كريستيان كوتس أولريكسن ليبيا منذ بداية الانتفاضة ضد دكتاتورية معمّر القذافي المتقلّبة في ليبيا، اضطلعت قطر، إلى جانب فرنسا والمملكة المتحدة، بدورٍ محوريٍّ في تعبئة المجتمع الدولي من أجل التحرّك. فقد حشدت الدعم العربي بشكل حاسم من خلال الجامعة العربية لفرض منطقة الحظر الجوي. وهندس حمد بن جاسم عملية تعليق عضوية ليبيا في الجامعة العربية، وأمّن بالتالي تصويتاً داعماً بالإجماع لصالح منطقة الحظر الجوي بعد معركةِ مواجهةٍ مع الجزائر. منذ بداية الانتفاضة ضد دكتاتورية معمّر القذافي المتقلّبة في ليبيا، اضطلعت قطر بدورٍ محوريٍّ في تعبئة المجتمع الدولي من أجل التحرّك. برّر رئيس الوزراء موقف قطر الجريء باعتباره مهماً لا لأسباب إنسانية وحسب، بل أيضاً «لتحفيز الأمل بأنّ الجامعة العربية يمكن أن تشكّل آليةً للحؤول دون حصول هذه الأمور». وأعلن أن «سياسيي العرب يجب أن يكونوا أكثر جدّية»، مشدّداً أيضاً على أن دعم الجامعة العربية والأمم المتحدة لمنطقة الحظر الجوي شكّل «مثالاً على كيف يمكن أن نتعاون». وأضاف: «قلنا لهم [للجامعة العربية] ماهو البديل ? ترك الشعب خاضعاً إلى القذّافي أو الذهاب إلى الأمم المتحدة».30 عزّزت هذه البيانات تصوّر القيادة القطرية بأن الأزمة الليبية منحت قطر فرصة طرح عملية دعمها لحماية حقوق الإنسان والتعبير الديمقراطي بطريقة حظيت بترحيب قوي في المجتمع الدولي (الذي يقوده الغرب). شكّلت إراقة الدماء التي أطلق عنانها نظام ضارٍ ليس لديه عدد يذكر من الشركاء الإقليميين أو الحلفاء الدوليين، رهاناً مضموناً لاتخاذ موقف مناهض للاستبداد والحكم السلطوي السيّء.31 كان تعهّد قطر (ثم الإمارات العربية المتحدة) بالانخراط العسكري، مهمّاً في تقليص الشكوك الإقليمية من أن التدخّل قد يشكّل مثالاً آخر على التدخّل العسكري الغربي في شؤون دولة عربية. كانت مساعدة قطر العسكرية والمالية حاسمة في نجاح الانتفاضة الليبية، وبخاصة في تمكين الحكومة المؤقتة الناشئة، المجلس الوطني الانتقالي، من اكتساب الزخم. وعدا الإسراع في توسيع الاعتراف الدبلوماسي ليشمل المعارضة، شاركت مقاتلات ميراج القطرية في الغارات الجوية التي شنّها حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأعطت قناة ليبيا تي في (مقرّها في قطر) الفرصة للمتمرّدين كي يجعلوا قضيتهم مسموعة حول العالم. كان هدف إنشاء القناة مواجهة الآلة الدعائية لنظام القذافي، وهو أظهر أن الدوحة تدرك بعمق قدرة وسائل الإعلام على التأثير على السرديات والتصورات والأحداث.32 إضافةً إلى ذلك، مكّنت النخبة القليلة من كبار صانعي القرار في الدوحة الدولة من تجميع مختلف عناصر قوّتها للدّفع نحو تدخّل متعدّد الأوجه في ليبيا. كان رئيس المجلس الوطني الانتقالي محمود جبريل مقيماً في الدوحة معظم فترة الثورة، ورأى أن من الأسهل تنسيق العمل من هناك بدلاً من بنغازي، معقل المتمردين المفترض. كانت أشكال المساعدة غير العسكرية حاسمة أيضاً، وتضمّنت أكثر من 400 مليون دولار من المساعدات المالية، وإمدادات المياه، والغاز للتدفئة، والسلع الأساسية، والمساعدة في بيع النفط الليبي وتسويقه من الموانئ الشرقية الخاضعة إلى سيطرة المتمردين.33 على مستوى أشد ضبابية، أنشأت قطر روابط وثيقة مع قادة اثنين من الميليشيات الإسلامية الرئيسة هم عبد الحكيم بلحاج من كتيبة طرابلس مرهوبة الجانب، والأخوان الصلّابي. كان بلحاج قائد الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وقد أعادته وكالة الاسخبارات المركزية الأميركية إلى ليبيا في العام 2004 ثم أعاد النظام تأهيله في العام 2007. عاش علي الصلابي في المنفى في قطر قبل ثورة العام 2011، ويُزعم أنه أصبح الشيخ الأكثر تأثيراً في ليبيا، بينما أصبح أخوه إسماعيل الصلاتي معروفاً بأنه قائد ميليشيا المتمرّدين الأفضل تجهيزاً، كتيبة راف الله السحاتي. كان يُشتبه على نطاق واسع بأن قطر تسلّح المجموعة وتموّلها، وقد أكسبتها وفرة مواردها اسم «كتيبة 17 فيراري.»34 مع ذلك، لم تنسّق قطر والإمارات العربية المتحدة مساعداتهما العسكرية إلى المعارضة الليبية، لابل قامتا بدعم مختلف كتائب متمردين متباينة في الميدان. عقّد هذا الأمر مهمة توحيد الحركة المناهضة للقذافي منذ مرحلتها الأولى، وساهم في الانقسام اللاحق للحركة بعد وصولها إلى سدة الحكم في تشرين الأول/أكتوبر 2011. 35 كما زرع هذا الأمر بذور الخصومة بين الشبكات السياسية والأمنية التي تدعمها قطر والإمارات العربية المتحدة، والتي انفجرت على الملأ في صيف العام 2014. لكن يبدو أن سياسة قطر المتمثّلة في محاولة تحديد ودعم الفائزين النهائيين في النزاعات (الذين كانوا دائماً من الجماعات الإسلامية) قد أوتيت أكلها في آب/أغسطس 2011. فقد رفرف علم قطر العنّابي والأبيض وعلم ليبيا الحرّة جنباً إلى جنب على أنقاض مقرّ القذافي الذي تم الاستيلاء عليه ? في لحظة رمزية ومعبّرة. مع ذلك، وفي حين أن نشوة الفرح الثورية للعام 2011 مهّدت الطريق أمام عملية صعبة متمثلة في بناء وترسيخ هياكل حكم مؤسساتية وعرضة إلى المساءلة في العام 2012، ظهر جليّاً أن قطر تفشل في ترجمة المكاسب قصيرة الأمد إلى نفوذ طويل الأمد. برزت ردود الفعل السلبية المحليّة إزاء نوايا قطر، سواء أكانت مفترضة أو فعلية، حين بات حجم الانخراط القطري على الأرض معروفاً على نطاق واسع. تم التعبير عن ذلك في انتخابات الجمعية التأسيسية في تموز/يوليو 2012 حين فاز حزب الوطن الذي يتزعّمه بلحاج بمقعد واحد فقط، وخسر بلحاج في دائرته طرابلس. ومع أن هزيمة الحزب عكست عوامل كثيرة، من ضمنها التغشية المتعمّدة للانقسام الإسلامي-العلماني من قبل أحزاب أخرى وضعف الشبكات الإسلامية الاجتماعية-السياسية التي لم يُسمح بتشكيلها في عهد القذافي، إلا أن المخاوف العامة من العلاقة مع قطر أدّت دوراً في رفض خطاب بلحاج.36 في الواقع، كان حتى لألوان الحزب تأثير ؛ فقد اختار حزب الوطن، صدفةً أو عن قصد، لونَي العلم القطري، معزّزاً بذلك التشكيك العام في أهدافه وأهداف قطر. القيود نفسها التي أعاقت مراقبة وتقييم وتنفيذ مبادرات الوساطة القطرية قبل العام 2011 عرقلت أيضاً قدرة قطر على المتابعة في ليبيا في مرحلة مابعد القذافي، في الوقت الذي بدأت تتبلور فيه انتقادات جديدة حادة للسياسة القطرية. عكس إخفاق قطر في استخدام نفوذها لتحقيق نتائج ملموسة في ليبيا في مرحلة مابعد الصراع، مدى نقص العمق في قدراتها الدبلوماسية الاحترافية وأيضاً مدى حجم التحدّيات/المحصّلات المؤسّسية التي أفرزتها عمليات اتخاذ القرار الشخصانية إلى حد كبير. إضافة إلى ذلك، في حين أن عروض الدعم العسكري والمالي القطرية والإقليمية والدولية لاقت ترحيباً على نطاق واسع خلال محاربة نظام القذافي، أصبح أصعب على هذه الجهات الخارجية، في ظل الجو المحموم الذي أعقب الصراع، تجنّب الظهور بمظهر الانحياز وانتقاء الفائزين عند توزيع الغنائم السياسية.37 سورية حفّزت الثورة في سورية تدخل قطر الثاني في الربيع العربي. لكن ثمة بون شاسع بين الحالتين الليبية والسورية باعتبارهما بؤرتَي صراع في الاضطرابات الإقليمية التي تكشفت تدريجيّاً. ففي حين كان نظام القذافي معزولاً دبلوماسيّاً وبعيداً سياسيّاً (وجغرافيّاً) عن اللاعبين الإقليميين الأساسيين، تقع سورية في قلب الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، كان نسيج سورية متعدّد الثقافات، وتوازناتها المذهبية، وروابطها القبلية العابرة للحدود، وتحالفاتها السياسية، كفيلاً بعدم بقاء الاضطرابات الأهلية التي بدأت في آذار/مارس 2011 ضمن حدود البلاد. أصبحت سورية ساحة لحروب بالوكالة تُشنّ بوتيرة وضراوة متزايدتين على أيدي مجموعات مرتبطة بضفّتي الانقسام الإقليمي السنّي-الشيعي. في خضم هذه السلسلة من الصراعات الفتاكة والمتشابكة، كان من لحظ الخيال افتراض أن من شأن أي دولة أن تأمل في التأثير في التطورات على الأرض، ناهيك عن السيطرة عليها. لكن، سواء أصدفةً أو عن قصد، أو ببساطة لأن الدوحة كانت في غمرة نجاحها الظاهري في المساعدة على إطاحة القذافي من السلطة بعد اثنين وأربعين عاماً من حكم ليبيا، كان هذا تحديداً ماحاولت القيادة القطرية القيام به في أواخر العام 2011 وعلى مدى العام 2012. استلمت جامعة الدول العربية، المعروفة عادةً بعدم فعاليتها وليس بإجراءاتها الحاسمة، زمام الأمور في المبادرات المبكرة لصنع السلام. يُعزى أحد أسباب تحلّي جامعة الدول العربية بمزيد من الحزم في تلك المرحلة التأسيسية إلى أن قطر تولّت رئاستها الدورية لولاية ثانية غير مسبوقة في العام 2011-2012، بعد تأجيل قمة شباط/فبراير 2011 وصدور قرار قضى بإعادة الرئاسة إلى الدوحة.38 وضع هذا التحوّل غير المتوقع للأحداث قطر في موقع تأدية دور تنظيمي في الرد العربي على المجازر في سورية خلال تولّي الدوحة رئاستها الثانية حتى ربيع العام 2012. مع ذلك، لم يوقف تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية ولافرض عقوبات سياسية واقتصادية في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 ولا إرسال بعثة مراقبي الجامعة العربية إلى سورية في كانون الثاني/يناير 2012، دوّامةَ العنف المتصاعدة. ومع تعثّر الجامعة العربية، أصبح الأمير حمد أول زعيم عربي يدعم علناً نشر قوّات أجنبية في سورية لمحاولة وقف إراقة الدماء، حين صرّح لبرنامج 60 minutes على قناة «سي بي إس نيوز» في كانون الثاني/يناير 2012: «ينبغي أن تذهب بعض القوات لوقف القتل».39 فشِل دور قطر الصريح والمرن والاستباقي في الأزمة في إحداث تأثير مباشر أو بعيد المدى، كما فعلت في ليبيا في العام السابق. ويعود ذلك جزئيّاً إلى الخصومات الناشئة بين الأطراف الإقليمية إزاء القوى التي ينبغي دعمها في سورية، إضافة إلى غياب التوافق ضمن الجامعة العربية حول الخطوات المقبلة. انتهى الاجتماع الافتتاحي لمجموعة أصدقاء سورية، وهو تحالف دولي، الذي عُقد في شباط/فبراير 2012، بحالة من الفوضى، وغادره الوفد السعودي احتجاجاً على عدم القدرة على التوصل إلى موقف موحّد.40 فشِل دور قطر الصريح والمرن والاستباقي في الأزمة السورية في إحداث تأثير مباشر أو بعيد المدى، كما فعلت في ليبيا في العام السابق. في أعقاب هذا الإخفاق، تعثّر الموقف الموحّد لجامعة الدول العربية الهشّة. وشكّل انعدام الفعالية هذا ضربة كبيرة إلى كلٍّ من الجامعة العربية وقطر، نظراً إلى التزام الدوحة الواضح للغاية في إبقاء المشكلة تحت سيطرة عربية خلال ترؤّسها لقمّة الجامعة.41 نتيجةً لذلك، اتصفت قمة الجامعة العربية التي انعقدت في آذار/مارس 2012 في بغداد، بالتوتر والانقسام وأفرزت موقفاً ضعيفاً إزاء سورية، بينما ناشد رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي الجهات الخارجية عدم التدخّل. أبدت قطر بوضوح عدم رضاها عن امتناع بلدان مثل لبنان والعراق عن التصرّف بحزم والبدء باتخاذ موقف أكثر تشدّداً إزاء سورية تدريجيّاً، داعيةً المجتمع الدولي علناً إلى دعم وتسليح المعارضة ضد الحكومة السورية.42 وفي ضوء أدلّة متزايدة عن أن نجم قطر في طور الأفول، أصبحت تصريحات الدوحة السياسية حادّة ويائسة أكثر. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2012، اتهم حمد بن جاسم الحكومة السورية بارتكاب إبادة جماعية بعد فشل محاولة (أخرى) للتوصّل إلى وقف إطلاق النار لمدة أربعة أيام. ونقلت وكالة الأنباء القطرية عنه تصريحاً مدوّياً قال فيه: «مايحدث في سورية ليس حرباً أهلية بل حرب إبادة مع رخصة بالقتل من الحكومة السورية والمجتمع الدولي».43 مع ذلك، في حين انتقلت مسؤولية سورية إلى عاتق الأمم المتحدة ومبعوثيها الخاصّين، بدأت قطر والسعودية والكويت على نحو متزايد بتحديد و»انتقاء الفائزين» في صفوف مجموعات المتمرّدين الكثيرة العاملة في سورية. في حالة قطر، كانت هذه القوات على ارتباط وثيق مع جماعة الإخوان المسلمين السورية، الأمر الذي أدّى إلى تصاعد التوتّر مع السعودية. أظهرت التطورات التي حدثت في ربيع العام 2013 مدى تراجع النفوذ القطري، ليس في سورية وحسب بل أيضاً في أرجاء الشرق الأوسط كافة. ففي الدوامة الناجمة عن الصدام بين سلطة النظام القديم الراسخة وبين العديد من المجموعات الجديدة الناشئة في الدول التي تمر بمراحل انتقالية، أصبح واضحاً أن مامن لاعب واحد يستطيع أن يتحكّم بوتيرة الأحداث أو باتجاهها. كما كشفت الصراعات السياسية المطوّلة والمعقّدة التي طبعت مشهد مابعد الربيع العربي، عن حدود قدرات قطر. في غضون ذلك، عكس التوتر المتزايد مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مدى اتساع رقعة الخلافات في المقاربات السياسية تجاه الإخوان المسلمين.44 كانت قطر تشعر بالضغط من جانب المسؤولين الأميركيين لضمان عدم وقوع أي من الأسلحة التي ترسلها الدوحة إلى سورية في أيدي جبهة النصرة أو غيرها من المجموعات الجهادية المتطرفة. هذا المزيج من الضغط الإقليمي والدولي المتزايد على قطر، تُوِّج بنقلٍ غير رسمي لمسؤولية دول الخليج عن ملف سورية من الدوحة إلى الرياض في نيسان/أبريل 2013. وقد عُقدت لاحقاً مفاوضات مضنية في اسطنبول في أيار/مايو 2013 لتوسيع المجلس الوطني السوري، وهو هيئة تضمّ مجموعة من فصائل المعارضة ، مع تركيز خاص على ضم تكتّل ليبرالي يرأسه ميشيل كيلو وتدعمه حكومات غربية وعربية. عكست هذه الإضافات محاولة تقودها السعودية للحد من تأثير الجناح السوري لجماعة الإخوان المسلمين (الذي تدعمه قطر) في المجلس من خلال توسيع عضويته وتركيبته.45 تونس ومصر قدّمت قطر دعماً اقتصادياً كبيراً للنظامين الانتقاليين في تونس ومصر. فقد تدفّقت الهبات القطرية على هذه الدول حين دخلت في خضم الربيع العربي. ازدهرت العلاقات التجارية بين قطر وتونس في أعقاب ثورة كانون الثاني/يناير 2011 وانتخاب حكومة يترأسها حزب النهضة الإسلامي. وكان ملاحظ على وجه الخصوص ذلك الإعلان في أيار/مايو 2012 عن خطط قطرية لبناء مصفاة على ساحل خليج قابس في الصخيرة بتونس يصل إنتاجها إلى 120 ألف برميل يومياً. كان من شأن المشروع، الذي تصل تكلفته إلى ملياري دولار أميركي، أن يسمح لتونس بتكرير النفط الآتي من ليبيا المجاورة وتطوير إمكاناتها كمركز لتصدير المنتجات المكرّرة، ما سيؤدّي إلى توسيع الطاقة التكريرية لمصفاة بنزرت المتهالكة والبالغة 35 ألف برميل يومياً. شكّل هذا التطوّر جزءاً من جهد قطري أوسع لدفع الاقتصاد التونسي العليل. في العام 2012 قدّمت قطر أيضاً دعماً في مجال ميزان المدفوعات لبنك تونس المركزي للتغلّب على مشكلة تدهور الميزان الخارجي، ودعمت شركة قطر الدولية للبترول التدريب المهني في قطاع النفط والغاز في تونس.46 جذب حجم الاستثمارات القطرية في مصر، خصوصاً خلال فترة رئاسة محمد مرسي، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، التي دامت عاماً كاملاً، قدراً من التشكّك الإقليمي بأهداف الدوحة أكبر من مشاركتها في تونس. فقد شملت جهودها سلسلة من المشاريع المشتركة وعمليات الاستحواذ في القطاع المالي المصري، وأكثر من 8 مليارات دولار من المساعدات التي تهدف إلى دعم الاقتصاد المصري المتعثّر، وعقداً ملائماً لتوفير الغاز بهدف تخفيف النقص في الطاقة الكهربائية خلال الصيف الملتهب.47 والأمر اللافت أنه في خلال زيارة قام بها إلى القاهرة في أيلول/سبتمبر 2012، أعلن حمد بن جاسم أن قطر ستستثمر ما مجموعه 18 مليار دولار في مصر خلال خمس سنوات. وفي سياق تعليقه بأنه «لا حدود» للدعم القطري، أعلن رئيس الوزراء القطري أنه سيتم استثمار8 مليارات دولار في مشروع متكامل يضم محطة لتوليد الطاقة والغاز الطبيعي والحديد والصلب في بورسعيد، في حين تموّل ال 10 مليارات المتبقية بناء مجمع سياحي لأحواض القوارب على ساحل البحر المتوسط.48 من غير الواضح كم من الأموال قدّمت قطر إلى مصر (إن وجدت) قبل إسقاط حكومة مرسي في تموز/يوليو 2013. لكن قطر احترمت فيما بعد اتفاقاً لتزويد مصر بخمس شحنات من الغاز الطبيعي المسال لتغطية العجز في توليد الطاقة في مصر، على الرغم من أن عقداً منفصلاً طويل الأجل للغاز جرى الاتفاق عليه من حيث المبدأ بين مصر وقطر في ربيع العام 2013 لم يسلم من تغيير النظام في القاهرة.49 حذر إقليمي عندما كان الأمر يتعلق بالتعاطي مع الاضطرابات السياسية الكبرى في شبه الجزيرة العربية، كانت المقاربة القطرية إزاء الربيع العربي أكثر حذراً. وعكس هذا الحذر تحليلاً براغماتياً لأكلاف ومزايا اتخاذ إجراءات في مثل هذه الساحة الحساسة. كما أدركت قطر حقيقة أن كلا البلدين (تونس ومصر) أصبحا ضمن مجال نفوذ المملكة العربية السعودية مباشرة، حيث تظهر الرياض مستويات متفاوتة من النفوذ السياسي والاقتصادي. كان هامش الحركة يقلّ كثيراً بالنسبة إلى قطر، مايعني أن ثمّة حاجة للاتفاق على السياسات الواجب اتباعها تجاه البحرين واليمن ضمن مقاربات تشمل دول مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من مقاربة الدوحة الحماسية تجاه سورية وشمال أفريقيا، فقد صاغت سياستها تجاه الربيع العربي في نهاية المطاف آخذة مصلحتها الوطنية الخاصة في عين الاعتبار. قبل خمسة أيام من تزعّم قطر (والإمارات) تأييد الجامعة العربية للتدخّل الإنساني في شرق ليبيا في 19 آذار/مارس 2011، أدخلت المملكة العربية السعودية قوة من دول مجلس التعاون الخليجي إلى البحرين للمساعدة في استعادة القانون والنظام بعد أن هدّدت انتفاضة شباط/فبراير 2011، لفترة وجيزة، بدفع الأسرة الحاكمة إلى تقديم تنازلات سياسية كبيرة استجابة إلى دعوات المعارضة لإجراء إصلاحات. وقد شاركت قطر في ذلك الجهد بصورة مباشرة باعتبارها عضواً في مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من قوة درع الجزيرة التي دخلت البحرين كانت تتألف من أفراد الحرس الوطني السعودي ورجال شرطة من الإمارات العربية المتحدة، إلّا أنها ضمّت أيضاً عدداً متواضعاً من القوات القطرية بالإضافة إلى قوة بحرية من الكويت. أثبت هذا الاستعراض للقوة الطريقة التي يفترض مفهوم التدخّل من خلالها وجود معاني مختلفة في بيئات متباينة. فبدلاً من أن يثني على المظاهرات الحاشدة المطالبة بقدر أكبر من التمثيل السياسي في البحرين كما فعل في ليبيا، تحدّث حمد بن جاسم بلهجة مختلفة تماماً، وقال: «نحن نعتقد أنه لكي ينجح الحوار، علينا نزع فتيل هذا التوتّر من خلال انسحاب الجميع من الشارع».50 وقال مسؤول عسكري قطري بارز في وقت لاحق لوكالة الأنباء القطرية إن «واجب القوة القطرية المشاركة في قوة درع الجزيرة هو المساهمة في استعادة النظام والأمن»، مضيفاً: «كقوة قطرية، نحن نتلقّى أوامرنا من قائد قوات درع الجزيرة المشتركة»، بقيادة المملكة العربية السعودية.51 كانت المقاربة القطرية، والتي تنضوي تحت العباءة الجماعية لدول مجلس التعاون الخليجي، مختلفة تماماً عن الأحادية التي ميّزت سياسات الدوحة في أماكن أخرى. ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى أن الانتفاضات التي شهدتها منطقة شمال أفريقيا، لم تمثّل تهديداً مادياً أو إيديولوجياً للمصالح القطرية مثلما فعلت الثورة ضد أسرة حاكمة زميلة لاتبعد سوى خمسة وعشرين ميلاً قبالة الساحل الغربي لدولة قطر. إذ كان من شأن تقديم أي تنازلات عميقة بشأن الإصلاح السياسي من جانب النخبة البحرينية الحاكمة، التي يمكن القول إنها تشكّل الحلقة الأضعف في سلسلة الملكيات الخليجية، أن يهدّد بتشجيع حركات المعارضة في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى، ويخلّ بالتوازن الطائفي الدقيق بين مجموعة المصالح السنية - الشيعية. وازدادت محدودية هامش المناورة بالنسبة إلى قطر بسبب الأهمية الكبرى التي أضفتها المملكة العربية السعودية على مسألة الحفاظ على الاستقرار في البحرين كجزء من الصراع مع إيران على السيادة الإقليمية. وكان السعوديون قد مارسوا نفوذاً سياسياً واقتصادياً كبيراً على جارتهم الصغيرة قبل فترة طويلة من بداية الربيع العربي.52 تمت ملاحظة وجود مؤشّرات مماثلة تقريباً في اليمن. فعلى غرار البحرين، كان اليمن يمثّل مصلحة جيواستراتيجية وسياسية خاصة بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية. وقد حافظت المملكة على اهتمامها الشديد بالشؤون الداخلية لليمن، وذلك للحيلولة دون بروز منافس قوي لها في شبه الجزيرة العربية، وضمان استعراض وإدامة النفوذ السعودي. خلال فترة تولّي ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود منصب وزير الدفاع على مدى خمسة عقود (1962-2011)، مارس تأثيراً مهيمناً على العلاقات السعودية - اليمنية، التي اتّسمت بالاتصالات غير الرسمية والشخصية بقدر ما اتّسمت بالنشاطات الرسمية بين الدولتين.53 كانت التدفّقات المالية السعودية على النخب السياسية الرئيسة في اليمن عابرة وغير متوقّعة في أحسن الأحوال، حيث كان يتم تحديدها بصورة وثيقة عبر مصادر المعلومات الشخصية للأمير سلطان، ولم يتم قطّ إضفاء الطابع المؤسّسي عليها بصورة صحيحة.54 أما في اليمن وفي البحرين، فقد حدّت مستويات التأثير السعودي الموجودة أصلاً من قدرة قطر على صياغة وتنفيذ سياسات تختلف كثيراً عن نهج الرياض.اندلعت مظاهرات حاشدة ضد حكم الرئيس علي عبد الله صالح القابع في السلطة منذ ثلاثة وثلاثين عاماً في العاصمة صنعاء في شباط/فبراير 2011، وسرعان ما انتشرت إلى بقية المدن والبلدات في جميع أنحاء اليمن. طالب مئات الآلاف من المتظاهرين صالح بالتنحّي فوراً، وازداد تصميمهم جرأة بسبب الانشقاقات التي شهدتها النخبة حيث تفتّتت الدوائر السياسية والقبلية والعسكرية التي كانت تحيط بصالح.55 في تصرّف جماعي نادر، اقترح مجلس التعاون الخليجي بدء انتقال سياسي من شأنه إخراج صالح من السلطة في عملية مرتبة من فوق إلى تحت وتقودها النخبة. بيد أن خطة مجلس التعاون الخليجي خلت من أي مكان للحركة الشعبية المؤيّدة للديمقراطية التي ظهرت بشكل غير متوقّع لتتحدّى الوضع الراهن في اليمن وتغيّره تماماً. بدلاً من ذلك، ظلت الخطة متشبّثة بدعم الجهات السياسية الفاعلة الثابتة والمألوفة، حيث سعى قادة دول مجلس التعاون للسيطرة على الجماهير المحتشدة وتوجيه عملية الانتقال إلى مرحلة ما بعد صالح.56 تم تصنيف الدبلوماسية القطرية في إطار دور الوساطة الجماعي الذي قامت به دول مجلس التعاون الخليجي في اليمن في أعقاب انتفاضة شباط/فبراير، على الرغم من أن المهمة أصبحت أكثر صعوبة بسبب نوبات غضب صالح ضد قناة الجزيرة والقيادة القطرية.57 لم تكن هذه المقاربة متعدّدة الأطراف تجاه اليمن جديدة بالنسبة إلى قطر. فبعد فشل محاولاتها للتوسّط خلال التمرّد الحوثي في شمال اليمن في الفترة 2007-2008، لجأت الدوحة إلى المبادرات الإقليمية متعدّدة الأطراف للتعامل مع هذا البلد. وكجزء من عملية «أصدقاء اليمن» التي بدأت في العام 2010 بعد تزايد مشاعر القلق الإقليمي والدولي بشأن الإرهاب الذي ينبثق من اليمن، عمل المسؤولون القطريون والخليجيون بشكل وثيق مع الحكومات الغربية في محاولة لتحقيق الاستقرار في اليمن وحثّ صالح على القيام بإصلاحات سياسية. كما زوّدت قطر اليمن بإمدادات حيوية من الغاز الطبيعي المسال لتجنّب حصول نقص في الطاقة، وابتكرت «صلتك»، وهي مؤسسة قطرية ترتبط بزوجة الأمير حمد، ستة برامج في مجال التعليم والتدريب المهني تهدف إلى معالجة معدلات البطالة المزمنة في أوساط الشباب في اليمن.58 ومع ذلك فقد تم توجيه السياق العام للسياسة القطرية في اليمن من خلال الجهد الجماعي لدول مجلس التعاون الخليجي، بما يتّفق مع السياسة القطرية تجاه البحرين في الفترة نفسها. ردّ الفعل الإقليمي والخيارات القطرية عندما أطلقت الاضطرابات الأولية للربيع العربي العنان لتجدّد الاستبداد والاستقطاب الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط، واجهت السياسات القطرية قوىً معاكسة. فقد قوّض تبنّي قطر لمقاربة إقليمية نشطة سمعة الحياد النسبي التي كانت تتمتّع بها والتي عزّزت مبادرات الوساطة التي قامت بها قبل العام 2011. وجاء سجلّ الدوحة في اختيار الفائزين بنتائج عكسية من خلال إثارة غضب السكان المحليين والشركاء الإقليميين الرئيسيين في دول مجلس التعاون الخليجي. ويبدو أن القيادة القديمة والجديدة في قطر عالقة الآن في مرمى نيران الانتكاسة الإقليمية وتحاول، في مواجهة شكوك إقليمية كبيرة، أن تتبنّى مرة أخرى النهج البراغماتي في مجال السياسة الخارجية الذي انحرفت عنه في العام 2011. عواقب السياسات التي تواجه قطر أضرّ قرار قطر بالتحوّل نحو سياسة نشطة بعد العام 2011 بمكانتها بصورة كبيرة باعتبارها وسيطاً لا ينازعه أحد. إذ سرعان ما انتشرت مشاعر التشكّك الإقليمي تجاه سلوكها. أظهرت الشائعات المستمرة عن مشاركة قطرية في سيطرة الإسلاميين على شمال مالي في العام 2012 مدى الشكوك التي تساور الآخرين تجاه الدوحة. فقد أطاح انقلاب عسكري وقع في آذار/مارس 2012 بالحكومة المالية، سيطر بعده المتمرّدون على شمال مالي وأعلنوا قيام دولة مستقلّة. كان المتمرّدون ينتمون إلى جماعة الطوارق العرقية، وقاتل الكثيرون منهم لصالح القذافي في القوات المسلحة الليبية في العام 2011. سرعان ما قويت شوكة المتمردين الذين يطلق عليهم «الحركة الوطنية لتحرير أزواد»، فاستولوا في أواخر آذار/مارس على أكبر ثلاث مدن في شمال مالي. ومع ذلك، أضعفت الانقسامات بين «الحركة الوطنية لتحرير أزواد»بين والجماعة الإسلامية المتشدّدة «أنصار الدين» حركة التمرّد، ما أسفر عن فقدان السيطرة على المنطقة لصالح «أنصار» الدين وتنظيم أصولي آخر، «حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا». في ظل تدهور الأوضاع في شمال مالي طوال العام 2012، بدأ الاهتمام يتركّز على أنشطة فريق صغير من الهلال الأحمر القطري. كانت أنشطة الفريق روتينية، حيث أشار أحد أعضائه إلى أنهم ذهبوا إلى مدينة غاو في الأراضي التي يسيطر عليها المتمرّدون بهدف «تقييم الاحتياجات الإنسانية للمنطقة من حيث الحصول على المياه والكهرباء».59 مع ذلك، ولأن الهلال الأحمر القطري كان المنظمة الإنسانية الوحيدة التي مُنحت حق الوصول إلى الشمال من جانب الانفصاليين الإسلاميين، سرعان ماقوبلت الشكوك إزاء عمل الفريق بمخاوف أكبر حول سياسة قطر التي تدعم الجماعات الإسلامية المسلحة في ليبيا وسورية. جاء الانتقاد الأكثر صخباً وتواصلاً لدور قطر في شمال مالي من الجزائر، التي تدهورت علاقاتها مع قطر بصورة حادّة منذ العام 2011، وفرنسا، حيث أدّى رحيل الرئيس نيكولاس ساركوزي من السلطة إلى فتور مفاجئ في العلاقات في عهد خليفته فرانسوا هولاند. فقد أشار أحد الادّعاءات الفرنسية إلى أن القوات الخاصة القطرية تدرّب المتمرّدين المرتبطين بجماعة «أنصار الدين»، بطريقة تذكّرنا بدورها في تعزيز لواء طرابلس بقيادة عبد الحكيم بلحاج في ليبيا. وقيل إن هذه المعلومات ظهرت في الأصل في تقرير صادر عن مديرية الاستخبارات العسكرية الفرنسية، على الرغم من أنه لم يتم تقديم أدلّة داعمة.60 انتشر الافتراض القائل إن قطر مرتبطة بجماعة «أنصار الدين» على نطاق واسع. فقد أشار مقال على مدوّنة فريد زكريا في موقع «سي أن أن» في أوائل آب/أغسطس 2012 إلى أنه «يعتقد أن جماعة أنصار الدين مدعومة مالياً من قطر»، من دون الخوض في مزيد من التفاصيل.61 وبعد انطلاق العمليات العسكرية ضد المتمردين الإسلاميين في شمال مالي بقيادة فرنسا في كانون الثاني/يناير 2013 انتقد زعيم الحزب الاشتراكي الحاكم في فرنسا، هارلم ديزير، قطر بشدّة بسبب «نوع من التساهل»، مضيفاً: هناك موقف غير متعاون ويمكن اعتباره نوعاً من التساهل تجاه الجماعات الإرهابية التي احتلت شمال مالي. وهو موقف غير طبيعي من جانب قطر. لابدّ من تقديم توضيح سياسي من قطر التي نفت على الدوام أي دور في تمويل هذه الجماعات، ويجب على قطر أن تتصرّف على المستوى الدبلوماسي بصورة أكثر حزماً إزاء هذه الجماعات التي تهدّد الأمن في منطقة الساحل.62 تؤكّد مثل هذه التعليقات على مناخات الشك العميقة المختلفة كثيراً عن سابقاتها، إذ أنها تلامس درجة العداء الصريح. وهذا مايواجه صنّاع السياسة القطرية الآن. في حالة مالي، تبقى المزاعم بأن جماعات المصالح القطرية (سواء كانت مدعومة من الدولة أو من جهات خاصة) كانت تموّل أو تسلّح الجماعات المتمرّدة بلا أساس. بيد أن مايهم في الأمر هو أن هناك دائرة كبيرة، في المنطقة وخارجها على حدّ سواء، تعتقد أن الأمر قد يكون صحيحاً. عن مركز (كارينجي)