تقديم: يُميّز في المواجهات العسكرية بين الحروب العادية وبين المعارك الحاسمة، وينبني هذا التمييز على النتائج المترتبة عنها، فإذا تعلق الأمر برد عدوان أو تحرير مسلوب فهذه حرب عادية، وإذا أسفرت المواجهة، بل انطلقت بداية على أساس تغيير نظام قائم أو مشروع فهي حضارية، ويترتب عليها تغيير نمط حضاري ومشروع مجتمعي بآخر. لذلك، فالمعارك من هذا العيار معدودة في تاريخ البشرية، ونفس القاعدة تحكم الغزوات التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الغزوات التي تصنف فاصلة وحضارية غزوات بدر والخندق وفتح مكة، فإذا كانت غزوة أحد ذات هدف انتقامي من طرف قريش لمسح عار الهزيمة المدوية في بدر؛ فإن الغزوات الثلاث كان دافعها هو استهداف المشروع الإسلامي الفتي لما غدا يشكله من خطر على مكانة قريش في الجزيرة العربية ومصالحها الاقتصادية. خصائص غزوة بدر وأسبابها: جرت العادة، أن يعتبر قرار اعتراض المسلمين لقافلة قريش التجارية الوافدة من الشام بقيادة أبي سفيان سبب المواجهة العسكرية بين المسلمين وقريش، والواقع أنما يعتبر سببا، إنما هو بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، ذلك أن دوافع وعوامل صدام عسكري قد توافرت، ولدى الطرفين معا، مما جعل المواجهة حتمية تنتظر ساعة صفرها فقط. كما يقول العسكريون، وهذه بعض مؤشراتها: 1. توعُّدُ قريش المسلمين باستئصال شوكتهم في المدينة، وقد أرسلت تهددهم بالإبادة قائلة: "لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونُبيد خضراءكم في عقر داركم"(1). 2. تهديد سعد بن معاذ أبا جهل بمنع قوافل قريش التجارية من عبور مجال المدينةالمنورة في اتجاه الشام، ردا على منعه من الطواف بالكعبة، ذلك أن سعدا بن معاذ انطلق إلى مكة معتمرا ونزل على أمية بن خلف، فخرج به في الظهيرة، فلقيهما أبو جهل فقال: "يا أبا صفوان، من معك؟" فقال: "هذا سعد". فقال أبو جهل: "ألا أراك تطوف آمنا وقد آويتم الصُّباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم. أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما". فقال له سعد ورفع عليه صوته: "أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما أشد عليك منه: طريقك على أهل المدينة"(2). 3. الإذن بالقتال: بعد سنوات "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" تربية للنفوس واستكمالا للبناء الداخلي، جاء الإذنُ بالقتال، ونزل قول الله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله"( سورة الحج: 37). 4. تقليص دائرة نفوذ قريش بين القبائل بعقد المسلمين أحلاف ومعاهدات عدم الاعتداء مع القبائل المجاورة للمدينة أو مجاورة لطريق القوافل التجارية من مكة إلى الشام. 5. تنفيذ المسلمين مجموعة من السرايا وبعمق ثلاثمائة ميل أكسبهم خبرة ميدانية وبعث رسائل إلى قبائل الجوار عموما، وقريش خاصة أن المسلمين غدوا قوة جديدة في المنطقة يجب الاحتراس منها. 6. تحويل القبلة: ففي شعبان من السنة الثانية للهجرة، أي على بُعد أسابيع معدودة من غزوة بدر نزل الأمر القرآني بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام. وقد يُتساءل: ما علاقة هذا الأمر بالتصعيد العسكري في المنطقة؟ والجواب هو أن تحويل القبلة له علاقة كبيرة بالمواجهة المرتقبة من جهتين: أولاهما أن في تحويل القبلة تمحيص لصف المسلمين اختبارا لصدق الإيمان، ولا عجب فقد تساقط المنافقون وضعاف الإيمان من اليهود، وبقاؤهم في الصف كان سيثير البلبلة أو يكون مصدر خيانة، وقد أبان القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله"(سورة البقرة: 142). وثانيهما أن في تحويل القبلة إعلان عن عهد جديد يقتضي تحرير قبلة المسلمين وتطهيرها من الأوثان، وفي هذا رسالة واضحة لقريش عن نوايا المسلمين كما يصطلح عليه بلسان العصر. هذه مجموعة أحداث تسارعت في أقل من سنة ونصف تؤكد أن حربا حضارية بين الطرفين باتت وشيكة وحتمية. ذلك أن من السذاجة اختزال المواجهة العسكرية بهكذا عوامل في تأمين قافلة تجارية مهما كانت ثروتها؛ فقريش تدرك أن هزيمتها في أول مواجهة مع المسلمين بعد الهجرة ستكلفها مكانتها وهيبتها في الجزيرة العربية، والمسلمون من جهتهم واعُون تمام الوعي بخطورة هذه المواجهة وفي ظروف صعبة ستعصف بمشروعهم الدعوي والمجتمعي، ولن تقوم له في حالة الهزيمة قائمة. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يناشد ربه ويلح في الدعاء سائلا النصر والتمكين لدينه عشية المواجهة: " اللهُمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللهُمَّ إني أنشدك عهدك ووعدك... اللهُمَّ إن تُهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد. اللهُمَّ إن شئت لم تُعبد بعد اليوم أبدا"(3)؛ بل إن القرآن الكريم أكد طبيعة الغزوة مميزا بين نوعين من المواجهة، اعتبارا لطبيعة الأهداف، فالمسلمون أرادوها عملية اعتراض للقافلة استردادا لبعض ما سُلب منهم من أموال غداة الهجرة، ولهذا سارع الرسول صلى الله عليه وسلم للخروج بمن تيسر لهم ذلك، في حين أرادتها المشيئة الإلهية أن تكون حاسمة إيذانا بميلاد مشروع جديد. يقول تعالى في مطلع سورة الأنفال: "وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليُحق الحق ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون". خصائص المشروعين: هي إذن حرب بين مشروعين غير قابلين للتعايش اختيرت لهما ساحة الوغى للحسم بينهما، أما المشروع القرشي ف" الله عز وجل حدد لنا معالم الجاهلية وخصائصها ومظاهرها، تلخص سماتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والسلوكية الأربعة: ظن الجاهلية، وحكم الجاهلية، وتبرج الجاهلية، وحمية الجاهلية. أربع خصائص ذكرت في القرآن الكريم تحيط بكليات الروح الجاهلي. وما سوى ذلك من مظاهر الجاهلية، وأخلاقها، وسبل معاشها، وطرائق فكرها إنما يتفرع عن هذه الأصول الأربعة ويتغذى منها ويستقي. "ظن الجاهلية جِماعُه وفلسفتُه وثقافتُه الكفر بالله واليوم الآخر، والشرك بالله، والإلحاد في دين الله"(4)؛ "ظن الجاهلية عاهة النفوس الجاهلية الأولى، ومصدر بلاء العقل والفكر والسلوك. وعن تخلخل العقيدة تتفرغ العاهات الجاهلية الأخرى"(5). "حكم الجاهلية سنده وعماده وقوته الولاء لغير الله وتحكيم لاستبداد أو لاختيار العباد. تبرُّج الجاهلية مظهره إرضاء شهوات النفس بقتل الروح"(6). حَمِيّة الجاهلية: "هي العصبية القبلية، والعنف الذي لا ينضبط، والتَّمالُؤُ على الباطل، ونُصرة أخيك العنصريِّ ظالما أو مظلوما...هي روح المعبود القومي. هي نقيصة في الدين وفتنة عظيمة لأنها تنقُض أساس وحدة الملة".(7) ولأن بضدها تتحدد الأشياء، فالمشروع المجتمعي الإسلامي يقوم على: الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، وما يترتب عنه من ارتباط العمل بالجزاء. تحكيم شِرعة الله، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما"(سورة النساء:64)، ذلك أن "حكمَ الجاهلية ظاهرُ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ظاهرُ تقيّدِ المجتمع بالشرع أو تفلّتِه منه، ظاهرُ السياسة إما أن تكونَ شورى فهي حق، أو تكون استبدادا ... أو تكون مُلْكا عاضا أو جبريا يمارسه باسم الإسلام ..."(8). العفة والحياء والوقار في كل مستوياتها سموا عن سفاسف الأمور ورذائلها. "والحياء شعبة من الإيمان". كما في الحديث. الولاء لله تعالى في إطار مشروع استخلافي يجعل رابطة الولاية والانتماء على أساس الإيمان تعاونا على الحق وتواصيا بالصبر. هما إذن مشروعان: مشروع إسلامي غايته إقامة مجتمع العمران الأخوي كانت واضحة معالمه في خطاب الصحابي الجليل ربعي بن عامر لقائد الروم رستم، جوابا على سؤال: من أنتم؟ وما تريدون؟ فلخص خريج المدرسة النبوية مشروع الإسلام في قولته الشهيرة: " نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"؛ مشروع يقوم على تكريم الانسان وضمان حقوقه وتمكينه من الانخراط في تأسيس مجتمع العدل والحرية والكرامة، ومشروع أسه الظلم والتظالم واحتقار الانسان وإذلاله ونشر التباغض وسفك الدماء وإذكاء الفُرقة والانتقام. مشروعان متناقضان لا سبيل للتعايش بينهما، لذا سمي يوم غزوة بدر بالفرقان، تمييزا بين الحق والباطل، بين الإيمان والشرك. شروط النصر وأسبابه: جرت العادة أن تنصبَّ التحليلات على الطرف المنتصر، أخذا للدروس؛ وحريٌّ بنا، وفي إطار تخليد ذكرى غزوة بدر الكبرى باعتبارها أم المعارك التي شرّعت أبواب التمكين للمشروع الإسلامي، وإن تأجل الحسم ست سنوات أُخَرَ لإعلان نهاية مشروع قريش والاعتراف بسيادة المشروع الإسلامي. وعليه، ومن خلال تدبر سورة "الأنفال" التي تناولت بالتفصيل أطوار غزوة بدر الكبرى، يمكن تحديد شروط النصر التي متى أُخذ بها المسلمون انتصروا في أي زمان أو مكان؛ شروط تتلخص في تحقيق المسلمين فرادى وجماعة العبودية الحقة لله تعالى ليستحقوا أن يصنفوا ب"أولئك هم المؤمنون حقا".( سورة الأنفال:4)، عبودية حقة هي ثمرة تربية وإعداد على جميع الصعُد استأصلت من النفوس خصائص الجاهلية ظنا وحكما وحمية وتبرجا، واستنبتت الولاء لله وللمؤمنين وثبتت آصرة الإيمان وقدمتها على غيرها من الأواصر، وهيأت النفوس لترضى وتطمئن إلى الاحتكام لشرعه والانخراط في الشورى، وربت المؤمنين والمؤمنات على العفة والتعفف والحياء قولا وسلوكا وفعلا، أسست كل ذلك على قاعدة الإيمان بالله وحسن الظن به، فالله تعالى، وهو أرحم بعباده، لا يريد بهم إلا خيرا. كليات جلاها سلوك الجيل الفريد، جيل البناء والتمكين، فتخلصوا من الشح والجبن والأنانية والبطر والتقاعس، فتنافسوا في البناء والبذل والتضحية، فلا عجب أن يكون التأييد الإلهي والنصر حليفهم، لمّا: 1. توفرت القيادة الربانية المحبوبة المؤلِّفة الجامعة ممثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2. أخلصوا النية لله تعالى: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورياء الناس"(سورة الأنفال: 48). 3. اتقوْا ربهم ولزموا سبيل الاستقامة استجابة وطاعة لله ولرسوله: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"(سورة الأنفال:24)، وإصلاحا لذات البين: "وأصلحوا ذات بينكم"(الأنفال:1). 4. توكلوا على الله تعالى وتجردوا من كل حول وقوة: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون"(سورة الأنفال:2)؛ توكل ويقين أثمرا ثباتا عند الزحف: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار...".(سورة الأنفال:16) 5. رصُّوا الصف وتصافت قلوبهم دفعا للشحناء والتباغض: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"(الأنفال:48). 6. أعدوا العدة وأخذوا بالأسباب الممكنة: "وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ..."(سورة الأنفال:60). 7. تخلصوا من آفة الاستبداد والاستفراد بالقرار، فتشاوروا وأسهموا، كل من موقعه في صناعة القرار: "فبما رحمة من الله لِنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضُّوا من حولك، فاعْفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر"( سورة آل عمران:159). وعمليا كانت الشورى حاضرة عند اتخاذ القرار بالمواجهة بعد انفلات القافلة في ذلك المشهد الرائع الذي سُر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كانت حاضرة عند اختيار مكان عسكرة المسلمين عملا برأي الحباب رضي الله تعالى عنه. 8. حرَصَت القيادة في شخصه صلى الله عليه وسلم على دوام التعبئة والتحريض رفعا للمعنويات: "يا أيها النبيء حرِّض المؤمنين على القتال..."(سورة الأنفال:65). 9. وقبل هذا ومعه وبعده، واظبوا على طرق باب رب الأسباب، فتضرعوا وتوسلوا واستغاثوا بمن وعد بنصر عباده متى لجأوا إليه: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم"(سورة الأنفال:9). خلاصة: إن غزوة بدر الكبرى ليست حدثا تاريخيا ولى زمانه، وإنما هي معلمة ومنار ينير للمسلمين في كل زمان طريق العزة والحياة الطيبة الكريمة متى استوفوا شروط التمكين والنصر التي بها تأهل أهل بدر لتأييد الله تعالى. غزوة بدر معنىً متجددٌ في الأمة متى قامت لتحق الحق وتبطل الباطل، ولسان حالها يقول: على أيدينا نسأل الله عز وجل أن ينزل قدره. فما أشبه واقع المسلمين وهوانهم وتكالب الاستكبار بنوعيه الخارجي والمحلي اليوم بأمس المشروع الإسلامي في بدايات تبلوره وبناء كيانه، استهداف مباشر وتشويه وتشكيك وتخويف وإرهاب وترهيب! وما أشبه جاهلية الأمس بجاهلية اليوم، ظنا وحكما وحمية وتبرجا! فهل يجود المولى الكريم بقيادات ربانية تعطي عربون الصدق من نفسها، قبل أن تطلبه من غيرها، وتسير في مجتمعاتها بنور الهداية والرحمة والحكمة النبوية رصا للصفوف وتعبئة للجهود بعد تربية على منهاج النبوة تخلص النفوس وتطهر القلوب من أرجاس الجاهلية وتحزب الأجيال في الله تعالى؟ وحيث إن الأمة الإسلامية موعودة بالنصر والتمكين متى استجمعت شروط النصر والتأييد الإلهي، احتراما لسنن الله في الكون أخذا بالأسباب وإعدادا للمستطاع من العدة، فإن تكالب الأعداء على المشروع الإسلامي والسعي لإجهاضه للحيلولة دون تبلوره واستوائه وأنى لهم ذلك؟ أكبر مؤشر على اقتراب بزوغ فجر العزة والكرامة تحقيقا لتقرير قوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكْر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين"(سورة الأنبياء:105،104). صدق الله العظيم. والحمد لله رب العالمين. الهوامش: 1. الرحيق المختوم. لصفي الرحمن المباركفوي. ط:2002، ص: 176 2. نفسه ونفس الصفحة. 3. الرحيق المختوم. لصفي الرحمن المباركفوري. ط:2002، ص: 197 4. الإحسان الجزء:2، ص: 523، للأستاذ عبد السلام ياسين. بتصرف. 5. العدل، ص: 580، للأستاذ عبد السلام ياسين. 6. الإحسان الجزء:2، ص: 523، للأستاذ عبد السلام ياسين. بتصرف. 7. العدل، ص: 582، للأستاذ عبد السلام ياسين. 8. العدل: 580، للأستاذ عبد السلام ياسين.