلك. هبّت ريح مساء منعشة من البحر الذي لا أعرفه و لم أره. البحر الذي يقال أن ما وراءه ظلام و مجهول لا يعلمه إلا الله! تماسكنا جميعا لكي لا نضيع و خطونا في أول درب من دروب الكاريان الذي سيّد قدرنا الجديد طوبة طوبة و يوما بيوم و عاما بعام. هذه هي سانترا أيها الناس! من منكم يذكرها في ذلك الزمن المر كالقطران، الذي مرّ بأشباحه و وحشيته و بشاعته...و مع ذلك ما يزال الكثيرون يحملون آثاره في الذاكرة و الروح كوسم النار على جلد العبيد، و أنا منهم. خطواتنا الأولى في ذلك البحر الذي يسمونه كاريان سانترا، تثير القشعريرة و التقزز و الخوف و الدونية. بحر لا آخر له من البراريك المشيدة بكل أنواع القصدير و الألواح و الأعواد و الكرطون و الزفت و الخيش و حتى الخرق المتسخة و السلال القديمة..كل شيء يتكدس على السطوح و الأبواب التي لا تتميز عن البراكة إلا بعد فتحها. آلاف من الأشكال و الأحجام و الألوان تجعل من المستحيل على مخلوقات ساذجة مثلنا، جاءت من فضاء لا حدود له، أن تميز بين البراكة و الأخرى. أحجام من المآوي لا أرقام و لا عناوين لها، تدخلها و لا تحس أنك مستور و تخرج منها و لا تدر إلى أين و لا متى تعثر على عنوان يدلّك أنك كنت هنا. أزقة ضيقة إذا جلس اثنان متواجهان لا يستطيع ثالث المرور بينهما. يصعب أن تقول سرًا محفوظا، فليس بين الجار و الجار إلا ستار شفاف ترى منه كل شيء و تسمع كل شيء. تشم روائح الموائد و الأنفاس و الأجساد و تسمع الحزن و الفرح و آهات الانتشاء. عالم متشابك خُلق أهله ليراقبوا كل أهله. في الأزقة يتبول و يتبرز الأطفال في واضحة النهار متحدّين السماء و الأرض و الأهل و المارة و الجيران. أثناء الليل تتسلل النساء أمام الأبواب راخيات الأثواب و هن تتصنعن الابتسام، تجلسن في براءة لتقضين حاجة يصعب سترها في ضوء النهار. في الصباح تتعالى أصوات الاستنكار من قلة الحياء و قلة الدين و كثرة العفونة و الأزبال. في الصيف تغلي ألواح القصدير ليلا و تصبح أتون نار فيتكدس الناس أمام الأبواب مشتركين في السراء و الضراء و ما تفرزه المطابخ و ما هو من الدين و قلة الدين. يطول السهر حتى يرضى بحر الظلمات، فيرسل نسمات باردة آخر الليل فيرغم النمل على العودة إلى الغيران. في الصبح، تتصاعد الشتائم و اللعنات على ما قيل و حُكي أثناء الليل الساخن. تنتشر الحرائق أحيانا، قدرا أو انتقاما، فتلتهم صفوفا بكاملها مخلفة أصوات المنادب و الصراخ و التعازي و المواساة بكل اللغات و اللهجات تضامنا مع ضحايا الحرائق الذين يختفون زمنا لتنبت براكات جديدة قي تحترق في نفس الليلة أو في اليوم التالي. للبراكة أربعة جدران و أربعة جيران و آلاف الآذان و الوجوه التي تختفي و آلاف أخرى لا تدر من أين تأتي. يخترع الناس كل شيء و يمارسون كل شيء و كلها تصب في بحيرة البقاء. الفقهاء المقتاتون من الموت و المرض و بائعو الماء و جامعو الخبز اليابس و الأحذية القديمة و الزجاجات الفارغة و قراء الكف و الكارطة، البائعون للحظ و الغيب و طايب بوهاري و لكبال و صيكوك و الهندي و الشتوي...و الشحاذون و أصحاب العاهات و متصنعوها. عالم من الفطر ينبت بسرعة مجنونة بين اللصوص المطاردين من أصحاب المخزن و صوت المؤذن للصلاة خمس مرات في اليوم، يرتفع صوته من برج خشبي معلق على براكة متميزة، اشترك أهل الحي في بنائها و حراسة حصائرها التي تسرق مرة في الأسبوع على الأقل. في هذا العالم، عالم كاريان سانترا، المشتق اسمه من اسم كاريير سانترال، أو المحجر المركزي، يتسيب كل شيء بآلاف الألوان و لا لون يميزه. هنا تتعايش مجموعة من الأمم، أمة البشر التي تتداخل مصائرها بين تعاقب الليل و النهار و تداخل الفصول و صراعها مع المكتوب و الزمن و المتحكمين فيهم و في مصائرهم. تطفو حرب التحديات بين الانتماءات و أسماء القبائل و الجهات و بكل اللغات و اللهجات، السوسي و الزياني و الريفي..المداكرة و مزاب و عبدة و دكالة و تادلة..بين المعلنين للقبلية بالتحدي و التعالي و المخفين للهوية شعورا بالدونية. تختفي أسماء الناس و تصبح رموزا للقبائل، العبدية و الشاوية و الدكالي..و تتسيب اللغة مع تسيب التهديدات و النزاعات؛ "إلى نخليها في بوك راني ماشي من أولاد زهرة"،"إلى تبقى فيك تبكي عليا تادلة كلها!! هناك أمة القطط و الكلاب الضالة المتساكنة مع المواء و النباح و المطاردات..و الذباب و الناموس..كل شيء يتساكن في هذا العالم المحاصر بأسوار المزابل و المستنقعات و الروائح و الأولياء و الأبالسة..في هذا العالم، اكترى لنا الجيلالي براكة بمئات الألوان و بدون يتبع.....