للشاعر المغربي عبد الرفيع جواهري علاقة أصيلة بالموسيقى، فقصائده تغنى منذ الستينيات وتعد من أجمل وأرقى قطع الغناء العربي، التي يمكن الاستماع إليها، والشعر بطبيعة الحال هو أقرب الفنون إلى الموسيقى، لكن ليس كل شعر يكتب يغنى، وليس كل شعر يغنى يكون جديرا بأن يُسمع، كما أن الشاعر الحقيقي يحن دائما إلى الغناء، لا بحثا عن شهرة أو سلطة ثقافية إضافية، وإنما هو حنين فطري تمتد جذوره إلى أزمنة قديمة، كان فيها الشعر هو الغناء والغناء هو الشعر، ألم يكن هوميروس يغني أناشيده بنفسه، وألا تعد «الإلياذة» أغنية العالم الأولى؟ وفي الهند كان «طاغور» يلحن أشعاره ويغنيها بصوته، ومن قبله بقرون كان أمير خسرو يعزف على أوتار سيتاره ويغني قصائده في كل ليلة. هذا الحنين الفطري نجده لدى عبد الرفيع جواهري الذي له من الشعر دواوين كثيرة ولا يغني ولا يلحن، لكن شعره غناء يجري في كلماته النغم، وتجتمع الموسيقى بين حروفه، والغناء مرادف للشعر في لغته ولا انفصال بينهما في نفسه ووجدانه، فهو يصف الشعر بالغناء، ويبحث عن الموسيقى في كل شيء من حوله، وكثيرة هي الأمثلة على ذلك في قصائده المغناة، كقوله في نهاية أغنية راحلة وهو يواجه وداع حبيبته ويسألها: «لمن يا إلهة فني؟ لمن سأغني؟»، فلم يقل لمن سأكتب كلماتي أو لمن سأنظم أشعاري، وفي أغنية القمر الأحمر عندما يصف نهر أبي رقراق قائلا: «ورقراق موجاته أغنيات» و«على شاطئيه ارتمى اللحن والمزهر» و«تعرى الجمال شدا الوتر» و«خشوعا أطل كطيف نبي وفي السفح أغنية تزهر»، نشعر بأن الموسيقى والغناء يمثلان الجمال الأسمى في مخيلته. وكذلك في أغنية «قصة الأشواق» عندما يتغزل بنهره الحبيب ويقول: «وتري إذا غنى حلا لو راق، كان الغناء رقراق يا رقراق»، وفي قصيدته الرائعة التي كتبها عن الحرية وغنتها المطربة المغربية الراحلة رجاء بلمليح، نجد أن العنوان الذي اختاره الشاعر لهذه القصيدة هو «أغني لها»، فالغناء لديه هو أكبر تعبير عن الحب، وأقصى تمجيد يستطيع أن يقوم به، أو هو نوع من التقديس تستحقه الحرية، وبعد أن يخبرنا عن هذه الحرية ويقول: «هي من جسدي، روحه والدم» و«هي روح الجمال صاغها الألم»، يكون جميلا وصفه لها على هذا النحو «اسمها رائع، اسمها نغم»، حينما يتغزل فيها ويعدد محاسنها، كما يقول في أغنية ذكرى طفولة «ومن شفتي أطلت أغاني»، وفي قصيدة مدينة العاشقين التي نسمعها أيضا بصوت رجاء بلمليح يقول: «أبحث في جباله بين الضياء والحجر، عن نغمة مقدسة أزرعها أعلى وتر»، فالموسيقى من أهم أسس مدينة الشاعر المثالية، التي يشيدها في خياله فوق القمر، ويفتح أبوابها / قلوبها لبشرية يرى أنها تستحق السلام والحب، رغم كل شيء، وفي أغنية ميعاد يقول: «كالطفل أنظر للدنى تشدو وترقص حولنا»، وحتى عندما يذكر الشعر باسمه في قصائده، فإنه يقرنه بالموسيقى أيضا، كما في أغنية رموش حين يقول: «اخضوضر الشعر والإلهام في وتري»، وإلى ما هنالك من أمثلة تدل على ارتباطه الحقيقي والصادق بالموسيقى والغناء. كان مقدرا لقصائد عبد الرفيع جواهري أن تلتقي بموسيقى عبد السلام عامر، كما التقت يوما كلمات أحمد شوقي الفصيحة والعامية بألحان محمد عبد الوهاب، وتعد أعمالهما معا وفي مقدمتها أغنية «القمر الأحمر» التي كان الجمال فيها بالغا نهايته، من أفضل النماذج الدالة على تأثير الشعر في الموسيقى وتأثير الموسيقى في الشعر، حيث تعبر الألحان عن المعاني المنطوقة وغير المنطوقة في القصيدة، بينما تفتح القصيدة أمام الموسيقى آفاقا لا حدود لها، ولا تخلو أشعار الجواهري من موسيقيتها الخاصة، فنطرب لإيقاع النظم والألفاظ، كما نطرب لصوته الذي نسمعه في بداية أغنية «القمر الأحمر»، وهو يلقي بعضا من أبيات قصيدته ويقول: «غلالة ورد تلف المروج، وموجة عطر المساء تبحر، لتروي للغد كل الحكايا، يعانقها سحرها الأعطر، لتحكي أن غلالة ورد يهفهفها القمر الأحمر، ليزجيها لبلادي عطايا هوى بالضياء تزخر»، ولم يكن عبد السلام عامر وحده من قام بتلحين قصائد الجواهري، فقد امتزجت بموسيقى وتفسيرات ورؤى فنية للكثير من الملحنين الآخرين مثل، حميد بن إبراهيم وعبد الرفيق الشنقيطي وحسن القدميري وسعيد الشرايبي وغيرهم، وشدت أجمل الأصوات المغربية بكلماته، مثل عبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني وأحمد الغرايبي، وبعض الأصوات الأنثوية مثل، بهيجة إدريس ورجاء بلمليح وكريمة الصقلي. منذ بداياته الشعرية ألقى عبد الرفيع جواهري بنفسه بين ذراعي الطبيعة، التي فتحت له أحضانها، وفتحت له أيضا ملكوت الخيال، ووهبته الروح المشبعة بالجمال، وقوة الاستحضار والقدرة على خلق الصور الوصفية، والتعبير عن الأخيلة والمشاعر. عندما نستمع إلى قصائد عبد الرفيع جواهري، أو أغنياته عن الحب، لا نجد ذلك النوع من الغزل المائع ولزوجة العواطف المفتعلة، والعبارات الجامدة الباردة، والكلمات الجوفاء التي لا روح فيها ولا حياة، وإنما تأسرنا الكلمة الصادقة في إحساسها، وتبهرنا جزالة اللفظ وقوة التركيز الشعري، وهو يميل بتلقائية نحو أعماق المشاعر لا سطحها، وتُظهر أغنياته العاطفية، بما فيها من مشاعر تتعاقب في اندفاعها، سمو ذوقه وثراء وجدانه، وقوة الفكر والخيال والعاطفة في لغته وصوره وفنونه الشعرية كافة، هذه المشاعر نأخذها بجدية إلى أقصى حد وننتبه إليها جيدا، فالشاعر لا يبالغ في تعبيراته والبوح لديه ليس مجانيا، فعندما يصف الألم نعلم أن وراء الكلمات آلاما مضاعفة، وعندما يتغزل في الحبيبة نعلم أن القلب قد جُن تماما، وأن العقل يجاهد لكي لا يفقد صوابه ولا وقاره أيضا، وما أجمل أن نستمع إلى أغنيات مثل راحلة بصوت محمد الحياني، المذهل بشاعريته ودراميته والتنويع في الأداء والقفلات الغنائية الصعبة، وتلاشي الصوت، مع ترديد كلمة راحلة، وموسيقى عبد السلام عامر وعبقرية انتقالاته اللحنية، وحسن توظيفه للوتريات، وكلمات الشاعر التي تغرقنا تدريجيا في مشاعر الحزن الذي سببه غياب الحبيبة الراحلة عن الحي «يحادثني الصمت في مقلتيك ونظرتك الحلوة الذابلة بأنك عن حينا راحلة» والخوف من آثار فراقها «وفي الحي في كل درب سأرشف دمعي». وأغنية «ذكرى طفولة» بصوت محمد الحياني أيضا وموسيقى حميد بن إبراهيم، حيث يعبر الشاعر عن النسيان والتغلب على ذكرى حب مضى، والشفاء من الجروح القديمة، والفرح والتطلع إلى المقبل، «نسيت هواي وقصة أمسي، نسيت الذي قد توارى وراح، هفوت لذاك الذي سوف يأتي»، وأغنية ميعاد بصوت عبد الهادي بلخياط مع اللحن الممتع لعبد السلام عامر، ومقدمته الموسيقية التي تضع المستمع على الفور في حالة القلق، التي يعبر عنها الشاعر بكلمات تمتلئ بالحب واللهفة «مازلت أذكر همسها حتى ارتعاشة قلبها، في الصبح نلتقي ها هنا قالت بدافئ صوتها»، والغزل الخالص في أغنية «رموش» التي نسمعها بصوت عبد الهادي بلخياط مع ألحان حميد بن إبراهيم الرصينة، حيث يخاطب الشاعر حبيبته في مطلع القصيدة «رمشاك كم قتلا، رمشاك كم قتلا» و «من يهتز للكأس والكأس انتشى ثملا من مدمعيك»، ثم نجد أن تلك الرموش القاتلة هي التي تهبه الحياة حين يقول، «عمري الذي رحلت ليلاته سأما، رمشاك ردا له الأفراح والأمل»، بل إنها تمنحه ما هو أكثر من ذلك «يا خشعة الغاب يا زهدي ويا قدري، في مقلتيك عرفت الله والغزل». وكذلك أغنية الشفاه الحمر التي يغنيها محمد الحياني بإحساس وأداء درامي لا مثيل لهما، بمصاحبة موسيقى عبد الرفيق الشنقيطي، وفي هذه القصيدة يتحدث الشاعر عن شفاه لم يعد يهواها ولا يسحره لونها الأحمر، ولن يقترب منها مرة أخرى «الشفاه الحمر كيف أقسمت بالورد زيفا، والتماع الحب فيها كيف مات اليوم كيف، وليالي العطر ضاعت والهوى أصبح طيفا»، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن ينساها بسهولة «منك في قلبي بقايا، في ضلوعي في شقايا، في خشوعي لشفاهك في جنوني في بكايا، لأ دموعي منك أغلى أنت في أمسي خطايا». ومن الأغنيات الفريدة في قائمة الشاعر الطويلة من القصائد المغناة، هي أغنية «لقاء» التي غناها ولحنها الفنان أحمد الغرايبي، وتجمع بين الشعور بالعدمية والتمسك بالحياة أو بالمعنى الحقيقي للحياة، ونستمع فيها إلى الكثير من الكلمات المؤثرة الرائعة مثل: «سمّني ما تشاء نجمة أو هباء» و«فاقطف الأنجم لُف كل الضياء، سوف نمضي غدا للأسى للفناء». منذ بداياته الشعرية ألقى عبد الرفيع جواهري بنفسه بين ذراعي الطبيعة، التي فتحت له أحضانها، وفتحت له أيضا ملكوت الخيال، ووهبته الروح المشبعة بالجمال، وقوة الاستحضار والقدرة على خلق الصور الوصفية، والتعبير عن الأخيلة والمشاعر، وكأنه يعيد اكتشاف الجمال، ويرينا إياه من جديد، فإن خيال الشاعر يتأثر بالطبيعة وينفعل قلبه بمناظرها، لكنه لا ينقلها إلينا باهتة ساكنة، بل مشتعلة بحرارة تجاوبه النفسي والعاطفي معها، وهنا يكمن سر الإبداع والتصوير البارع والإغراق في الخيال، وتمتزج الطبيعة في شعره بالحب والغزل والحرية، ومعها يتجاوز الشاعر نفسه وعالمه الذاتي الخاص، ولا يخفى ولع عبد الرفيع جواهري بنهر أبي رقراق، وما له من مكانة مثالية في وجدانه، فهو مفتون بروعته وتمتلئ جوانب نفسه بجماله، وقد كان هذا النهر هو المحور الأساسي الذي تدور حوله مبتكراته الشعرية، في قصيدة «القمر الأحمر» وقصيدة «قصة الأشواق»، وهما من ألحان عبد السلام عامر، الذي وضعه الجواهري أمام امتحان تلحين اسم رقراق من جديد، بطريقة يجب أن تكون مختلفة تماما عن الطريقة التي لحنه بها في «القمر الأحمر»، ولم يكن هذا يصعب على الملحن العبقري بكل تأكيد، ونجد أن موسيقى «قصة الأشواق» فرحة وسريعة إلى حد ما ونابضة بالحيوية، وتخففت قليلا من صرامة عامر وجلال موسيقاه في القمر الأحمر، وعلى مستوى الكلمات أيضا نلمح البساطة في حديث الشاعر مع النهر وكأنه يفتح له قلبه حين يقول: «قدحي أنا قد جف يا رقراق» و «ته يا جميل فكلنا عشاق» و«ورقراق يا رقراق يا أنشودة تحكي عمر الجمال وقصة الأشواق»، لكن تظل «القمر الأحمر» هي الأغنية التي لا تُنافس، والقصيدة الخالدة التي تقدس كل معاني الجمال في الطبيعة التي أحبها عبد الرفيع جواهري وتغنى بها وغنى لها. الكاتبة المصرية: مروى متولي