في القرن السادس الميلادي، وقبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، كان في أرض العرب حنفاء يتكلمون ويهتفون بالتوحيد الخالص لله عز وجل، ومنهم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل القرشي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي، والمتلمس بن أمية الكناني، وأرباب بن رئاب، وورقة بن نوفل القرشي[1]... وكان الحنفاء لا يعبدون الأصنام ويأنفون منها ومن عبادتها ومن الذبح لها وحتى من عادات الجاهلية كدفن البنات أحياء (الموءودة). وقد روت أسماء بنت أبي بكر (ض) أنها رأت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: "يا معشر قريش، والذي نفسي بيده، ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري ثم يقول (اللهم إني أعلم أحب الوجوه إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلم)، ثم يسجد على راحته ويصلي إلى الكعبة ويقول إلهي إله إبراهيم... وديني دين إبراهيم". وروى أهل الأخبار أن زيد بن عمرو كان إذا خلص إلى البيت استقبله وقال "لبيك"[2]... أما وكيع بن الأسود الإيادي فكان يقول: "وإن من الأرض عبيد لمن في السماء". والمتلمس بن أمية الكناني، ذكروا أنه كان يخطب في الكعبة ويعظ قومه ومما قاله: "إنكم قد تفردتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله راض بها، وإن الله تعالى رب هذه الآلهة وأنه ليحب أن يعبد وحده" [3]. فكان الحنفاء يجاهرون قومهم في الجاهلية بنبذ عبادة الأصنام والتوجه لعبادة الله وحده، ومع ذلك لم يتعرض واحد منهم لسوء! لماذا؟ لأنهم لم يكن معهم منهج متكامل للتوحيد وللتغيير، إنما كانت ظاهرتهم لا تتعدى إلا الكلام، والكلام فقط. وهذا يفسر لنا سر العداوة البالغة والحرب الشرسة للجماعات التي تنتهج منهج الإسلام وتريد التغيير لمجتمعاتهم مثل (جماعة الإخوان المسلمين) وما على شاكلتها من الحركات الإسلامية المعتدلة، ويفسر لنا أيضا عدم العداوة للجماعات التي لا يتعدى جهدها إلا الكلام فقط مثل (جماعة الدعوة والتبليغ)، مع احترامنا لجهدها ولكل جهد يدعو إلى الله سبحانه وتعالى . ولماذا اتخذت قريش موقفا عدائيا ضد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام؟ لأنه كان معه المنهج الذي سيغير عبادتهم وعادتهم وتقاليدهم، وتصنيفهم للناس سادة وعبيد، والتفاخر بالألوان والأنساب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[4]، وهذا المنهج أيضا سيحارب تطفيفهم للميزان واقتصادهم الربوي؛ ففي سورة المطففين (المكية)، نجد قوله تعالى: { ويْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) }، وهذا المنهج سيحارب وئد البنات، ففي سورة التكوير (المكية) نجد قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)}. فالرسول (ص) جاء بالمنهج الذي يغير كل حياتهم رأسا على عقب، أي سيقوم بثورة ستغير كل شيء؛ لذلك اضطهدوا الدعوة الإسلامية بتنفير الناس منها، واتخذت آلتهم الإعلامية السخرية من الرسول (ص) واستهزءوا به {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}[5]. الإسلام لا يعرف أنصاف الحلول: ولم تكتفِ الدعوة الإسلامية بالثورة على الجاهلية وعبادتها الوثنية وعاداتها وتقاليدها، إنما توجهت حتى إلى أهل الكتاب اليهود والنصارى، ولو كان الإسلام من عند محمد -عليه الصلاة والسلام- لاكتفى بدعوة أهل الوثنية من كفار قريش وما حولها، فلا داعٍ أبدا ليفتح مجالا ثانيا في عداء الدعوة الإسلامية في مهدها بسبب الثورة على أهل الكتاب وكشف أخطائهم في عقيدتهم وتوحيدهم، قال تعالى في سورة المائدة: { لقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار (72) }، وقال تعالى في سورة التوبة: {وقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) }، وقال تعالى في سورة البقرة: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) 79) }. ولما لم يجدِ الاستهزاء بالإسلام وبرسوله عليه الصلاة والسلام، اتجهت قريش إلى الإغراء بالمال والجاه (إن كنت تريد مالا جمعنا لك المال حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا)[6]، فباءوا بالفشل؛ لأن الرسول (ص) لم يأتِ بالدعوة من عند الله لهذا. ولما فشل الإغراء، سلطوا عليه عمه أبو طالب ليثنيه عن دعوته الدينية التي تغير كل شيء في مجتمعهم، فقال الرسول (ص): (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى أهلك دونه)، وفي حديث آخر إسناده حسن: فحلقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ببصرِه وقال (ما أنا بأقدرُ على أن أدعَ لكم ذلك على أن تُشعلوا لي منها شُعلةً يعني الشَّمسَ) [7]. ولم تجد قريش بعد ذلك إلا طريق التجويع والحصار والمقاطعة الشاملة والإرهاب والتعذيب والاغتيال، فحاصروا بني عبد مناف بمسلميهم وكفارهم في شِعب أبي طالب، وعذبوا أصحابه وقتلوا الكثير منهم، وهُجر آخرون، وحتى الرسول (ص) كادوا أن يغتالوه لولا لطف الله وحفظه لرسوله وتوفيقه في الهجرة إلى المدينةالمنورة، وتوفيقه في هداية وفد يثرب إلى دين الإسلام في بيعتي العقبة الأولى والثانية، وهذا الوفد هو الذي سيأوي المهاجرين... ولم يتوقف الاضطهاد عند هجرة الرسول والصحابة إلى المدينة وإلى الحبشة في مرتين، إنما غزت قريش دين الإسلام في عقر داره في المدينةالمنورة في ثلاث غزوات (بدر وأحد والأحزاب) حتى يستأصلوا شأفته ويفنوا المسلمين بقائدهم عن بكرة أبيهم!... وبدأ يهود الداخل في النفخ من روحهم الخبيثة في نار الكيد ضد المسلمين ونقض المعاهدة التي كتبها معهم قائد الدولة الجديدة الرسول (ص) في المدينةالمنورة، وتحالفوا مع المشركين لإزالة دولة الإسلام الوليدة، ولكن الرسول تصدى لهم وأخرجهم من المدينة (يهود بني قينقاع الذين عروا امرأة مسلمة)، وأجلاهم بعدما حاولوا اغتياله (ص) (يهود بني النضير)، وأقام حد الخيانة العظمى مع (يهود بني قريظة) الذي حاولوا طعن المسلمين طعنات قاتلة من الظهر أثناء غزوة الأحزاب، وحاصرهم وأجلاهم بعدما كونوا جبهة لكل مناويء ومعاد للإسلام (غزوة خيبر). وبعد غزوة الأحزاب، قال الرسول (ص): (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) [8]، حتى تم له فتح مكة في العام الثامن من الهجرة.
الإسلام دعوة عالمية: وبدأ الرسول (ص) يكاتب الملوك حول الجزيرة العربية ويخاطبهم في الدخول في دين الله وكلمته الخاتمة إلى البشرية كافة؛ فقد بعث الرسول (ص) الحارث بن عمير الأزدي (ض) بكتابه إلى ملك الروم، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني وكان عاملا على البلقاء من أرض الشام من قِبل قيصر، وضرب عنقه، وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، وهو بمثابة إعلان حرب، فاشتد هذا الأمر على الرسول (ص) وعلى المسلمين، فجهز الرسول جيشا قوامه ثلاثة آلاف مجاهد، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة (ض)، وكانت غزوة مؤتة والتي جاهد فيها الصحابة القليلو العدد أمام مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة[9]، يعني (200 ألف) أمام 3000 من المسلمين. وبعث الرسول (ص) إلى كسرى ملك فارس الذي مزق الرسالة، فدعا عليه الرسول (ص) أن يمزق ملكه، وبعث إلى قيصر الروم بالشام، وبعث إلى المقوقس في مصر. وغزا الرسول (ص) الروم في غزوة تبوك انتقاما لغزوة مؤتة، وكان عدد المسلمين ثلاثين ألف وكان الجو شديد الحرارة، وفر جيش الروم من أمام المسلمين لما علموا بوجود الرسول -عليه الصلاة والسلام- على قيادة الجيش، وصدق الرسول (ص) القائل: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) [10]. وبعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى، جاهد خلفاءه الراشدين لإعلاء كلمة الله في الأرض وتبليغها للناس كافة، وكانت محطات مضيئة في تاريخ الإسلام في القادسية واليرموك وفتح القدس، وفي القضاء على الإمبراطورية الفارسية والرومانية، وتأسيس أمة مترابطة ودولة لا تغيب عنها الشمس في غضون ثمانين سنة، وكانت أعظم محطة هي بناء الحضارة الإسلامية التي أنارت الدنيا لأكثر من ألف عام.
ولم يسكت الرومان، ولم تنطفئ نار الحقد المتغلغل في نفوسهم، إنما جاءوا بعد ذلك في الحروب الصليبية والتي كانت بمباركة من بابا روما ذاته للقضاء على دين الإسلام. وكانت محطات مضيئة أخرى للمسلمين في حطين وتحرير القدس من براثن الصليبيين، ومحطات أكثر إضاءة في عين جالوت حينما قُضي على تقدم التتار، ذلك التيار الجارف والذي سقطت كل المدن أمامه ومنها بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية، ومحطات أكثر إضاءة في فتح القسطنطينية ونصف ممالك شرق أوروبا على يد الدولة العثمانية. ولم يسكت الرومان ثانيا، إنما جاءوا بعد ذلك بعدة قرون في صورة الاستعمار الحديث حتى قال اللورد اللنبي حينما دخل القدس: "الآن انتهت الحروب الصليبية"! كذلك تكرر المشهد نفسه من الجنرال الفرنسى جورو حين وصل دمشق، وذهب إلى قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال أمام القبر "ها قد عدنا يا صلاح الدين". وقالها الجنرال الفرنسي ليوتى حين دخل مدينة مراكش وذهب إلى قبر سلطان المرابطين العظيم وبطل معركة الزلاقة التاريخية يوسف ابن تاشفين وركل القبر بقدمه وقال: "ها قد عدنا يا ابن تاشفين"[11]. وجاءوا أيضا في صورة إنشاء كيان للصهاينة في قلب الأمة الإسلامية عام 1948 حتى لا تقم للمسلمين قائمة. وفي 2003، قال جورج بوش حينما بدأ حملته لإسقاط بغداد: "إنها حملة صليبية". وفي 2015، حين دخل جيش روسيا لسوريا، قال بابا بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، كيريل، بأنها حرب مقدسة أي صليبية!...
[1] انظر إلى كتاب الأحناف للأستاذ عماد الصباغ ص 33
[2] انظر إلى المرجع السابق ص 33
[3] انظر إلى المرجع السابق ص 33
[4] آية 13 من سورة الحجرات [5] آية 41 من سورة الفرقان [6] السيرة لابن هشام الجزء 1 ص 265 [7] الراوي عقيل بن أبي طالب في الحديث رقم 1/194 من سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني [8] حديث مرفوع) حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى ، أنا أَبُو نُعَيْمٍ ، قَبِيصَةُ ، قَالا : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الأَحْزَابِ : " الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَا " [9] البداية والنهاية لابن كثير الجزء الرابع غزوة مؤتة [10] رواه البخاري ومسلم عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [11] انظر إلى مقال "معركة العروبة والإسلام" للأستاذ محمد أبو الفتوح، وهذا هو رابطه: http://alarabnews.com/alshaab/GIF/04-04-2003/Fotoh.htm