لقد ظهرت القصة القصيرة أول ما ظهرت في القارة الوليدة، في الولاياتالمتحدةالأمريكية علي يد إدجار ألن بو، وذلك ليس من المستغرب إنها هي الجنس الأدبي الذي يحرر الفرد العادي من ربقة التبعيات القديمة، وظهوره كذات فردية مستقلة تعي حرياتها الباطنة في الشعور والتفكير، ولها خصائصها المميزة لفرديتها على العكس من الأنماط النموذجية الجاهزة التي لعبت دور البطولة في السرد القصصي القديم. ويُعتبر (إدجار ألن بو) من رواد القصة القصيرة الحديثة في الغرب، وقد تأثرت القصة القصيرة على يديه بالمقال الصحفي، وسرعة الحياة في القارة الجديدة، فلم يعد القارئ قادرا علي قراءة متن الرواية بطولها المعهود، فجاءت القصة القصيرة لتقدم للقارئ الأمريكي الحل المغاير، والوسيط الذي يشبع الرغبة في السرد والحكاية، وفي الوقت ذاته يماشي ويوافق تطور العصر السريع اللاهث. وقد ازدهر هذا اللون من الأدب في أرجاء العالم المختلفة، طوال قرن مضى على أيدي (موباسان وزولا وتورجنيف وتشيخوف وهاردي وستيفنسن)، ثم ازدهرت بحيث وصلت إلى أكبر قدر من التعبير المكثف الذي عرفته القصة، وتمثل ذلك في آمال عدد من الكتاب المحدثين الكبار في بداية ومنتصف القرن العشرين من أمثال جيمس جويس (1882 1941) وفرانز كافكا (1888 1923)، وأرنست هيمنجوي (1898 1961) وغيرهم مئات من فناني القصة القصيرة. كما أنها تمثل الشكل الفني الأنسب والأصلح للتعبير عن روح هذه اللحظة المتسمة بتسارع إيقاعها الحياتي، و بتوالي أزماتها وتوتراتها، و بتشظّي كيانها وتعقُّده. يقول موباسان "إن في حياتنا لحظة عابرة، قصيرة ومنفصلة، لا يصلح لها أدبيا سوى القصة القصيرة"( 1) وحين نأتي إلى المنجز القصصي في العالم العربي بلغت القصة القصيرة درجة عالية من النضج على أيدي يوسف إدريس في مصر، وزكريا تامر في سوريا، ومحمد المر في دولة الإمارات. إن القصة القصيرة في المغرب قصة تجريبية وهناك الكثير من الظواهر الكتابية والمعطيات الفنية تجعلنا نعتقد أن القصة القصيرة الحديثة جنس أدبي هجين، فليست جنسا خالصا صافيا مثل الرواية والشعر، فهي تأخذ من الشعر موسيقاه، وتأخذ من الرواية القدرة علي رسم المشهد البصري والمكاني، ويؤكد الناقد براند ماثيوز أحد المنظرين الأوائل للقصة القصيرة قبل قرن من الزمان وذلك في كتابه "فلسفة القصة القصيرة" عام 1901 أن القصة القصيرة لا يمكن أن تكون جزءاً من رواية، كما أنه لا يمكن أن يتوسع فيها كي تشكل رواية، ويؤكد بشكل قاطع بأن القصة القصيرة ليست فصلاً من رواية، أو حتى حادثة أو مشهداً تم استقطاعه من قصة طويلة، لكنها في أحسن أحوالها تؤثر في القارئ إلي أن يصل إلى قناعة أنها سوف تفسد لو أنها كانت أطول من ذلك أو لو أنها جاءت على نحو تفصيلي أكبر. كان كتاب القصة في الستينات من القرن الماضي واقعين تحت الفكر الأيدلوجي، فتمسكوا بوحدة الحكاية ودافعوا عن علاقتها الحميمة بالواقع وكان الواقع هو الملهم وكانت الكتابة هي الأداة لتغيير هذا الواقع. لقد تغيرت الآن وظيفة الكتابة وأصبح الواقع الكامن في عمق الذات الساردة يدور بين محورين أساسين هما المعاش والمتخيل. لقد انزاحت البلاغة اللغوية كلغة للكتابة، وصار كتاب القصة أمام ثنائيات تحكم سرداتهم طالت أم قصرت، فصار الكتاب يوقفون الذات أمام الآخر أيا كانت وضعيته، وسواء كانت الذات متعارضة ومتعايشة في الآن ذاته، صارت هناك ثنائيات تحكم السرد: المجتمع والفرد/اللغة الرسمية /لغة اليومي الشفهي و لغة المقدس المكتوب/الذهنية القروية والسلوك المديني المتحضر /الذوق الشرقي والموضة الغربية. ثنائيات متعارضة، متطاحنة صار على الكاتب المغربي أن يخوضها، وأن يجد صيغة للملمتها، وتفجيرها، وبثها في نصه القصصي القصير أو القصير جداً. ومن حيث المضمون فقد أضحت أكثر جرأة وإن كانت أحيانا تشتغل وفق جمالية المجاز لا الحقيقة، فهي تمس موضوع الحرية الجنسية وتحولات القيم والعلاقة المختلة بالسلطة وصراع الأجيال وما شابه مما جعلها تمرق بسرعة فوق خارطة التابوهات المعهودة، الجنس والدين والسياسة، وتعمل على تكسيرها. نريد أن نتحدث عن الجيل الجديد، فيطرح سؤال اللغة إشكاليته المعهودة، فلا الكاتب بقادر على نسيان الموروث الجمعي من تراث اللغة الفصحي، وميراثها الشرقي، ولا هو بقادر على الانسلاخ كلية من هيمنة اللغة الفرنسية، ولا هو أيضا بقادر على نسيان ميراثه من اللهجات المحلية والأمازيغية، فهل اللغة التي يكتبون بها قادرة على حمل كل هذا الهم الباذخ، وهل هم قادرون على الانسلاخ كلية من الأيدلوجيات الشمولية وسياسات التنميط اللغوي؟ إن الكتابة لدى الجيل الجديد، سواء كانت بالفرنسية أو العربية، هي تلك التي تجعل محورها الجسد والحياة اليومية، وفي مواجهة المقدس تمد جسور الذات الفردية والميراث التاريخي للذات الجماعية / المغرب كتاريخ وجغرافيا. إن الإرث الثقيل من اللا تشابه في المرجعيات المعرفية واللغات مع الذات، هو ما يشكل رأسمال كتابة الجيل الجديد من كتاب المغرب بكل اللغات. ومع ذلك نستطيع أن نسجل أن القصة القصيرة باعتبارها جنسا أدبيا حديثا قد دخلت في صلب الثقافة المغربية وكونت لنفسها مرجعية وأفقا تترجمه النماذج القصصية القليلة التي استطاعت أن تستوعب جوهر هذا الجنس الأدبي المستورد، ومن أهم الأسماء التي تطرح نفسها على الساحة القصصية المغربية من الجيل الجديد هي: وحيد نور الدين/ الحبيب الدائم ربي/ محمد صوف/ عبد العالي بركات/ سعيد منتسب/ خالد أقلعي/ زهرة رميج/ مليكة بنت المستظرف/ عز الدين الماعزي/ عبد المجيد شكير/ محمد بن عبود/ مصطفي جباري/ عبد الاله الموسي/ فاطمة بوزيان/ لطيفة البصير/ خديجة اليونسي/ حنان درقاوي/ لطيفة باقة/ ربيعة ريحان، ومصطفي لغتيري وعبد الله المتقي، هشام حراك/ هشام بن الشاوي، إلخ. إنها أسماء باتت تشغل ساحة المشهد القصصي المغربي متناً وهامشاً. لقد اختلفت مستويات الكتابة وتباينت لدى كتاب القصة القصيرة، خاصة منهم، أولئك الذين باتوا يشكلون ما يمكن أن يُسمي بالحساسية الجديدة، ويشكلون بأسمائهم وإبداعاتهم إضاءات أساسية من شأنها أن ترتقي بالمشهد القصصي علي نحو متقدم إلى مستوي الحداثة. يؤكد الدارسون أن القصة القصيرة فن زئبقي يتأبّى الانضباط لقانون مؤطر ومحدد، ويرفض التقيد بإطار ستاتيكي معين. يقول – مثلا – المديني: "إن القصة القصيرة كانت دائما، ولا تزال، خارج أي تأطير متعسف وبعيدة عن أن تُبْتَسَر، كفن، في منظومة فكرية جاهزة"(1)، ومَرَدُّ ذلك إلى أنها "عالم ثري، رحب، شديد الاتساع، لأنه عالم الإنسان من وجهة " (2)، ومن وجهة أخرى فهي "شكل غير مكتمل أو جزئي". (3) وحيد نور الدين لقد أكّد آلان روب جرييه على وحد الانطباع في القصة القصيرة، ولكن مع قصص وحيد نور الدين لا يمكن أن ننتظر وحد الانطباع، إنها لا تهتم أن تترك انطباعا ما في نفس القارئ بقدر ما تهتم باستفزازه وتحريضه ورفضه إن اقتضت الضرورة. أو على الأقل أن تخلق معه حوارا آخرا، هو حوار يرتكز على اللحظة الراهنة وعلى ورطة الذات في الوجود وورطتها في النص، وورطة القصة القصيرة بين أجناس أدبية حديثة وقديمة مثقلة كواهلها بميراث ثقافي وفكري محافظ وتقليدي، ضرره أكثر من نفعه. يصف في قصته صراع الذات الساردة وهي ذاهبة للإعدام، ورصد إحساسها بالعالم، تفاصيله، حسرتها عليه، سخريتها منه، ويبالغ الكاتب وحيد نور الدين في رصد تمالك الذات لنفسها، فهو يطلب قبل موته أن يستحم ويتعطر، ويسمع موسيقي: "الرفاق يستعجلون إطلالة على الدنيا، بعيون رجل في عداد الموتى، من خلال تلك النافذة. ها إنهم ينقرون و ينادون من وراء الجدار حيث اللوحة الجديرة بمتاحف التتار... دعوني أرتدي ثيابي أيها الرفاق، وأنظر نفسي في مرآة الدولاب، وأخاطب وجهي كإنسان لا كسقيطة لحم بلا شحم... لحم أحمر في كل الأحوال. أتفهم لهفتكم على أخبار الدنيا. مثلكم كنت أتحرق شوقا لأصوات من رحلوا، من وراء ذاك الجدار. دعوني أخاطب هذا الوجه الذي رافقني طوال هذا المطاف، و مع أول صيحة ديك سيفارقني وأفارقه إلى الأبد. أحقا أنت وجه مجرم سفاح يا وجهي؟ ما الفرق بينك وبين القاضي الذي نطق بحكم الإعدام في حقك سوى أنك طبقت قانونك وهو طبق قانون الغير؟... مهلا، مهلا يا رفاقي؛ لا تخبطوا علي الجدار هكذا. قد ينفرج المكان، في اللوحة مقدار أنملة، و قد يصيح الديك قبل الأوان!... هاي النافذة تعتريني رعشة حين أفتحها! وذهول! أدعك عيني جيدا ثم أبص وأبص... لا شيء وراء النافذة!؟؟ لا شيء بتاتا!؟... كل الذين مروا من هنا حكوا حكايات من خيالاتهم لا من خلال النافذة، فلا نافذة على الدنيا غير الدنيا بأكملها... ولئن حكيت الليلة أيضا من خيالي فليس خوفا من أن يستفيق الديك، ولا مراعاة للكأس الطافحة مرارة وكمدا، إنما أفعل تبنيا لفلسفة كل الذين مروا من هنا، و الذين هم رفاقي في هناي؛ فأنتم هناك: - ”أرى سماء زرقاء، و من تحتها البحر يا رفاقي... ما أجمل الأزرق! تذكرون اللون الأزرق !... وباقي الألوان... و ذاك صقر من فصيلة عابرة للقارات... يتهادى مجنحا في الجو... موسيقى من فضلكم؛ موسيقى keoma(1)!... كيوما... كي... يووما... كي يو... وو...ووما... موسيقى، و ليفق الديك وأبوه الذي لا يعرفه... كي يووما... وذاك ديك ينبش في الأرض لدجاجات هائمات... لولا ذاك الكتكوت الذي، حتى قبل البلوغ، يتطلع من باب الفضول... ويتعلم كيف ينط، ليمتطي!... يهجم البالغ على اليافع... والصقر صاعقة من السماء تنزل... كي يووو... ما... كي يووما...." - " ققو...عععوووه..." هشام بن الشاوي لقد وعى كاتب صغير السن مثل هشام بن الشاوي لا تتعدي تجربته القصصية بضع نصوص نشرت هنا وهناك في الجرائد والمواقع الإلكترونية، وعي ضرورة رفض المقولات الأرسطية بوحداتها الثلاث- الزمن والمكان والحدث.. لقد وعي الكاتب بآليات التجديد في السرد، كما وعي بنوعية القارئ الذي يكتب له. فالكاتب في قصته يمزج بين زمنيين مختلفين، زمن السرد وزمن الحدث، يقدم لنا قصة داخل قصة يقول...: في زمن ما.. زمن ظلامي على أي حال.. في عالم سفلي لا يستحق إلا أن تتبول عليه من مرتفع ما حتى لا تغرق رجلاك وسط ال... (تسمع جلبة وصفير.. يختفي صوت الراوي، ويتعلل "أحدهم" أن عطبا فنيا وراء انقطاع (اختفاء؟!) صوته). ينطلق صوت أثنوي دافئ محفوفا بموسيقى ناعمة: أيها الحضور الكريم! رجاء، لا تنزعجوا.. ولا تهتموا بمتابعة هذا الفصل المسرحي اليتيم، فلدواع سياسية (وتنطق السين ثاء غنجا) فرض علينا بثه، ولا تنسوا أن مؤلفه يعاني من عقدة أوديب وعقد أخرى..!! ونعدكم ببرنامج سمر حافل يتلاءم وأجواء ليالي الصيف البهية في بلادنا الخلابة.. شكرا لحضوركم مرة أخرى!! ( تصفيق حار متواصل ) **** يقف الأخ الأكبر على شفا الحفرة، والأب الروحي يمد إليه يديه في توسل، طالبا منه الغفران.. يندفع الأخوان خارجا، محطما الأعصاب، يرتميان على التابوت، ينهاران بكاء.. يناشدان روح أمهما أن تصفح عن جرمهما.. ويصيح بهما الأخ الأكبر: أغربا عن وجهي..!! نري الكاتب يكسر وحدات الزمان والمكان ، ويقدم لنا قصة داخل قصة ، زمناً للسرد ، وزمنا للحدث . لقد سيطرت اللغة ذات الصوت اللاذع الذي يظهر الصراع الذي يعيشه الكاتب، وقطيعته مع واقعه و نمط عيشه مما يشير إلى أزمة مرجعية معرفية، كما يشير إلي اختلال منظومة القيم التي تخلخلت بسبب استشراء قيم الفردانية وتراجع العقلانية أمام بروز قيم السطحية والمباشرة، في غياب تقديم البديل. كل هذه المعطيات والمهارات المرتبطة بالقصة القصيرة كفعل إبداعي، جعلت القصة المغربية تأخذ مسارات جديدة تتسم بالحركية والدينامية على مستوى الإبداع والنشر. مليكة بنت المستظرف وهناك نموذج آخر من هذه السرديات يقرب لنا الصراع الذي تعيشه المرأة المبدعة، صراعها ضد المجتمع من ناحية، مثلها في ذلك مثل الرجل، وصراعها ضد الرجل ذاته، فالرجل يمثل القهر، والمرأة تعاني من القهر المزدوج. ومن هؤلاء الكاتبات اللاتي عبرن عن هذا الصراع هي الكاتبة الراحلة مليكة بنت المستظرف، القصة القصيرة تفضل الحكي بضمير المتكلم وبالتالي ترغم المتلقي علي الدخول والتورط والمواجهة.. تجعله جزءا من هذا العالم الذي تقدمه، تورطه في رؤية العالم من منظور الذات الساردة وانفعالاتها وأبعادها وأوجاعها، تحدث تداخلا بين الذات والموضوع. وهو الأمر الذي نجده بارزا لدى القاصات العربيات بصفة عامة حيث تتحول الكتابة إلى نوع من المكاشفة وعرض صراع الذات مع الآخر، صراع داخلي علي مستوي الوعي بقهر الذات، وصراع خارجي علي مستوي عرض للهم العام، ومناقشته مع الذات. تقول في قصة موت: أضغط على الريموت كنترول... المذيعة تبتسم تظهر أسنانها البيضاء اللامعة.. كيف تستطيع الحفاظ على أسنانها بيضاء؟ وقد هاجمت إسرائيل مدينة غزة انتقاما لمقتل جنديين إسرائيليين "... وتزداد ابتسامتها اتساعا... تضع عدسات لاصقة خضراء اليوم بنفس لون الفستان الضيق.. اللون الأخضر يناسبها جدا. يكشف الفستان استدارة نهديها... وجد معايا الطبلة- لحم الغنمي يكفي علاش حمرتي حتى الدجاج؟- "جثت متعفنة .. رؤوس مفصولة عن أجسادها" اغرز الشوكة والسكين في قطعة اللحم ألتهمها بتلذذ." والمونولوج الداخلي هنا يرتكز على اللحظة الراهنة وعلى ورطة الذات في الوجود وورطتها في النص، وورطة القصة القصيرة بين أجناس أدبية حديثة وقديمة مثقلة كواهلها بميراث ثقافي وفكري محافظ وتقليدي، ضرره أكثر من نفعه. إن التراكم في هذه الحالة لم يؤد إلى (الكيف) الطبيعي وإنما أدى إلى القطيعة بين قصة الستينيات والقصة المعاصرة، أو بالأحرى لم تتبلور قصة قصيرة جديدة يمكن اعتبارها ابنة شرعية لقصة الستينيات بقدر ما تبلور الآن لدى الكتاب الشباب وعي قصصي جديد سواء في التعامل مع اللغة العربية الفصحى أو في التعامل مع مكونات وميكانيزمات الكتابة القصصية الجديدة. القصة القصيرة جدا ضرورة ملحة فرضت علي المشهد الأدبي القصصي المغربي: إن القصة القصيرة جدا- بناء على ذلك- ظهرت إلى الوجود وبدأت شيئا فشيئا تفرض نفسها على المشهد الأدبي المغربي، لأن هناك ضرورة ملحة لوجودها، وذلك تلبية لمطلبين مهمين، الأول أهمية ملاحقة التطور المتسارع في القصة القصيرة المغربية؛ والثاني التغيرات العالمية المتسارعة، والتي فرضت هيمنتها بشكل طبيعي علي الحياة الاجتماعية المغربية، فكان لا بد من ملاحقة هذا التطور بشكل متطور أيضا علي شكل القصة القصيرة. وهي بلا شك تشكل إضافة نوعية إلى المتن السردي المغربي شكلا ومضمونا. حققت القصة القصيرة جدا بالمغرب نجاحات على مستوي الكتابة والقراءة لقدرتها الفائقة علي التكثيف، وبلاغتها في التأويل والترميز، فمتنها المكثف والموجز جعلها قادرة على الانفتاح علي أفق واسع من التأويل، والإيجاز الذي يعتبر ميراثاً بلاغيا قديماً، والكاتب يستطيع التقاط لحظة شعورية أو حدثاً مثيراً أو شخصية فارقة، ويقدمها في كلمات موجزة، قادرة على اختزال العالم، ورؤيته بشكل ملم ومحيط به من خلال متن لا يتعدي بضع كلمات أو سطور، وبذلك يمكن للكتابة أن تخلق عالما موازيا للواقع وتتسم اللغة السردية في القصة القصيرة جداً بالطزاجة والحيوية، وتميل إلي كثافة الشعر، فهي تصبح دفقة سردية لا تعتمد علي تراتبية الحكي، ولا تتخذ من زمن السرد تكأة، بل تميل إلي التشظي وتفتيت اللحظة السردية، وعدم الترتيب المنطقي للحدث، وتفتح أفقا للاحتمالات الدلالية. وتتنوع القصة القصيرة جدا بين الفكرة الذهنية الخالصة، والدفقة السردية التي تقدم رغم قصرها وكثافتها أشخاصاً من لحم ودم، أو لحظات شعورية مكتملة، وتصير للحظة مفسراً لهذا التيه الوجودي، فربما يقوم القاص في لحظة فارقة بدور الفيلسوف الذي يفسر العالم ويعالج القلق الوجودي، في كثافة سردية دافقة. والقاص لهذا الجنس الأدبي الوليد يتجاوز شكليات ووضعيات القصة القصيرة، ويوظف التقنية لحظيا. ويسعي دائما إلي عن تقنيات متجددة ومغايرة فكل المضامين لا تقدم بنفس الطريقة، ولا تسرد بنفس التقنية، لذا يجد القاص نفسه دائم البحث والمغامرة، يسعي دائما لسبر غور التقنيات، وتخليق تقنيات تتسم بالجدة، ويعمل علي تكسير الزمن، يقفز عليه قفزات كانت غير منطقية في أساليب الحكي العادية. فالقاص عز الدين الماعزي يقدم لنا ذلك النموذج الإبداعي المكثف، الذي يعتمد علي بلاغة الإيجاز مع قدرة شديدة علي التكثيف، والتقطير، فيقول في قصتين قصيرتين له: يد على القلب "الطفلة التي رأيتها قديما بين أطفال المدرسة تلعب الكرة، تقذف بدوائر ملونة جسمها النحيل، رأيتها بجسد ظبي أبيض مليء بالصور يتصبب عرقا خلفها أطفال يلهثون وهي تعتمد الاطمئنان بالابتسام. الطفلة التي رأتها عيني فجأة. كانت لا تكف عن اللعب بنظارة طبية، تفحص الأطفال الذين أفرطوا في الصمت والخوف، تضع يدا على القلب والوجاس في اليد والقلب على الأطفال." فينتقل القاص في هذه الدفقة الشعرية من زمن إلي زمن، يلعب بزمن الحدث، فالطفلة الصغيرة التي كانت تشاركه اللعب، وتقذفه بالكرة، يراها الآن طبيبة كبيرة، تمارس مهنتها بجدية تامة، ولا تلتفت لهسيس الصغار الذين تفحصهم. الماء الصالح ل..... "أسفل الساقية رأيتها تحمل جرة ماء، خطوها وئيد تمشي كالنمل طول الطريق.. العربة البطيئة تمر قربها لا تنتبه إليها، هي تئن حين تحضر الماء من الساقية إلى البيت والعربة تمد عنقها الخشبي الطويل تتمدد وهي لا تتعب، لا تتعب من نقل الماء في الجرة من الساقية إلى البيت وأنابيب الماء الصالح للشرب تتمدد كلسان يبتلع الطريق تحت أرجل المرأة المثقلة بالجرة، أسفل الساقية والعربة المثقلة ببرميل وجرات الماء الذي لم يعد صالحا للشرب..." في اللقطة الثانية نلمح صراع الذات المتعبة من أجل استمرار الحياة فقط، فها هي المرأة كل ما تطمح فيه أن تقدر علي مواصلة رحلة المعاناة اليومية، فنجد المرأة تئن بالمقارنة بالعربة التي تحمل الماء. وهناك كاتب آخر من كتاب القصة القصيرة جدا وهو عبد الله المتقي، يقول في قصته تقاطع: وحده هناك ... أو حيث هو... يحتسي قهوته وسط سحابة من الدخان الكثيف لسجائره التي تعاقبت على شفتيه... كان يخلل لحيته بأصابعه النحيلة... و... ويتلصص على هذه المقهى الصامتة... ثمة كراسي فارغة ... ثمة ذباب يلحس وجه رجل كالمغمى عليه... ثمة امرأة تصفف شعرها... وثمة ... امرأة عارية وجميلة كحواء... تعرش في ذاكرة الرجل ... تقضم نصف تفاحة... ثم ريثما تتشظى ... فينفتح رأسه كالصنبور... ليساقط على لحيته وعنقه ماء دافئ. يفرك الرجل عينيه... ينتصب واقفا... يدس علبة سجائره في جيب جاكيتته... و... ويتدحرج إلى الخارج.... فالذات هنا تتشتت، تتشظي، تتقاطع مع الوجود ومع الآخر، فهو هناك وحده، يرصد الكاتب، تفاصيل هذه الوحدة، وهناك آخر لا يتقابل معه، بل هما متقاطعان دوما، فهو وحده هناك... وثمة امرأة أيضا هناك، ويعتمد الكاتب علي المفارقة في تصوير الأنا والآخر. ويجب أن ننتبه إلي غواية الاستسهال لدي بعض كتاب القصة القصيرة جداً، فتأتي القصة سطحية أو غير عميقة، فهي ليست حكاية قصيرة جداً وإنما عمل إبداعي يطمح إلي التكثيف و الرمز و الإيحاء. ففنية القصة تكمن في الطاقة الشعورية التي ترسخها وتعمقها في وعي ووجدان القارئ، فالقصة.. القصيرة جدا التي لا تدهش القارئ، وتقدم له لحظة مغايرة، وتغير وعيه ونظرته للعالم بعد قراءتها لهي قصة سطحية تافهة امتطت صهوة السهولة والاختصار، يجب أن يصبح القارئ ليس هو ذاته قبل قراءته للقصة، يجب أن تغير في وعيه للعالم الذي قدمته. هي بحال تحتاج إلي تقنية عالية، ومهارة فنية، وقدرة علي الإيجاز والاختزال، وبناء سردي محكم. فإن القصة القصيرة، وإن كانت تحتل اليوم المرتبة الثالثة بعد الشعر والرواية، تبقى الجنس الأدبي الأكثر تنظيما لنفسها ولزمنها الإبداعي والنقدي، على الأقل من خلال تضافر ثلاثة مستويات تتكامل في ما بينها: على مستوى نشر المجموعات القصصية، وعلى مستوى نشر الدراسات والأبحاث النقدية الموازية لها، وأيضا على مستوى ظهور جمعيات ومنابر موازية تُعنى بنشر القصة القصيرة ودراستها وترجمتها، وذلك بشكل يدفعنا اليوم إلى القول بحدوث تحول جديد في وضعية القصة القصيرة بالمغرب، إبداعا ونشرا ونقدا، بموازاة ظهور جيل جديد من الكتاب الشباب، سيشكل مستقبلا، وبلا شك، تيارا جديدا قائم الذات، له أسئلته وحساسيته التعبيرية وهواجسه الإبداعية..