أريق الكثير من الحبر حول القصة القصيرة جدا، منذ بداياتها الأولى، إلى ترسخها نوعا، فرض نفسه في حقل السرد القصصي. للأسف، لم يكن الحبر كله يصب في مجرى الأدب، ليغذيه بالأفكار والنظريات...مثلما يفعل نقاد ودارسون. هؤلاء انكبوا، مخلصين، على فحص خصائص النوع و التأريخ له ورسم حدوده وأدواته الشعرية... فراكموا بذلك لبنات أولى لتراث دراسي لا يستهان به. أما الروافد الأخرى فهي تصب خارج مجرى القصة والأدب، عموما. إذ تركب موجة التعميم والاستسهال والقدح والتتفيه. ربما لايدفعها في ذلك إلا بحثها عن سلطة وهمية، تتكئ على تشنجها وانفعالها، في مقاومة مستميتة لهذا النوع الجميل، جملة وتفصيلا. هذه السحب المخيمة في الكلام اليومي، سرعان ما تغادر صوابها، لتنزل لعنات على الق ق ج وكتابها. لايتسع المجال هنا للبحث في هذه الحالة الغريبة. لكنه بالإمكان الدفع بفرضية صغيرة ومشاغبة مثل القصة ق ج. لربما يشعر هؤلاء – بمجرد ذكر الق. ق. ج- بأن عينا تحدق في مكان ما فيهم بسخرية.أليست الق. ق. ج هي ضد الثرثرة؟ لكن الكلام شيء والكتابة شيء آخر. أنى لأولئك أن يدزكوا حميمية القصة وطابعها اللعبي كما جوهرها الذي يشمل الإنسان عامة، وليس فقط أولئك الكتاب الذين يكدحون لتقديم الأفضل؟ إن القصة القصيرة جدا هي قبل كل شيء نية مبيتة لا ستكشاف تفاصيل العالم المنسية والمهملة. كوجيطو يحفز الذات المبدعة أولا للحفر، في ما تحت البدهي والعابر، عن تفاصيل أكثر تألقا، في حقل الإنسان والأشياء والطبيعة.... كل ذلك من أجل الكشف عن علامات وعلاقات ومفارقات ومعاني بأداة قصصية، تقوم على شعرية خاصة. من جهة ثانية ترتكز هوية الق.ق.ج على دعامة تواصلية، إذ تساهم- مع الآخر فردا ثم قارئا، في إعادة الاعتبار للإنسان والحياة. مبتدؤها هو القيمة ( أخلاقيا وجماليا وفكريا)، مادامت تنطلق من الدرجة الصفر( التفاصيل، المنسي، المهمش، العابر...). ناهيك عن التواصل مع التراث الخاص والعام. إضافة إلى النهل من الثقافة الوطنية بمختلف مكوناتها، وحتى من الكلام اليومي نفسه الذي يصبح هنا مرجعا مثل كتاب ( ياحسرة). الأمر الذي يجعل هذا النوع الصغير والجميل يسبح بحرية في عالم محين ومفتوح، تاريخيا وثقافيا. إن القيمة التي يمكن رصدها هنا هي الحضور.أي أن القصة القصيرة جدا تكتب – في- حضور كلي. وللحديث بقية.