قادت الولاياتالمتحدة في أعقاب أحداث 11ايلول 2001؛ حملة كبيرة وواسعة النطاق؛ لمواجهة ما تسميه إرهابا؛ سخرت لها إمكانيات سياسية واقتصادية وعسكرية هائلة؛ ضمن مقاربة طغى عليها الطابع الأمني والزجري، ومع حلول الذكرى الثامنة لهذه الأحداث؛ يطرح السؤال حول مدى نجاعة وفعالية التدابير المختلفة التي اتخذتها هذه الدولة في هذا الصدد؛ وبخاصة مع تزايد انتشار الظاهرة في مناطق مختلفة من العالم وتفاقم مخاطرها بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة. إن النتائج العكسية التي تمخضت عن المكافحة الأمريكية لظاهرة 'الإرهاب' في السنوات التي أعقبت أحداث 11 ايلول؛ تجد تفسيرها التركيز على المقاربة الأمنية؛ وغياب استراتيجية حقيقية تقف على أسباب الظاهرة في مختلف تجلياتها. وفي هذا السياق؛ يلاحظ أن المؤسسات الدولية بمختلف أنواعها.. والتي راهن عليها المجتمع الدولي في حفظ السلم والأمن الدوليين؛ أضحت في واقع الأمر مجرد أدوات تخدم مصالح الأقوياء وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة بفعل تغييب البعد الديمقراطي داخلها وعدم استحضار المصالح الدولية العليا ضمن أولوياتها.. فالمؤسسات الاقتصادية التي تأسست باسم التنسيق الاقتصادي بين الدول ومساعدتها على تجاوز مشاكلها وأزماتها الاقتصادية والمالية..؛ أصبحت وسيلة للاستغلال الفاحش وتعميق الجروح الاقتصادية للدول الفقيرة؛ عبر إثقالها بالديون والشروط السياسية المجحفة، الأمر نتج عنه تباين صارخ بين شمال غني وجنوب فقير ومتخلف عن التنمية والتطور.. أما المؤسسات السياسية الدولية وعلى رأسها الأممالمتحدة التي أنشئت أساسا لحفظ السلم والأمن الدوليين ولتلافي الحروب؛ وبفعل الضغوط التي غالبا ما تمارس عليها من قبل الولاياتالمتحدة؛ أضحت مؤسسة شكلية تفتقد لكل استقلالية أو مصداقية؛ بل إن قراراتها تأتي في كثير من الأحوال امتدادا للسياسة الخارجية لهذه الدولة وفي مواجهة الدول الضعيفة فقط؛ وأكثر من ذلك فإنها ظلت مشلولة أمام العديد من القضايا والأزمات الدولية التي كانت تتطلب تدخلات عاجلة؛ وذلك بفعل استعمال 'الفيتو' الأمريكي أو التهديد باستخدامه؛ كما هو الشأن بالنسبة للعدوان الإسرائيلي الأخير على غزة واحتلال العراق والأزمة 'الشيشانية' ومجمل النزاعات في إفريقيا.. وحتى تلك القرارات التي تمكنت هذه المنظمة من استصدارها بعد جهد جهيد؛ تظل في الكثير من الأحوال حبيسة الرفوف؛ ولا يسمح لها بالتنفيذ نتيجة لغياب الإمكانيات البشرية والمادية لذلك من جهة؛ وانعدام الإرادة السياسية لمعظم القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية من جهة أخرى، ونستحضر هنا مختلف القرارات المرتبطة بالقضية الفلسطينية.. إن عدم فعالية هذه المؤسسات في انتزاع حقوق الضعفاء في مواجهة الأقوياء؛ بمثابة إغلاق لباب تصريف المشاكل والمطالب وحل المنازعات بشكل ودي وقانوني عادل؛ الأمر الذي يسهم إلى حد بعيد في اتباع سبل وبدائل أخرى قد تكون لا مشروعة وأكثر عنفا ودموية لتحقيق المطالب. وما يكرس العشوائية في مكافحة 'الإرهاب' أيضا؛ هو انخراط الأممالمتحدة وبخاصة مجلس الأمن في إصدار عدد من القرارات التي تحاول ضبط انتشار هذه الظاهرة في غياب تعريف محدد لها أو استثناء للعمل التحرري المشروع منها؛ ونذكر في هذا الصدد قرار المجلس رقم 1373 الصادر بتاريخ 28 ايلول2001 الذي أكد على ضرورة مواجهة مخاطر الإرهاب الدولي بكل الوسائل السياسية والزجرية؛ بما فيها تجميد أموال المشتبه في علاقاتهم بالإرهاب؛ دون التمييز بين هذا الأخير المحظور وحق الكفاح المشروع ضد الاحتلال. كما أن عدم وجود قضاء دولي فاعل وقادر على المساهمة في تحقيق السلم والأمن وفرض احترام القانون الدولي ومنع الإفلات من العقاب عن مختلف الجرائم الدولية الخطيرة؛ يدفع 'الضحايا' إلى البحث عن سبل لا مشروعة؛ قد تصل إلى درجة العنف بكل مظاهره للاقتصاص والانتقام وتحقيق المطالب بما يسهم في تنامي 'الإرهاب'. ومن جهة ثانية؛ يجد الضالعون في عمليات 'الإرهاب الدولي' ذريعتهم في مختلف السلوكات الاستفزازية التي تنهجها الولاياتالمتحدة عبر سياساتها الجائرة في العديد من المناسبات والمحطات، والتي تصل أحيانا إلى حد تعطيل عمل المؤسسات الدولية وقطع الطريق أمام تدخلاتها المشروعة؛ وهو ما اعتبره العديد من الباحثين تحريضا على 'الإرهاب'. ومباشرة بعد وقوع أحداث 11 ايلول في داخل العمق الأمريكي ساد اعتقاد قوي في كل أرجاء العالم بل وحتى في الداخل الأمريكي أيضا؛ بأن الولاياتالمتحدة ستغير أو ستعدل على الأقل من سياساتها تجاه القضايا الدولية بصفة عامة وقضية الشرق الأوسط بصفة؛ نحو بلورة مواقف عادلة ومنصفة؛ غير أن التطورات والممارسة الميدانية التي أعقبت هذه الأحداث مباشرة أو بعدها بشهور أثبتت بالملموس استمرار الولاياتالمتحدة في سياساتها التعسفية المعهودة؛ بل وضاعفت من حدتها، فعلى الصعيد الدولي فرضت الصمت على تداعيات حملتها المنحرفة ضد ما تسميه 'إرهابا' دون تمييزه عن الكفاح المشروع مع التركيز على 'إرهاب' الأفراد دون 'إرهاب' الدولة الذي يعد أشد خطورة؛ وما نتج عن ذلك من اعتداءات على عدد من الدول واقتراف خروقات مرتبطة بحقوق الإنسان من اعتقالات وتعذيب المتهمين في معتقلات سرية في مختلف أنحاء العالم ومحاكمتهم خارج القوانين المحلية والدولية. ناهيك عن امتناعها على توقيع عدة اتفاقيات دولية حيوية كبروتوكول 'كيوتو' الخاص بالحد من انبعاث الغازات الحابسة للحرارة؛ وكذا الانسحاب من اتفاقيات أخرى؛ مثلما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية الصواريخ البالستية ABM ومن مؤتمر 'دوربن' حول التمييز العنصري؛ ومعارضة إقامة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة؛ والتواطؤ المستمر مع إسرائيل في جرائمها اليومية في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ وتصنيف الدول بشكل تعسفي إلى محور للخير وآخر للشر.. وإذا كانت هذه الدولة قد اختارت موقف المهادنة والمرونة في مواجهة الطرف الكوري الشمالي الذي تتهمه بحيازة وتطوير أسلحة محظورة.. أو اتباع مسلك استثمار إمكانياتها داخل مجلس الأمن في استصدار العديد من القرارات مصحوبة بعقوبات انفرادية ودعاية إعلامية وتحريض دوليين؛ من أجل الضغط على بعض الدول الأخرى؛ كما هو الشأن بالنسبة للسودان الذي اتهمته بالتمادي في ارتكاب مجازر ضد سكان دارفور؛ أو تحريض المجتمع الدولي على إيران بذريعة تطويرها لبرامج أسلحة الدمار الشامل.. فإنها فضلت من جهة أخرى نهج منطق التدخل العسكري المباشر في كل من أفغانستان والعراق؛ في سياق تنفيذ استراتيجيتها الجديدة المرتبطة بالضربات الاستباقية؛ كآلية جديدة للتخلص من كل الأصوات الرافضة لسياساتها.. ويهدف هذا الأسلوب الجديد الذي تعتبره الولاياتالمتحدة شكلا من أشكال الدفاع الشرعي الفردي والجماعي عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة، إلى توجيه ضربات عسكرية مسبقة إلى كل هدف يعتقد أنه يشكل خطرا آنيا أو مستقبليا على مصالحها، سواء كان دولة أو شخصا أو منظمة أو منشأة أو آلية. ومعلوم أن هذه الاستراتيجية تؤسس لمرحلة دولية جديدة سمتها الفوضى التي من شأنها تشجيع بعض الدول على الاعتداء على أقطار أخرى تحت ذرائع مختلفة؛ وبالتالي تكريس اللجوء إلى القوة العسكرية كسبيل لتسوية الخلافات.. وأمام هذه السياسات؛ كان من الطبيعي أن يتزايد الشعور بالكراهية للسياسة الخارجية لهذه الدولة؛ وتتناسل بذلك مظاهر العنف للتعبير عن عدم القبول بهذه السياسات أمام الصمت الذي تفرضه هذه الدولة على مختلف الأنظمة التي ينتمي إليها الضالعون في هذه العمليات. إن هذا التحليل لا يصب باتجاه الإقرار بمشروعية العمليات 'الإرهابية' تحت أي سبب أو ذريعة؛ بقدر ما يتوخى الوقوف على مكامن الخلل والانحراف في السياسة الأمريكية وأزمة المؤسسات الدولية والتأكيد على أهمية وضرورة إصلاحهما ودمقرطتهما؛ باتجاه الوقوف على مختلف العوامل والأسباب التي يتذرع خلفها الضالعون في هذه العمليات؛ وبخاصة وأن القضاء على ظاهرة 'الإرهاب' الدولي تتطلب الوقوف بشكل صريح وشجاع على كل الأسباب الحقيقية التي تقف خلفها.. إن مكافحة 'الإرهاب' الدولي تبدأ ببلورة تعريف موحد ومقبول لدى مختلف الدول للإرهاب يميزه عن المقاومة المشروعة؛ وتتطلب تنسيقا وتعاونا تنخرط فيه كل الدول مع إعادة الاعتبار للمؤسسات الدولية؛ من خلال تفعيلها والحد من التأثير في مصداقيتها؛ هذا بالإضافة إلى احترام القانون الدولي واتباع حل ودي عادل لكل القضايا والأزمات الدولية؛ سواء ارتبطت بمصالح الأقوياء أو الضعفاء؛ بالإضافة إلى الكف عن ممارسة 'إرهاب' الدولة الذي يظل مسؤولا في كثير من الأحيان عن ظهور 'إرهاب' الأفراد والجماعات.. وتشير الممارسة الدولية إلى أن أي إجراء أمني مهما توافرت له الإمكانيات البشرية والتكنولوجية والمادية؛ لا يمكن له الحد من هذه الظاهرة، بعدما أصبح القائمون بهذه الأعمال يطورون آلياتهم ووسائلهم ويستغلون وبتحايل كبير أضيق الفرص والفجوات لتنفيذ أعمالهم. إن مواجهة 'الإرهاب' ومكافحته تتطلبان وقفة تأمل وتركيز لبلورة أساليب وسبل ناجعة وفعالة تقف على مسبباته؛ في أشكالها المتباينة والمتعددة للوقاية من تداعياته قبل الخوض في علاجه بأشكال زجرية وأمنية وربما 'إرهابية' أيضا قد تزيد من تفاقمه وتطوره. ' كاتب وجامعي من المغرب