وجه النقيب عبد الرحيم الجامعي، مرافعة لرئيس الأول لمحكمة النقض، الرئيس المنتدب للسلطة القضائية، حول موضوع « حديث مع مسؤول قضائي حول مُستقبل العدالة والقضاء بَعد الوباء ». وفي ما يلي نص المرافعة كاملة: لن يَسلم مجتمعنا من آثار الجائحة على الحياة و السلوك والمواقف والقيم ، لأن منطق البلاوى في التاريخ معروف أشواطه المُرة، على الإنسانية، وبالطبع على مستقبل الشعوب وحياة المغاربة، ولن يسلم القضاء بدوره من هذا الحكم، وسيعرف مرفق العدالة ومكوناتها كلها في المدى القريب والمتوسط تداعيات انتشار الكورونا فيروس وضرباته القاسية واسئلته المحيرة. وبعيدا عن الوهم وقريبا من الواقع، فقد أصيبت غالبية المحاكم ببلدنا وجلساتها ونشاطها بشلل شبه عام، فَجل قُضاتها مرابطون في بيوتهم مَكفُونين، وغالبية الجلسات وقاعاتها مظلمة، والملفات المدرجة تُؤجل دون حضور أطرافها، وإدارات المحاكم ومكاتبها صامتة موصدة في جُملتها، ناهيكم عن حيرة المرتفقين عن مصير دعاويهم وتبليغ أحكامهم وتنفيذها ومصير شكاياتهم التي أحيلت من النيابات العامة للبحث للضابطة القضائية، كل هذا وذاك وغيره نزل كالصخر على محاكمنا وعلى عدالتنا وعلى كل من يخدمها من مواقع متعددة فأثر بشكل رهيب على اقوى مرفق من المرافق العامة. و بالطبع لم يبق أمام الجميع وطنا ومواطنين وبالمغرب وبغيره من بلدان العالم إلا الأمل في النجاة من هذه المحنة بأقل الخسارة ، وفي الإفلات من مخلفات الكارثة. ومن أجل الأمل ورفع العناء وجهتم مذكرتكم في الرابع عشر من أبريل/ نيسَان الجاري، وجَمِيل ما فعلتم عندما فكرتم في رفع معنويات المسؤولين بالمحاكم و معنويات قضاتها وأطرها ودعم تضحياتهم، وفي تذكيرهم بعدد من واجباتهم التي عليهم استحضارها عندما تسترجع العدالة انفاسها وتستقيم الروح بالمحاكم مع السكة السوية من جديد، وأجمل من ذلك، إنكم سجلتم بالمذكرة بعض الأوليات التي عليهم وضعها أمامهم وبحُسْبانهم حتى تُهزمَ مخلفات الجائحة بسرعة، وبالطبع فالأمل هو باب الانفراج . وأنا كمواطن مٌنتسِب لعائلة العدالة ومُتابع لوضْعها وقريب من مُعاناة أهلها و شَغوف بمستقبلها وحَالم بغَدِها مزدهر وضاح، من واجبي الإهتمام بما يصدر عنكم وعن مؤسستكم ، لا يمكنني في أية لحظة وأي حال أن أُهمِل مذكرتِكم وكأنها أمر عابر عادي لا أثر له، ولا يمكنني أن أقرأها دون تَدَبر وإِمْعان بالبصر والبصيرة في كلِماتها وأسلوبها وسُطورها ومَضمُونها ووَقعِها وآثارها، خصوصاً وأن مُصدرها و مَصْدرَها أنتم ، أي السلطة التي هي أهم السلط وربما أشرفها مكانة ودورا واختصاصات ، وان ومن يتولى تدبيرها ليس موظفا ساميا كباقي الموظفين السامين، بل هو » الرئيس المنتدب من قبل الرئيس الدستوري الفعلي للسلطة القضائية و هو الملك » من هنا ومن هذا التقديم المختصر، ومن منطلقات الوعي بقُوة و بخُطورة مذكرتكم وبما سيصير عليه الوضع القضائي بناء على ما جاء فيها تأتي » مُرافعتي » التي اختَرت أن أقدمَها عَلنيا وحضوريا أمامكم اليوم وأمام كل من يعنيه أمر القضاء وملف العدالة، مساهمة في مناقشة توجيهاتكم بالمذكرة. ولذلك أبلغكم عناصر مرافعتي، ليبقى لكم أخذها والتعامل معها أو رَدها ، فالأمر يَعْينكم، لكنني أعرف أن لديكم النزاهة الفكرية للإعتراف بمساهمات الآخرين، لأن الإيمان بالاعتراف المتبادل خِصْلة أخلاقية وقاعدة سيكولوجية تبني قواعد العيش الاجتماعي والجماعي المشترك، و الملاحظات الخمسة التي اختصرها هي كالتالي: الملاحظة الأولى: طالبت مذكرتكم من المسؤولين القضائيين وقضاة المحاكم، الحرص على التدبير الأمثل للمرحلة المقبلة عقب رفع حالة الطوارئ والاستعداد الاستباقي لمواجهة جميع التحديات وأداء الواجب بكل سلاسة وانسياب وحكامة مع طلب تحرير مشاريع الأحكام مُسبقا، وهي باستثناء الاشارة الأخيرة كلها توصيات مهمة، لكنها توصيات كيفما كانت طبيعتها فلابد لها من دعامة و حمولة دستورية » التي من الواجب الرجوع إليها والتذكير بأهميتها وفي مقدمتها التاكيد على الإطار المتعلق بدور القاضي الأساسي وهو « ضمان الأمن القانوني والأمن القضائي »، لكونهما روح وجود القضاء والمحاكم وكل الترسانة القانونية ذات الصلة، إذ لا يمكن لأي مسؤول رسم وِعَاء ممارسة مستقبلية وخطة انقادية من دون الإلحاح عليهما كأولوياتين إذ أن « ضمان الصحة والسلامة يقوم على ضمان الحقوق والكرامة » بواسطة اجتهاد القضاة و أحكامهم بالتزام تام بحقوق الإنسان وأمن المتقاضين. كنت اتمنى أن تكون هذه الأولوية الدستورية روح مذكرتكم والنقطة المركزية بها، ولتكون رسالة اطمئنان للمواطنين ومفتاحا لانطلاقة عمل قضائي بعلاقات متينة مع روح وفلسفة مفهوم الأمن القانوني والقضائي الذي هو العلاج لآثار الفيروس الاجتماعية، التي ستبدو في الإقبال المكثف على المحاكم لفك النزاعات المعلقة أو الناتجة عن شهور من الشلل العام لمصالح الآلاف من المواطنين. وهنا أعتقد أن الحرص على كَم الإنتاج من خلال تحرير مسودات الأحكام مسبقا، ليست بالأولوية في المرحلة ما بعد الحصار اعتبارا أن إنتاج الأحكام وتحريرها هو نتيجة لمحاكمة بكل شروطها الدستورية وعلى رأسها شروط الفصل 117 و ما بعده وبالتالي أخشى أن تفتح مذكرتكم باب » إنتاج أحكام الجملة » والسقوط في سباق بين المحاكم يَضُر بروح العدالة وبالحقوق كما سقطت فيه منذ سنين، ومثلما أثير مؤخرا بابتدائية الدارالبيضاء التي اصدرت آلاف الأحكام في ظروف مشبوهة…. الملاحظة الثانية يعرف المتتبعون المهتمين، رؤيتكم ما بعد الدستور وما بعد تأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية وما توحيه اليكم رسائل الملك وخطبه وما تشيرون إليه بالمؤتمرات والندوات، إذ كنتم تلحون على أمرين أساسيين في الوسط القضائي: الأول هو الأخلاق والتخليق و الثاني الإستقلال والكفاءة » وهو ما اتقاسمه معكم ، وبناء عليه كنت أتطلع أن تعبروا بمذكرتكم على ضرورة التعامل مع هذين العنصرين فيما يعرض على المحاكم بكل الحزم والمهنية لأنهما ركنان من استرتيجية بناء المصداقية والثقة في القضاء، ودون أن تقتصر رسالتكم على مسألة مسطرية وهي تحرير الأحكام التي لها حلولها في القانون، ولها ضوابط يعرفها القضاة وذات العلاقة بالنظام العام. و كنت اعتقد كذلك أن تقدم مذكرتكم تقييمًا أوليا لعمل المحاكم وعمل القضاء ضمن المبادئ أعلاه، حتى تتمكنوا على ضوء ذلك ومعكم المجلس الأعلى للسلطة القضائية، من » صياغة ميثاق جديد مع القطاع بكل مكوناته يقوم على خلق الثقة ونسج العلاقات والإيمان بالحرية والتخلص من التعقيدات في المفاهيم وفي التصرفات » وعلى طرح « عناصر قوة » تدفع للتفكير والتراكم من أجل صناعة المستقبل، وأن تقترحوا تصورا شاملا وخطة واضحة « للانطلاق نحو أفُق قضائي مغاير ومنفتح » وليس فقط لإصلاح ما أفسده الكوفيد 19 بعد رفع الطوارئ. الملاحظة الثالثة : يَدعونا المستقبل القضائي بعد الجائحة، الجواب أولا هل كان منطقيا وضروريا ومقبولا وقف حركة المحاكم وشل الدينامية القضائية شبة التامة وإغلاق غالبية مرافقها عِلماً بأنه كان هناك حديث عن الرقمنة والتقاضي عن بُعد وإلى آخره….، مثلما أغلقت المسارح والملاعب والمساجد وغيرها؟؟ والجواب البديهي هو لا ثم لا ، لأن خدمات العدالة لا يمكن أن تُغَيبَ وتُعَلقَ، ليس فقط بالنسبة للمعتقلين فحسب بل كذلك في القضايا التي يمكن علاجها وتدبيرها عن بعد بواسطة وسائل العمل التقنية والإلكترونية والتي لا تدعو للحضور البشري المباشر، كما شاهدنا ذلك بنجاح في مجال التعليم وتوزيع الدعم المالي وغيرهما، ومن هنا لا يمكن أن نتحدث عن المستقبل والتوجه فقط لتحرير الأحكام دون تحمل مسؤوليتنا الجماعية عن عملية كَوْفَنة القضاء وتداعياتها ونتائج ما ترتب عنها. أما من جهة أخرى، فالمستقبل يدعونا كذلك للتفكير الحقيقي لبناء جديد للعلاقات داخل الجسم القضائي « بمفهومه الواسع للخروج من العُزلة و للقدرة والبحث عن اساليب شراكات مع كل المهنيين داخل الاسرة القضائية . إنكم تعرفون وَزن وموقع المحاماة وسط قطاع القضاء وحتى داخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية نفسه، ومقتنِعون ما للمحامين من مسؤوليات خَصهُم بها المشرع يُؤدونها بالضمير خِدمة للمتقاضين ولأمنهم القانوني، و تدركون كذلك ما هو مُلقى على مجالس الهيئات وعلى نقبائه بالخصوص من مهام قانونية وأخلاقية، سواء من تأطير وتعبئة و تَتبع الانضباط لقواعد الممارسة المهنية ولمساعدة القضاء ومؤازرة المتقاضين، كما تشعُرون بالتأكيد كمسؤول قضائي رفيع، أنه لن يتأتى للقضاء ولا للمحاكم أن تُزاوِل نشاطها بفعالية إلا مع و بوجود المحاميات والمحامين كقيمة قانونية وبشرية وتوفير أجواء ملائمة ومناسبة لهم ، وهذه كلها من الدواعي التي كانت تقتضي في نظري الحرص قبل بلورة توجهاتكم بمذكرتكم » الرجوع للهيئات و الاتصال والاستماع للنقباء » حول حالة القطاع عامة و وضعية المحاكم خاصة قبل وأثناء الحذر الصحي، و فتح باب الحوار والتشاور معهم حول مستقبل القضاء و حالته بعد نهاية الجائحة، وما هي في نظرهم « منهجية الانطلاق الفوري والقوي للمحاكم ما بعد الوباء » وما هي الأولويات والآليات التي ستتحكم في تدبير مرفق العدالة مستقبلا، طبقا لما يقرره الدستور من انفتاح على التنظيمات المهنية والتمثيلية وانسجاما مع مبدأ « الديمقراطية التشاركية الحقيقية » وما تفرضه ضرورة تصحيح المفاهيم والمسارات ذات العلاقة بالمصلحة العامة ومصلحة القضاء،وهذا هو الجوهر. ومن الواجب التذكير بما ذاقته مهنة المحاماة وتحمله المحامون بسبب وقف انشطة المحاكم في غالبيتها وبعد تعليق جل جلساتها، إذ أن الآلاف من نساء ورجال الدفاع هَجروا مكاتبهم، وقُطعَت علاقات زبنائهم معهم، و تَكَفنَ مُساعدوهم ومُتمرنوهم وكُتابهم بمساكنهم، وواجهوا وحدهم عُزلتَهم بصَلابة ومعنويات ورباطة جأش، وسَاهموا كغالبية المواطنين في واجب تحمل الأعباء العامة، وهذه أوضاع خطيرة اليوم وبعد رفع حالة الطوارئ لا مثيل لها في تاريخ المحاماة رغم أنها تعود للقدر، وهي من باب المتاعب والأخطار على سير ملفاتهم وقضايا المتقاضين الذين يؤازرونهم، وعلى علاقاتهم الإنسانية بينهم ومع المحاكم ، وقد كان على مُذكرتكم أن تستحضر كل هذه الأوضاع وان ننتبه اليها و نقدرها ، وان نطرح الممارسات الفضلى التي تتلاءم مع ما تفرضه مهام أسرة الدفاع وأعبائها، حتى تكون توصياتكم متكاملة ومنسجمة متوازنة، لانه من الصعب أن يغيب هذا الموضوع عن مذكرتكم و ألا تثير مكانة هيئات المحامين المحورية وأدوارها في معالجة أوضاع المحاكم والقضاء بعد الجائحة وما خلفته عليهم من وقع شديد وهذا ما يفرض العمل مع الهيئات و نقبائها بتواضع لضمان نجاح أي مخطط للمستقبل. الملاحظة الرابعة: يمكن اعتبار مذكرتكم » نداءً مؤسساتياً » للمسؤولين القضائيين و للقضاة أنفسهم بشكل غير مباشر، من أجل أن يرتبوا أنفسهم لما بعد الجائحة، وذلك بالإعداد المسبق « لمشاريع الأحكام والقرارات » بخصوص الملفات المُعَينين فيها ليتيسر البث فيها في أقرب الآجال. اسمحوا لي أن قلت أنني أشك في أن هذا التوجيه لكم، وأسمح لنفسي القول بأنه خطأ من القَلم لا نية لكم في حمولته الخطيرة، نظرا لما عُرف عنكم من يقظة، ونظرا لعِشقكم حُب الصفاء ليتنفس القضاء والقضاة الهواء الخالي من فيروس الفساد وما يدخل في حكمه، ونظرا كذلك لمسؤولياتكم الدستورية في ضمان استقلال القضاء والقضاة والحرص على عدم الضغط عليهم أو التدخل في عملهم وتدبير الملفات التي بين أيديهم. إن مذكرتكم للقضاة عبر مسؤولي المحاكم من اجل تحرير الأحكام بشكل مسبق تحسبا لما بعد رفع الحصار عن المحاكم من ضغط، هو في عمقه توجه يخرج عن صلاحياتكم وهذا ما تؤمنون به بالقطع، لأنه عمل القاضيات والقضاة لا رقيب عليهم فيه من احد، بل لا علاقة له حتى بصلاحيات المسؤولين القضائيين الذين لا حق لهم في أن يطالبوا القضاة بشكل مسبق تحرير مشاريع القرارات والأحكام في الملفات قبل استكمال المساطر بما تفرضه من احترام وسائل دفاع الأطراف. إن تحرير الحكم ليس غاية بل هو نتيجة عملية صعبة ومعقدة أحيانا تأتي في سياق مخاض فكري، وامتزاج قناعة، وتجميع معطيات من قبل القاضي، والحكم في النهاية هو الذي يولد الحقيقة ويعلن الحقوق لذلك لا يمكن المجازفة بها وبصياغتها خارج مساطر محددة ذات العلاقة بالنظام العام وبالمشروعية، احتراما لإنتظارات المتقاضين من قبل الإنصاف والعدل والأمن القانوني والذي يقوم على الفكر والثقافة ليتمكن من توفير حكم جيد الذي يفرض الاطمئنان. أنا أخاف أن ترجعنا مذكرتكم » لسياسة صناعة الكَم و الأَعْداد » ليستمر سباق المحاكم نحو نهج قاتل و هو إنتاج أعداد من بعض الأحكام دون مضمون، إذ لا معنى أن يكون » حل الأزمة بأزمة أخرى » وعليه، فأنا أدعوكم أن تتوجهوا للمسؤولين في نطاق التواصل والحكامة لدعمهم من اجل إطلاق مناخ جديد لتعود للمحاكم حياتها و لتنشيط مرافقها بأكثر فعالية من خلال تنظيم عقد الجلسات بشكل عقلاني في الصباح وبعد الزوال لكسب شيء من الوقت الضائع، و باستعمال واستغلال قاعات المحاكم بذكاء لتدارك الارتباك والازدحام المتوقع حدوثها بعد رفع الحصار، وأن يصبوا الجهود لعقلنة حق المتقاضين في ولوج المحاكم و حضور قاعات الجلسات، وأن يضاعفوا من عدد مقاعد القاعات حتى يستمر العمل بالعزل بمسافات بين الأطراف وبين المحامين وبين الجمهور، وأن يبادروا بتجهيز قاعات الجلسات كلها بمكبرات الصوت وإصلاح الفاسد منها لكي يتحدث الجميع مع الهيئات عن بُعد وباحترام لشروط السلامة، وأن تزود قاعات المحاكم بوسائل التنظيف والتعقيم تفاديا لعودة أعراض الوباء وعلاماته…. فهذه ترتيبات تحتاج اليها المحاكم لتقدم خدمات جيدة للمرتفقين وتحقق الاحترام و الراحة للقضاة. ومن منطلق ما يتحمله القضاة خلال مباشرة مهامهم وهم يحررون أحكامهم ويعللونها، لابد أن تلح وتؤكد مذكرتكم اليوم وغدا على ضرورة تقيد المحاكم والقضاة أكثر من قبل بالالتزامات الدستورية الجوهرية كالسهر على تفعيل الضمانات الدستورية والاتفاقيات الدولية والانضباط إليها في المحاكمات والإجراءات، كحماية حقوق الدفاع و قرينة البراءة و قواعد المحاكمة العادلة، فهذه الضمانات هي ما يرفع من ثقة المتقاضين في قضاتهم وفي عدالتهم وفي المسؤولين عن محاكمهم، خصوصا في ظرف ما بعد الإعلان عن نهاية الجائحة، من شانه إن يحقق انفراج قضائي بعيد عن اختناق جديد » الملاحظة الخامسة : أن موقعكم في أقوى سلطة، وهي سلطة مرتبطة بمهام وبصلاحيات الملك، وبمركز القرار السياسي الأعلى في الدولة، يضعكم في موقع حساس واستراتيجي يسمح لكم الاعلان مع المجلس الأعلى وأعضائه ومع الفاعلين الأساسيين والمهنيين اي مع جمعيات القضاة وهيئات المحامين وغيرهما » عن إطلاق فرصة تاريخية بوصفات ومنهجية صلبة لرسم معالم جديدة لعدالة المستقبل خلافا لنظرة مذكرتكم ومحدوديتها » فقد أجْمع السياسيون والمفكرون وعلماء التاريخ والسوسيولوجيا والقانون » أن عالم اليوم انتهى » بعد أن ضَعُفَ وانهار جسمه الاقتصادي وفشلت نظُمه السياسية أمام الجائحة، وأكدوا أن الإنسانية مطالبة ببناء مستقبل أخر بعد مراجعات في سياساتها ونظام عيشها وحياتها وفي طبيعة ومهام مؤسساتها ، فعلينا نحن بدورنا أن نتحرك للنظر للمستقبل كي لا نسير نحو الخلف وضد التاريخ، وعلينا أن نخرج من الأوهام ونقتنع بأن التغيير في العقليات والسلوكيات هو بداية المستقبل ونعترف ألا أحد يستطيع بمفرده ايجاد الحل السحري لحالة العدالة بعد رحيل الوباء ». إننا كمواطنين علينا اليوم أن نعترف وأن نتساءل ما العمل؟، علينا الاعتراف » بعجز سياستنا القضائية في بُعدها السيكولوجي والقيمي والوظيفي » لأنها وقفت متعثرة دون توفير الإطمئنان ونشره، وبعجزها التوفيق في توازن تام بين رغبات الجماعة ورغبات الأفراد وبين الحاكم والمحكوم، وعلينا الاعتراف بأن أجهزة عدالتنا لا زالت مَكفُونَة وراء التقليد. وعلينا أيضا أن نعترف أن عدالتنا وقضاءنا ورغم مجهودات العقد الثاني من هذا القرن، لم تتأقلم مع ما تفرضه ضرورات التنمية والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، و مع متطلبات الحماية من التمييز واللامساواة أمام القانون، ومع وقف الإحساس بالخوف من الدولة، ولم تفرض نفسها وسط باقي الاجهزة و السلط و لم تستوعب مفاهيم استقلالها طبقا لروح الدستور » ولم تتوفق في التصدي بالحزم القانوني لمنع إعادة إنتاج ثقافة ما قبل هيئة الإنصاف والمصالحة » رغم الإرادات الحسنة والنزيهة التي تحمل القضاء في القلب و الدم، و التي تحارب دفاعا عن دولة القانون وتقف ضد زحف الشر والأشرار وسط الساحة القضائية والمهنية » . ومن هنا وبناء على الملاحظات الخمس أعلاه، يبدو لي أن عليكم بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية » ان تتسع تأملاتكم ويعلو إلهَامُكم و تَجُود تطلعَاتكم، كمؤسسة دستورية بالتفكير والمناقشة والحوار الشامل والمتعدد الأطراف لوضع لتصور للغد يُنتجُ المستقبل والثقة و السعادة للمجتمع و يُجيب بأكثر قدر من الوضوح عن العديد من التساؤلات، و أقترح أن تكون منطلقات التصور من مقترحات مثل: اطلاق حوار مستعجل والدعوة للقاء موسع بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ومع نقباء المحامين وجمعيتهم وجمعيات مهنية للقضاة ومفوضين قضائيين وغيرهم، حوار الشراكة والشفافية بإرادة التغيير والإيمان أننا كلنا أمام « فرصة للقطيعة ما بين مرحلتين » لابد أن تكون فاصلة ما بين نموذج قضاء المرحلة السابقة عن الوباء، وما بين قضاء ما بعد الخروج من الحجرالصحي، لكي نصل لخلاصات تجمع الأنفاس من جديد نحو القضاء الذي يقاوم بالكفاءة والأخلاق لضمان التنمية والمواطنة و الرفاه و ضمان دولة العدالة و القضاء الذي يتنفس حريته ومسؤوليته من بوابات ونوافذ الدستور » . التفكير في مخطط من ثلاث مستويات: القريب والمتوسط والبعيد، الذي من شأنه: اولا، ان يعيد للمواطن وللقضاء « علاقات الثقة والانسجام حول مبادئ قيم الدستور وقيم حقوق الانسان »، وثانيا إن يمنح للأجيال اللاحقة مغربا يعيشون فيه تحت « سقف القانون ونفوذه ، وثالثا أن يطلق دينامية جديدة ومستعجلة » للقضاء على الفساد والمفسدين أينما وجدوا » لأن الفساد أخطر من الكوفيد19، ولان الأيادي البيضاء قادرة على صناعة المعجزات،رابعا: ومن شأنه كذلك رسم طريق المُصالحة مع المَواعيد الدستورية وتَقعِيدها بعد ان ظلت معلقة منذ دستور 2011 الى اليوم ، مواعيد مع تحديات التنمية الشاملة، ومع وفرض التعايش والتكامل بين حقوق الإنسان والديمقراطية والحفاظ على مكانة وكرامة المواطن، و بين قواعد النظام العام و سلطة الدولة وهيبة المؤسسات، فماأحوجنا بعد الجائحة وللمستقبل أن نبني علاقة مجتمعية بديلة، تعترف الدولة أنها في خدمة المواطن. الحسم في » إحداث مؤسسة مجلس الدولة « ومعرفة أسباب فشل المشروع بل وقبره الى اليوم، وهي المؤسسة التي سبق أن أوصى بها الملك محمد السادس منذ سنة 1999 . التعجيل والضغط من أجل قوانين تنظيمية مؤطرة للعمل القضائي والمشروعية، وبالاساس إخراج القانون التنظيمي « للدفع بعدم دستورية القوانين » لرفع الستار عن القوانين اللادستورية . ركوب تحدي الزمن والحداثة، والحسم مع خيار العدالة الذكية والرقمية والتقاضي عن بُعْد، بشكل صحيح ، وتجاوز الصراعات والحسابات التي منعت إخراج هذا المشروع للوجود والتطبيق، مما يفرض إعطاء الموضوع الأولية التي يستحقها اتجاه تحديث الإدارة القضائية، إذ لو سبق أن تحقق هذا الخيار وانجز سابقا وقبل سنوات، لما كنا أمام ما يمكن أن نسميه » جائحة قضائية مع ملفات تموت برفوف و بمكاتب المحاكم، ولحَافظ المسؤولون على يقظة المحاكم ولو بنسبة معينة لتفادي الموت المعنوي لمرفق القضاء ومكاتب المحامين، علماً بأن » موضوع رقمنة العدالة صعب ولا يمكن أن يقبل المجازفة ولا بد من الإعداد العلمي والجدي له من قبل الجميع قضاة ومحامين وادارة ومجتمع كله، حتى و لو توفرت الإرادة والحزم، » فالرقمة و تكنولوجية التواصل ليست عنوان النجاح وحده، بل النجاح هو تنظيم الدورة الدموية في جسم المحاماة والجسم القضائي أي الوعي بالإنسان وتغيير الذهنيات وانتزاع الاعتراف بمكانة القضاء من النسيج السياسي والمؤسساتي للدولة، فلا تحديث للعدالة ولا انبعاث لآفاقها مستقبلا إلا مع طي فشل الماضي وتثمين مكتسباته . احترام القضاء وعدم احراجه سواء بامتناع الدولة ومؤسساتها مباشرة او باسلوب مغلف من تنفيذ قراراته، أو بإغراقه بملفات سياسية تقف وراءها أطراف من الدولة في خصومة مع منتقدين او معارضين، وذلك تقديرا لحياده واستقلاله كما يقرر ذلك الدستور والاتفاقيات الدولية. رفع الحيف عن القضاء برفع الميزانية المخصصة له ليقدر على أداء أدواره الدستورية و خلق فرص بناء نموذج تنموي متكامل يلبي حاجيات المجتمع بعيدة عن تحكم الدوائر المالية العالمية. إطلاق خطة عمل للمستقبل مع هيئات المحامين وجمعيتهم في مجالات لا يمكن تفصيلها حالا، ليسير المستقبل على رجلين بصلابة وقوة نحو دينامية جديدة يفرضها بناء المستقبل المنتظر، ومن هنا لابد من أن تنهضَ هيئات المحامين بمهامها لتحصين القيم وتوظيفها لبلوغ نهضة مهنية و قضائية متوازية » والقطع مع » التسَوُق الإنتخابي وتعبيراته المرفوضة » التي يشعر الجميع بأعطابها، وتعميق التعِليم والتعَلمِ المستمر للثقافة المهنية والقانونية وسط المحامين، وصياغة شروط حادة للتقيد بأخلاق المحاماة وتداولها وتوظيفها « واسْتِخراجُ المُخزون من التاريخ المهني و فلسفة المحاماة » لبناء قدرات الأجيال وشباب المستقبل. و في نهاية حديثي إليكم ، تأكدوا: مِن أن مرافعتي هاته من صلب واجبي المهني اعتزازا وتقديرا للمحاماة و للقضاء . خذوا حريتكم وقولوا أنني طوبوي، أو أُبَالغ في التساؤل والسؤال، أو أجازف بالقلم بالملاحظة والنقد، فلكم واسع النظر، كما يقوله لكم المحامون عند نهاية المرافعة، لكنني متأكد بأن كل قاض مقيد بواجب البث في كل قضية عرضت أمامه بعد سَماعه لمرافعات المحامين وقراءة مذكراتهم متحليا بالذكاء الحاد والاستقلال والحياد ، وأخيرا، فإنني أنتظر الحكم المنصف العادل الذي سيعطيني نفسا و يمدد عمري لأرى كيف سيكون حال العدالة والمحاماة والقضاء بعد البلاء و الوباء.