الحلقة الثامنة تئن جدتي تحت ثقل ذاكرتها المشحونة بالهم و الأيام و الأحداث و تفتح فمها الشبيه بغار النمل و تتلمّظ شفتين مدفونتين في فمها فتبدوان مجرد فتحتين في ثوب عتيق. تحرك رأسها في أسى قديم كالزمن و تهمس: -أيام حارة ڭطران! أيام الزقوم! تضرب الأرض بالعصا و كأنها تحفر بحثا عما ضاع من بطولات و أحداث و أيام و دم و جاهلية و قتلى و فرسان و مهابيل و أبطال و قواد...تهمس متشربة الريح الشقيلية الآتية من الغرب و البحر: -فين ايامك يالقايد عبد الله بن جابر، النخوة و الضرايبات و الوثاقات العلية و الخيل المسرجة و اللي يشم الريح الجاية من جيهتو يشبع، اللي ما عاش ايام عبد الله بن جابر ما عاش ايام! و تسترسل جدتي في حكيها المرتعش التعِب و مخيلتي تسافر عبر البر و البحر و التاريخ لأتخيّل تلك العظمة التي لم تخلف آثارا لا في التاريخ و لا في المتاحف. لقد مات كل شيء بموت جدتي و اندثار الذاكرة. أنا اليوم أرث كل الحروق، حروق المجد الضائع الذاهب هباء. القائد عبد الله بن جابر، العمامة العالية الملفوفة طبقات، النواظر النافرة و الشعر الأسود المتدفق على القفا، اللحية وحدها تثير خشوع من لا يخشع. اليلسان الأخضر و الجواد الأدهم العالي. مواكبه تشبه مواكب معاوية، تشعّ في بساتين دمشق، تنطلق مالئة الأرض و كأنها هجرة هلالية من بني عمير غربا إلى قصبة بني ملال شرقا في موسم دعا له النصراني و المسلم. اجتمعت قبائل تادلة سهلا، بني عمير و بني شڭدال و بني معدان و بني موسى و قبائل الأطلس جبلا، آيت سخمان و آيت مصّاد و آيت ويرّا...حتى ضاقت الأرض بالخيل و الخيام و الأسياد و العبيد. لم يجد القائد بن جابر مرابض لنصب خيامه فاشترى حقل نعناع نصب فيه الوثاقات كالمقصورات تخطف ألوانها العقل و البصر بما يلوّنها من موزون و حواشي الحرير. قطعان الأكباش و العجول و الطعام بالبرّاح للجميع، الأسياد و العبيد و اللصوص و قطاع الطرق...أثناء الليل، علّق المصابيح النصرانية في سروج الخيل و هي تتبورد، و شعّت أنوارها على الفرسان المتلاعبة بالنار. هزت الناس قشعريرة من الخوف و اعتبروا ما يرون من قوة الجن. قال أهل السهول:"إن هذا لسحر مبين" و استعادوا بالله و ملائكته. و قال أهل الجبال:" السحور آيا" و نطلعوا إلى قمة تاصميت بحثا عن مهرب إذا ما اختلت المواوين. انتشر الصيت كالوباء عبر الجبال حتى تازة و الريف و عبر السهول ختى الشاوية و عبدة و دكالة..ضجّت القبائل و غارت من عظمة القائد بن جابر فاشتكوا المهانة إلى الباشا بوجمعة. تدخل النصراني و قال: -اعملوا مثله، أُو فيشي لو كُّنْ! و بقي بن جابر سلطانا عميريا حتى وهن الجسد و ذاب مع غزو الزمن الذي لا يدوم على حال. و بقي التاريخ العميري متشبتا بالسماء و لم تُحن هامته عواصف النسيان في ذاكرة الأجيال و منهم جدتي و أنا. لم يتبقّ اليوم من التاريخ العميري إلا ما ورثوه عن حاتم الطائي. فقد انتهت مواسم الاجتياح و الشراسة و الاقتتال و شرائع الأحلاف و أعراس الدم. عندما عبر لأبناء ليوطي البحر إلى هذا البر، أذلّوا الهامات النخيلية الشموخ، فتقهقر الأسياد و تقدم خونة الوطن لبيعه بأسماء المقدمين و الشيوح و القواد و البياعين و الجواسيس. لقد أصبح الزمن زمن تاليك الحاكم العسكري لبني عمير. من ير سيارته الجيب و لا يؤدي التحية العسكرية صائحا:-بوجور مسيو! يسجن ستة شهور. كان البعض يغمى عليه بمجرد رؤية السيارة. و ما زال شهود التاريخ من أهل الدوار يتندرون على المعطي بن صالح الذي رآى عن بعد سيارة الجيب، فرمى دراجته ليؤدي التحية بيديه الاثنتين صائحا:-بوجور مسيو، مواجها السيارة الخالية. تسمّر لمدة ساعتين لم يتحرك في انتظار أن يسمع كلمة؛ رُوبّو. تجمّع الناس ساخرين و لكن رعبه أعماه عن رؤية الحقيقة. حضر تاليك برعبه التاريخي. عاين الموقف الأحمق و ضحك حتى اغرورقت عيناه دمعا، و صاح ساخرا:-اتري بيان، بونجور الجيب! وانا فين؟ و انفجر الهول النصراني:-روبو، بوريكو! و سيق الجميع إلى السجن. ذاك اليوم، تحدث إلى القائد الشهير بقايد الما، عن حمارية بني عمير. قال: -أنتم بني حمير لا بني عمير. وافقه القائد الرهيب بضحكة لااعدة حتى استلقى على قفاه. أصبحت الحمارية و البلادة، التكليخة بمفهود العصر الجديد، أوسمة على صدور من صنعوا المجد و البطولات. اختلت الموازين و ارتبكت الجغرافيا و انهارت أمجاد قبيلتي لتدخل التاريخ من مداخنه. فقد أصبحوا صناع حصائر، فيقال؛ حصيرة زِيانية، و تسمعها عيشة غزة و تقيم مأتما في قبرها ندبا على المجد المُضاع. الذين صنعوا تاريخ السيبة ببطولاتها و جنونها أصبحوا صناع حصائر. يا خيبة الزيانية و ما ولدت و يا حرقة بني عمير على العزّ المُهان و ما أطوله الطريق إلى رمضاء الجزيرة، جزيرة بني هلال، لندفن خيبة الأيام. لم يتبق من ذلك المجد العالي إلا تلك الأُسد الهرمة التي تقعي تحت الأبراج القديمة متحدثين بهمس و إعياء و مذلة عن المجد المضاع و الذي مضى و لن يعود. -واش تعقلي آخويي على لدهم اللي كان بويا يركب، يمشي به للحركة على بني معدان؟ و يتلقى السائل جوابا بتنهيدة عميقة تحفر الحسرة في القلب و الروح، فاللغة لم تعد لغة و هي تتحول إلى إشارات تترجم الغصص. ما زال الكثيرون يحفظون رثاء و سخرية و لد امّو صاحب الڭنبر و هو بؤرخ لعصر مردة: وامردة تابعة مردة و نوضو تحيحو مردة أطلق اسم مردة على الجراد المهاجم لسهول بني عمير، ملتهما قوت الأطفال الجوعى. إنه البلاء الآتي من حيث لا يدري أحد. قال البعض؛ إنه يسقط من السماء و قال آخرون إنه سحر النصارى في حربهم ضد المسلمين الذين يحاربونهم من أجل، السيقلال. جمعوا أكياسا و أشعلوا فيها النيران، فكم تلذذ الناس بأكل الجراد و شيّه على الجمر أو الخباز. يفصلون الرؤوس و الأرجل و يلتهمون الجثت المتفسخة. كانت تلك آخر المعارك مع الجراد، فقد اختفى بعد أن التهم عطاء الأرض نباتات و أشجارا و حطب الكوانين و شعر الدواب السارحة. تتلمظ جدتي بفهما و كأنها تمضغ شيئا و تنفتح شفتاها بصعوبة. تتحدث بلغة لا يعرفها أحد إلا أنا، مخترعة الكلمات و الأسماء مستعملة لغات غريبة قد تكون الفرعونية أو الآرامية القديمة. أدرك ما تقول جدتي مستغلا إشاراتها بالعصا و الرأس و الشفاه و اليدين و كأنها تمثل مسرحية صامتة. تحدثني عن الحرب الكبرى، الڭيرا، و تسترسل في الحكي غير عابئة بالزمن الذي تقول عنه أنه توقف بالنسبة إليها، لأنها سترحل في أية دقيقة. وراء البحر في ذلك البر، يملك الناس أشواقا دموية. ارتشفوا دماء يعضهم البعض و نقلوا إلينا الحرب والجوع و الدموع. في بوادينا سحق الجوع البطون و دمر العواطف. بيع الآباء و الأبناء، بعضهم افترس الكلاب أو افترسته و اختلطت القبائل و العشائر و البطون. اختفت الأرزاق و القماش و السكر و الأواني و شحت السماء. صادر النصراني الرجال و عطاء الأرض و عصف الجوع و الموت و الجفاف و الهجرة بكل شيء. تكدس الموتى جوعا أو قتلا أو مرضا، في الطرقات و الخلاء و الخيام، و ذابت الأصول و الأعراف. تصدى ذوو العمامات العالية لالتهام الأرض البوار. باع الناس الأرض بحفنات شعير متعفن من سنين. تضرب جدتي الأرض بالعصا غاضبة حاقدة على ابن عمها و خال أبي، الذي التهم أراضيَ دوار بكامله بمطمورة شعير لا تعلفه حتى الدواب. ترفع عصاها مشيرة إلى الخلاء: -كلشي داه، ما رح حد. شفتي هذيك لارض بين ربعة دواور؟ كلشي شراه بعبرة و حفنة حفنة. لعبة قمار، تآمرت فيها الأرض مع السماء و التهمت إرث قرون. و ماذا تساوي أرض جذباء أمام تهديد الموت لحظة تمزّق الأمعاء. تدندن جدتي بالندب القديم، زمن المقت النصراني و تواجد الماريكان في البلاد: أيامك يا ماريكان ما لبسنا فيها كتان ما شدينا فيها قطبان الميت فيها عريان أفرغت القبائل من سكانها و تشكلت القوافل الجائعة مهاجمةً المدن التي أخذت جنسيتها منها بقوة الاستيطان و الجوع. سافرت الأشواق الذبيحة، أشواق أمي، من البراكة القصديرية في أحياء كريان سانترا المتعفنة، إلى النوالة المرشوشة و المنكوسة في القبيلة البعيدة التي لم تعد تقبل أحدا: آربّي ابغابت ابلادي بين البير و السهب باقي راه انحط امي زادي ربي أيا مولاي طالت الغيبة واش يلاقي امتلأت الأذهان و المخيلات و الأجساد بأخاديد الأحداث و تواريخها الغريبة و المخيفة. نبش الناس القبور و انتزعوا الأكفان ليستروا العورات. مضغوا قشور كرموص النصارى و أكلوا الحلبة و حبات إيرني المرة. هاجرت القوافل الجائعة غربا مخلفة الموتى جوعا دُفنوا بلا أكفان أو تُركوا فرائس للطيور و الوحوش. برزت تواريخ لا يعرفها إلا ذوو الأعمار من سلالة الديناصورات، عام الحلبة، عام الفار، عام البون، عام لعدوزة...و لكل عام وجه أبشع من الآخر. تقول جدتي زامّة شفتيها، محركة رأسا لم يعد يطاوعها، مستجدية دموعا جفت منذ سنين طويلة: -هذيك ليام الحارة زقّوم! عندما كانت لياليها تطول و هي تدير الرحى في دوران لا يتوقف، تنهمر دموعها مثل مطر سنين الخير، تغني و تجهد: آه يا بويا مڭواني أبويا دلالي طاح الصر و السمر أخويا ماحر الليالي أوا أوا مڭواني استغرب العميريون من هؤلاء القادمين من وراء البحر بعيونهم الخضر و الزرق و البيري و الشابّو، بآلاتهم و سياراتهم و أسلحتهم..اختلطت حدود الأرض التي كان تجاوزها دونه الموت و الدم و استولى الغزاة على كل شيء و رسموا الحدود و نشروا لغات جديدة، التراكتور، لاڤاش، موتون، فواتير..و نزل سادة جدد على الأرض فلم يرحموها قلبًا و خدشا كما لم يرحموا أهلها، و انتشروا في الأرجاء كالسرطان، فيتا و زيتا و كودي و برجي...بكت وريثة المجد الجريح و المغتصب، محذرة صاحب السلهام من الانسياق وراء صاحب الشابو: لا يغرك ابويا غرار را الزمان غدار لا تبدل الشابو بلبيس السلهام را العيطة في الريف تساوي ميات قنطار كانت جدتي مؤرخة أحزان و دموع و مآسٍ مثل أمي، قضت أغلب سنين العمر تبكي حتى عندما تفرح تبكي. اليوم تستجدي الدموع و لكنها جفت مع جفاف كل شيء فيها. شيء واحد بقي متوهجا، الذاكرة التي لم يمت منها شيء. تقول مؤرخةً؛ أنشأ النصراني بير عرب بين نوايل و خيام أولاد هاتن ليكون نواة للمدينة التي لم يفرض اسمها أحد، بقي في يد دفين قبة بيضاء تتبرك بها النساء و يصلي حولها الرجال، الفقيه بن صالح، وليٌّ قيل أنه جاء من قلعة السراغنة و قيل أنه جاء من لا مكان و لا زمان، حتى الذين سيدوا قبته آنذاك لا يذكرون تاريخه. ما تزال القبة البيضاء قائمة في النواة الأولى للمدينة، تتشبث بها دور قديمة و كأنها تقسم أن تبقى ولية للولي و للتاريخ و لصناع التاريخ. تقول جدتي عن واحد من صناع المجد الأول: -ايْهايْه على القايد عبو، الشعرة فيه ما تخاف! لقد تمرد على النصارى لريّ أراضي بني عمير بواسطة سد الزيدانية. صاح بأعلى صوته: -الأرض أرضنا نغرس فيها الزيتون و لا شجار الزقوم! و نُفي عشر سنين إلى تازة. نصّبوا مكانه معارضه الذي زكّى تسمية تاليك لبني عمير ببني حمير و الذي أصبح سلطان زمانه قوةً و سلطة. و لم يجد الناس وسيلة للانتقام من طغيانه إلا تسميته بقايد الما. انتشرت قنوات الري الأسمنتية العجيبة و برز القطن بأزهاره النرجسية و ازدهرت أشجار الزيتون و طلت حقول القمح ألوان الحنة و كأنها صابة لعدوزة. تحولت الأرض البوار من السدرة و بعّاج النحل إلى زربية زَيانية مزركشة بكل الألوان. برزت القيصارية بأقواسها الهلالية العجيبة كأول نواة للمدينة التي نُسبت إلى الولي الصالح التائه القادم من لا مكان، الفقيه بن صالح. شعّت أنوار التريسنتي المعلقة على الأعمدة العالية في كل حيّ و زقاق بمصابيح بيضاء متوهجة كشُقّة جدتي، لتدخل قناديل الزيت إلى المتاحف. تتلألأ الأضواء العجيبة السحر و الصنعة و تتراءى لصبايا أولا سيدي شَنّان، فترتفع عقائرهن مغنيات للعصر السحري: القيصارية يامّي اراه اوباحا اللي جاك يولف اراه اوباحا خضرة الدفوف يامّي اراه اوباحا اراه اوباحا أي مجد و أية سلطة بقيت من زمن العظمة و البارود، إلا الخونة و لاعقي أحذية النصارى من ركوب الخيل و التبوريدة و النزال و الطراد و صيد الغزلان و سبي الحسان إلى عصر الكلفة و السخرة التي فرضها النصارى و نفذها مشاهير مسلمينا من الطغاة الذين لن ينساهم أحد. و تيّا لتاليك و من معه و تبا لصناعة الحصائر الزٍّيانية التي خلفت أمجاد عيد الله بن جابر و بطولة عيشة غزة. كانت مدينة الولي تلد الدور و الأحياء و تفرخ الأزقة و الطرقات و المنعطفات و الدروب لتحيط بالقيصارية ذات الأشكال المقوسة و الأبواب الخضر و عواصف الحجاج في المساءات الساخنة. عندما وُلدت كومابرا لصناعة حلج القطن و معصرة زيت الزيتون و بيرو عرب و لوفيس، مكتب الاستثمار الفلاحي، و توالي البنايات الجديدة، كان لا بد من عنوان للملحمة الجديدة التي يتوالى حكيها كل يوم. و فُرض اسم لاربعل من طرق السواقين الذين يتوافدون بالمئات على السوق المنعقد يوم الأربعاء، في حين اتفق أهل الإدارات على تسمية الفقيه بن صالح، ليُصبح اسم الولي الوافد من لا مكان مطبوعا و متداولا في نصف أرجاء الأرض، لتدخل تاريخ المدن التي أفرزها العصر الجديد. تضحك جدتي حتى تنفلت عصاها من يدها و ينهار رأسها على ركبتيها الميتتين و هي تتذكر بني عمير و هو يخبّئون أبناءهم في المطامير و أقوار الحبوب و نوادر التبن ليحموهم من التسجيل في السكويلة الجديدة ذات القرميد الأحمر و التي عُرفت بسكويلة النصارى. قال الفقهاء؛ الويل من الله و رسوله لكل من يقرأ قراية النصارى. الله يقول المساجد لله، و لم يقل أن السكويلة لله! و الويل لكم من عصيان كلام الله و رسوله. استجاب من لم يكن يملك ما يشتري به الخونة الجدد، فلكل عصر خونته، و استسلم من لم يملك ثمن حماية أبنائه من قدر سكويلة النصارى. و صدق العراف تاليك بوصفه لنا ببني حمير و تأكدت النبوءة و هم ينتخبون أول سيناتور أمي في البرلمان لم تعرف مخرته حصير مساجد و لا مقاعد سكويلة، فقد كان من أسياد القطن و الشمندر المتحكمين في اللقمة و الدوخة. شراح سلطة فوق السلطة و من يقهر من، فالهزاءم قدر جواوير الشمندر و آيت الراضي و الڭرين و لاحونا..أحبوا أم كرهوا. لقد أصبحت الحقول المروية من سد الزيدانية مغناطيسا اجتذب الهربة الكبرى إلى أطرافها هربا من الجوع و البؤس. تفرخت النوايل و البراريك و الحفر و الدهاليز و العشايش و الكيف و العربدة و اللقطاء و اللصوص..مستوطنات تدفّق أهلها من كل مكان؛ السراغنة و الرحامنة و بني مسكين و الآتون من حيث لا يدري أحد. مستوكنات تشهد على زمنٍ لا يحكمخ إلا جنون أهله من أصحاب الحال و الأحوال. لقد أصبح للمدينة تاريخ لا يذكره الكثيرون أو الكثيرون لا يريدون أن يتذكّروه. للماضي ثقل لا تتحمله كل المخلوقات. في سوق الأربعاء، ينطلق صباحا أحد أقطاب أهل الحال و الأحوال. رجل عجوز بعينين دامعتين يسترهما عن الشمس بقُبّ الجلاّب المتسخ. لحية بيضاء كثة طويلة تغطي ياقة التشامير القذرة. يبدأ في ترديد أقواله بالمجان، لا يمدّ يده لأحد و لا يطلب شيئا. يصيح في ذلك الفضاء الهائل المزدحم؛ ها هيا ليكم اولاد الحرام! الخونة، خوانين الشعب! اللي ڭال الخالص يخلص يا اولاد الحرام! إنه النْوَيْني. لا أحد يدري من سمّاه و لا أحد يدري من أين أتى و لا أين يختفي ساعة الظهر. ترجم الأحاسيس الجريحة و السجينة و المحاصرة. إيه النويني ڭول علي ڭول!! يلعن و يهدد ثم يسافر بلا استئذان. قيل أنه سُجن و عُذّب على لمزاته و قيل أنه مات، و قيل...اختفى، لكنه لا يُنسى! في العاشرة تبدأ شمس السوق في الغليان صيفا. ترتفع رنات ناقوس نحاسي لامع في يد رجل قصير القامة بلحية يختلط فيها البياض بالسواد. يشدّ على جنبه الأيمن قربة سوداء من جلد الماعز يبرز شعرها. ينطلق صوته هادئا رتيبا: -اللي عندو يشرب و اللي ما عندو يشرب! و يشرب الجميع. منهم من يدس في يده شيئا و الغالبية تلتفت مبتعدة. إنه السي بوشتة الذي كان يسكن برّاكة في ساحة السويقة القديمة أمام دار خيّوب. عرفناه يشتغل بأسماء الله الحسنى و يحلّق في عوالم روحانية. مات دون تاريخ إلا في ذاكرة القليلين من السّوّاقة. مولودة المسطية، امرأة مهاجرة من عالم المجانين، تحدّث أصحابها و لا تكلم أحدا. ترتدي تحتية واحدة في كل الفصول، بلا حزام و لا غطار رأس. تجوب كل الأمكنة و هي تتمتم بغموض أصبح أسرارا ربانية لدى الهاربات من أقدارهن. تدخل كل المساكن بلا استئذانو لا دعوة ليل نهار. من حيث لا تدري، أُطلق عليها اسم الحاجة مولودة. شهدت امرأة و أقسمت، أنها أثناء حجّها شهدت مولودة المسطية تطوف بالكعبة. ثقل الزمن على الوجه المتجعد و الجسد المتهدل و الفم ذي الشفاه المتدلية الممتعضة و كأنها تتقزز من الدنيا في صمت. في إحدى صباحات المدينة الصامتة، عثر على جسد الحاجة مولودة متفسخا و متفحما؛ فقد أحرقت بالبنزين. و انكمشت أسطورة الحاجة مولودة أو مولودة المسطية، لتدخل دهاليز النسيان. صالح المسطّي، ما يزال يحرس طفولة الكثيرين. يمد يديه أمامه متوازيتين مقلدا أصوات المحركات، دراجات نارية و سيارات؛ ڤڤڤ، ززز، ثم ينطلق عبر أقواس القيصارية و أرضيتها المحفرة. عندما يمد الأطفال و المبذلون أصابعهم الوقحة إلى مؤخرته المدلاة في السروال القنطريسي، يقفز و يهرب لاعنا ساخطا عبر دروب المدينة. كان وحده الباقي من مجانين الزمن و حمقاه ليشهد على ما تغير من وجه المدينة و الناس. سيدي المحجوب، من بقايا سطوة الزوايا و أركان الله في الأرض. شرقاوة لحرار و الويل لمن تشير إليه أصابعهم الغاضبة، فهم صناع أقدار. الجواد الأصفر و الطلس الأخضر و السلهام لبزيوي و الڭنبر و السبسي و المطوي المحشو بالنشوة الخضراء. الحكمة تنبع من كل شيء. -ڭول اخويا ڭول و الرداد حي!! و اللي ما عاش اليوم ابك عليه غدّا! يوم وفاته، توقفت الحياة في باب الخميس و لم يهب العجاج ذلك المساء إكراما لسليل قنديل تاداة، بوعبيد الشرقي، قطب آخر من أقطاب شرقاوة و المدينة، بن عبلة. نشوان سكران من الطلوع إلى المغيب و بقية الليل. لا عتاب و لا عقاب: -من اللي نمشو عندو يعمل اللي ابغا. حتى السلطة تعبت من المتابعة. من الحبس إلا البيسري تاع الشلوح و من البيسري للحبس. منو لله و راسو. قاوم الزمن بالسحنة و البدعية المتهدلة و البلغة الصفراء و الطاقية...ما تبقى من زمن السطوة و الصولة و...ليطرو و الشقيفات. و قد تغير كل شيء في مدينة الولي ذي القبة البيضاء إلا بن عبلة و الفصول، و كأن القاعدة الجغرافية موازية لأهل الحال و الأحوال. أليست القاعدة الجغرافية هي التي قدرت على المدينة أن تكون مركز، البيڭ بوص، اسم البطولة الأبدية، قدر المدينة و الناس، لعواصف العجاجا و الغبار التي تأتي من البحر الذي طلع منه النصارى، أحفاد ليوطي و تاليك. جحيم الصيف يجعل أهل المدينة يختفون نهارا و يملأون الشوارع و المقاهي ليلا. الشتاء جحيم آخر بزمهريره المشقق للأجسام المعروضة في أسواف النخاسة فجرا حتى سقوط الليل. رجال و نساء و أطفال و شابات تعوج قاماتهم تحت قهر الانحناء في حقول الشمندر و القطن و الفاصّة و الزيتون. لم يترك الزمن في الجميع إلا القهر فاستكانوا لنقش الزمهرير و جروحه الدامية على الأجساد، إما تحديا أو استسلاما للقدر و المقدر. يزفر البرد المقطع للوجوه الشابة، صقيعا يزركش وجه الأرض المنكمشة على نباتاتها و خضرتها المحتضرة. تُخفي شابات المُوقْف وجوههن المدلوكة بكريم نيڤيا بمناديل لحفظها من التشقق و الزمن و توفير الجمال المتبقي من القهر اليومي، في انتظار عريس لا يوجد إلا في المخيلة التي تشيّد أبراج المتمنيات على رمال البحر في وحدة ليل قصير يتبعه نهار طويل كسفر إلى القطب. في الأماسي المنعشة، تغرق شوارع المدينة و دروبها بالفتيات المتحولات إلى عرائس معروضة للعيون الشرهة من المقاهي، عيون ثاقبة جائعة وقحة، حائرة بين أوراق اللوطو و الكارطة و الأجساد الرجراجة و أكواب القهوة المرة و صواني الشاي...و تلك الوجوه المليئة بالأصباغ و الجلابات التي تخفي تمائم المحبة و السعد و القبول من أقطاب الزمن الذين لم ينهزموا أمام العلم و الحضارة و العصرنة. من سيدي قدّور إلى لالاّ فاطمة الشوافة و سفراء الليل على الأرض، سادتنا الطلبة نفعنا الله ببركتهم و علمهم، المنتشرين في كل البقاع و الأصقاع. في كل نظرة نبوءة من فقيه أو شوّاف يكون مجلبة لفكاك لوحايل و ليالي عرس و أضواء و طبول و نقش الحناء على الأكف و الأرجل... يطلع يوم جديد بجحيمه المشقق للوجوه و الأجساد و معوج للظهور و الانكباب على الأرض و ضرب العتلة و الغانجو، بحقد يتجدد على الزمن الذي لا يرحم، و تتغير التمائم من شوف إلى فقيه و من فقيه إلى شوافة. يزداد الإقبال على كريمات نيڤيا و آني و الفازلين المرطبة للخدود و المداوية للجراح الدامية التي تقطر على أرض مواقف النخاسة كل فجر. يرتفع صوت كورالٍ هو مزيج من الغضب و الحزن و الاحتجاج في الحقول و المزارع: آ ذاك الغادي إمتا معڭوبك؟ النهار طويل وامقسحو ڭلبك ماذا عنا نحن الذين وطئنا تلااب الولي ذي القبة البيضاء، سداجة و طفولة فجرفنا تيار الخبز و القدر، أين موقعنا؟ لقد كبرنل و شخنا و طوّحت بنا الأيام، على طول ذراعها عبر البحار و القارات، و لم يعد يذكرنا أحد. نحن الذين نذكر كل من خطى في الأقواس و الدروب المغبرة. لقد أصبحنا غرباء كقطرات المطر، لا وطن لنا. لقد فرخت الغيران فئرانا و نملا و بشرا. أصبح اللغط كالعجاج من كل مكان باللهجات و اللكنات و اللغات، الواضح منها و الغامض. أصبحت اللغة تضم كل تضاريس الوطن، سوس و الصحراء و زيان و الريف و فڭيڭ.. و ضاعت اللهجة العميرية في ما وراء البحار و عادت بلغات جديدة من مدريد و روما و باريس و نيويورك...و إلى حيث لا تستطيع جدتي الحلم و لو أعيدت إلى شبابها قرنا مضى. لقد ضاعت هوية عبد الله بن جابر و بزيكر بن خلوق و عيشة غزة..و لم نعد نسمع اهبال بوخداوية و لا سخونة الرأس ساسوبة و لا ابهيلات زِيّانية..حتى تواريخ الجْبارات ضاعت في الزحمة الجديدة. حتى الأقطاب الذين أخرجونا من حِماريتنا في سكويلة النصارى، و أثبتوا للكلب تاليك كذب نبوءته، أصبحوا نكتًا في المقاهي، لأن لا كرامة لنبي في وطنه. و مع ذلك فما تزال عيطة البلاد و الجواد و أهل الواد تتردد في جنبات المقاهي و الأسواق و الأعراس و الغضب و النزاعات. استقطاب الزمن العميري لا تتوقف مواكبه بساداته و رجاله لخواجة لحرار، مزغبين الوذنين، شرقاوة لحرار، بوعبيد الشرقي، موالين النوبة، سيدي لفقيه بن صالح و مولاي بوزكري... لقد تعبنا أنا و جدتي من ذكرياتنا المرة الطويلة. في غبش فجر ما، يرتفع صوت عميرية جفاها النوم، فلم يعد هناك شيء اسمه الغد في حياتها. حفرت الأيام أخاديد عميقة على الجلد المنكمش، و لم يبق منها إلا الجسد الواهي ذو الثنيات المجعدة المتهدلة تنفر منها الحياة. تلك جدتي، يرتعش صوتها و لا يسمعه أحد إلا هي: يا العالي آيا مولاي كا نبات نخمم يا رب شاب راسي ربي أيا مولاي ما يطيب انعاسي را فراق الكبدة جاني صعيب ثاني ربي أيا مولاي فين اهلي و فين ناسي يا رب الشكوى لمن؟ و يا قنديل تادلة، لتشع أضواؤك على الأركان المظلمة، فضوؤك لا ينطفىء! تلك هي أرض بني عمير التي أغرم بها أبي، و رفضتها أمي، و ينتظرني فيها جلاّدي، سفير الله على أرضه و وريث نبيه. ..يتبع.. مع تحيات المبدع عبدالله عدالي الزياني