ربما كان مبكرا وصف ما استجد فى العلاقات بين القاهرة والدوحة بأنه تهدئة أو هدنة أو مصالحة، وإن ظننت أنه إلى الأولى أقرب. مع ذلك فهو فى كل أحواله يظل تطورا إيجابيا يوفر لنا فرصة لمراجعة بعض الرؤى الاستراتيجية الحاكمة لعلاقات مصر الخارجية، ورغم أن هناك نقصا فى المعلومات المتعلقة بخلفيات التصالح المفاجئ الذى أعلن عنه فى داخل البيت الخليجى أو الرسالة التى وجهها العاهل السعودى يوم 19/11 إلى الرئاسة والنخبة فى مصر. إلا أن الشق الايجابى فى هذه الخطوة يتيح لنا أن نتطرق إلى موضوع الرؤى الاستراتيجية الذى يعنينى فى اللحظة الراهنة. يشجعنى على ذلك أن رسالة العاهل السعودى نوهت إلى أهمية «وحدة الصف والتوافق ونبذ الخلاف فى مواجهة التحديات التى تواجه أمتنا العربية والإسلامية». صحيح أن المتحدثين الذين احتفوا بالرسالة أشاروا إلى الخطر الذى باتت تمثله جماعة «داعش» وتمددها فى بلاد الشام وأماكن أخرى، ولم يذكروا الخطر الأكبر والمزمن المتمثل فى عربدة الاحتلال الإسرائيلى فى فلسطين، إلا أننى قابل مؤقتا بالانطلاق من البيان من باب الرضا بنصف العمى الذى هو أفضل من العمى كله. أيا كانت خلفيات ذلك التطور، فإن أهميته لا ينبغى أن تنكر من وجهة نظر الحسابات الاستراتيجية، مصريا وخليجيا وعربيا. ذلك أن أطرافا عدة راهنت على الانقسام واستثمرته، خصوصا إسرائيل التى ادعت أثناء عدوانها على غزة فى الصيف الماضى أنها أصبحت جزءا من تحالف عربى مناهض للإرهاب. وما برح قادتها يرددون أن العرب أدركوا أخيرا أن اسرائيل ليست العدو أو الخطر الذى يهددهم، ولكنه الارهاب فى قول وإيران فى قول آخر والاثنان فى قول ثالث. قبل أن أستطرد أرجو ألا أكون بحاجة للتنبيه إلى أن الرؤية الاستراتيجية التى أعنيها هى تلك التى تتعلق بالمصالح العليا للدولة والأمة فى الحاضر والمستقبل. وأحسب أن أحد المفاتيح المهمة لضبط المصطلح يكمن فى التفرقة بين النظام والدولة. وهى التفرقة التى يتجاهلها كثيرون سهوا أو عمدا بحيث يختزلون الدولة فى النظام، فى حين أن الدولة كل والنظام جزء. والأولى ثابتة والثانى متغير. هذا الاختزال يرتب نتيجة سلبية تتلخص فى أن أى خلاف أو نقد للنظام يصبح عداء للدولة وسعيا إلى تقويضها. وهو تغليط يفسد الرؤية الاستراتيجية لأنه يورط السلطة فى مواقف تتبنى فيها إجراءات تستهدف الدفاع عن النظام فى حين أنها تضر المصالح العليا للدولة فى المدى البعيد. إن اختزال الدولة والوطن فى النظام أو قيادته منطق ينتمى إلى مفهوم القبيلة وليس الدولة. فشرف القبيلة وكرامتها من كرامة شيخها الذى هو قدرها. أما الدولة فلها حسابات مختلفة، لأن ثمة مجتمعا يعيش على أرضها ومصالحه ليست مرتبطة بالضرورة بنظامه أو برئيسه الذى اختاره الناس ولهم أن يغيروه إن شاءوا. ومن المفارقات فى هذا الصدد اننا نتعامل بمنطق القبيلة مع الأشقاء فى حين نتحلى بسلوك الدولة مع الأغيار، لا أتحدث هنا عن حالة الاتفاق فى وجهات النظر لكننى أتحدث عن كيفية إدارة الخلاف إذا تباينت أو تعارضت وجهات النظر. النموذج الماثل أمامنا والذى يستحق الدراسة هو الكيفية التى أدير بها الخلاف بين مصر وبين كل من قطروتركيا، ولست هنا فى مقام الدفاع عن موقف الدولتين، بل أذهب إلى أن بعض ممارساتهما، سواء فى بث قناة الجزيرة أو تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان، ذهبت إلى حدود لم تكن مضطرة إليها فى خلافها مع النظام المصرى. وأزعم أن إيران كان لها نفس الموقف المعارض، لكنها عبرت عنه بطريقة أكثر رصانة وحذرا، وبالمناسبة فإن الإدارة الأمريكية كان لها الموقف ذاته فى البداية، لكنها غلبت مصالحها دون أن تغير موقفها من تكييف التغيير الذى حدث فى مصر. وأنا هنا أتحدث عن الموقف الأساسى وليس الوقائع والممارسات التى تفرعت عنه. المتابع للتجاذب والتراشق الذى ترتب على ذلك الخلاف يلاحظ أن الموقف المصرى كان عنيفا وحادا على نحو اثر على المصالح المتبادلة مع كل من قطروتركيا. ولكنه فى حالة الولاياتالمتحدة كان حذرا وظل محصورا فى المجال الإعلامى تقريبا. فالقبيلة كانت حاضرة فى الحالة الأولى فى حين أن الدولة كان لها وجودها فى الحالة الثانية. بل إن حدَّة الاشتباك مع قطروتركيا وصلت إلى حد هبوط مستوى التجاذب فى وسائل الإعلام المصرية على نحو استهدف تجريح الرموز والقيادات ونحى جانبا موضوعات الخلاف. الأخطر من ذلك أن الممارسات التى تمت استهدفت قطع الأواصر والإضرار بالطرف الاخر. الأمر الذى من شأنه أن يؤثر سلبا على الحسابات الاستراتيجية المصرية. ولعل إجراءات الإضرار بالاقتصاد التركى والتحالف المصرى مع اليونان وقبرص لتحدى تركيا يعد خير مثال على ذلك. وليس معروفا فى الوقت الراهن أثر التوتر الحاصل مع قطر على وضع العمالة المصرية هناك أو على العلاقات الاقتصادية بين البلدين، لكن تلك الأضرار أكثر وضوحا فى الحالة التركية سواء جراء قطع الطريق البحرى الموصل بين البلدين أو محاولة الضغط السياسى الاستراتيجى على أنقرة بالتحالف سابق الذكر. ثمة نموذج آخر على التفريط فيما هو استراتيجى لقاء تسجيل بعض النقاط المؤقتة لصالح النظام، يتمثل فى الموقف من الحزبين الديمقراطى والجمهورى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية. ذلك أن لبعضنا موقفا ساذجا يعتبر الديمقراطيين أعداء لمصر بسبب انتقادهم للنظام القائم فيها، والذين يتبنون ذلك الموقف يحتفون بالجمهوريين ويهللون لهم رغم أن خطهم العام منحاز إلى غلاة الليكوديين فى إسرائيل، وضد كل ما هو عربى أو إسلامى، علما بأن بينهم من لا يختلف مع الديمقراطيين فى موقفهم من النظام المصرى. أحدهم النائب جون ماكين الذى انتقد بشكل حاد ما جرى فى مصر يوم 3 يوليو واعتبره انقلابا. إن الهوى السياسى مفهوم وله حدوده التى قد يقبل فيها، ولكن حين يتحول إلى عمى استراتيجى فإنه يصبح كارثة كبرى غدا بإذن الله أفصِّل فيما أجملته اليوم.