حدد مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية في كوبنهاكن سنة 1995 هدف السياسة الاجتماعية في؛ تحسين وتعزيز نوعية الحياة للناس كافة، وهو هدف يتطلب القطع النهائي مع المفهوم الضيق للتنمية الاجتماعية، وبالتالي تغيير نظرة الأنظمة إلى سياساتها الاجتماعية، لتشمل أبعاد متعددة للتنمية، الشيء الذي يقتضي إقامة مؤسسات ديمقراطية، واحترام جميع حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وزيادة الفرص الاقتصادية وتكافؤها، وسيادة القانون، والمشاركة الفعالة للمجتمع المدني. فإلى أي حد إذن تخضع "السياسة الاجتماعية" في المغرب لهذه التحديدات المفاهيمية، والشروط الضرورية لتحقيق هكذا سياسة اجتماعية؟ وهل يتوفر المغرب فعلا على سياسة اجتماعية؟ وفي أي إطار يمكن إدخال العديد من مبادرات السلطات ذات الطابع الاجتماعي تخرج إلينا دون سابق إنذار؟ ما هي الآليات والمؤسسات المكلفة والمسخرة لتخطيط وتنفيذ هكذا سياسة؟ تحديد مفهوم السياسة الإجتماعية وأهدافها لا بد من تحديد مفهوم دقيق للسياسة الإجتماعية، يتم الرجوع إليه لقياس طبيعة التدخلات الدولتية في موضوع التنمية بشكل عام، والتنمية الإجتماعية بشكل خاص. فالسياسة الاجتماعية – بحسب آخر نقاشات الوكالات الأممية الخاصة بالتنمية الإجتماعية- هي آلية لبناء مجتمعات تسودها العدالة والاستقرار وتتوفر لها مقومات الاستدامة، ولذلك تقع في نطاق اهتمام صانعي سياسات التنمية الوطنية العامة. وهي تتخطى السياسات القطاعية والبرامج والخدمات الاجتماعية ومنها سياسات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي. فالسياسة الاجتماعية تقوم على تحديد الأطر المؤسسية والأحكام اللازمة لدمج مبادئ المساواة الاجتماعية وحقوق الإنسان في سياسة الدولة العامة. والهدف النهائي للسياسة الاجتماعية هو تخفيف حدة الفقر والإقصاء الاجتماعي وإخماد بؤر التوتر الاجتماعي، وتحسين الرفاه العام لجميع المواطنين على اختلاف فئاتهم. وقد أظهرت التجارب من البلدان المرتفعة الدخل، منها أستراليا ونيوزيلندا واليابان، إضافة إلى نماذج من أمريكا الشمالية وأوروبا، أن الاستثمار في التنمية الاجتماعية يؤدي إلى بناء مجتمعات أكثر إنتاجية وقدرة على الاستدامة. وأجرت بلدان عديدة من شرق آسيا أيضا استثمارات ضخمة في مجالات اجتماعية تسهم في تعزيز الإنتاجية لمواكبة التنمية الصناعية. واستخدمت بعض بلدان أمريكا اللاتينية السياسة الاجتماعية أداة لتخفيف حدة الفقر وتعزيز المساواة، وذلك بتوسيع نطاق برامج الأمن الاجتماعي. فالسياسة الاجتماعية السليمة التصميم والتنفيذ، هي أدوات فعالة في استراتيجيات التنمية الوطنية الهادفة إلى بناء مجتمعات تسودها المساواة، وتوفير فرص العمل، وتعزز النمو الاقتصادي، ومكافحة الإقصاء الاجتماعي، ودرء النزاعات. إن السياسات الإجتماعية الحقيقية يجب أن تتضمن أهدافا اجتماعية واضحة مثل التشغيل الكامل، وتخفيف حدة الفقر، والحماية الإجتماعية، وتوفير الخدمات الإجتماعية الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. المغرب والمسألة الاجتماعية إن الوقوف عند تجربة المغرب في هذا الميدان، يقتضي جرد أهم المؤسسات والبرامج الإجتماعية التي انخرط فيها المغرب بعد الاستقلال وذلك بهدف الخروج بخلاصات حول مقاربة المغرب للمسألة الإجتماعية، وتلمس حدود انخراطه في صياغة سياسة اجتماعية حقيقية تخضع للشروط الموضوعية لبناء سياسة اجتماعية، وتتوخى الوصول إلى فلسفة اجتماعية يكون محورها هو الإنسان. بعد حصول المغرب على الإستقلال، وكغيره من البلدان المماثلة بدأ في الإهتمام ببناء وإعداد البنية التحتية من موانئ وسدود وطرقات، معتمدا بالأساس على القروض من الهيئات المانحة (كصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ...)، وكانت الجهود منصبة بشكل خاص على الجانب الإقتصادي، عملا بتوجيهات هذه الجهات المانحة، دون الالتفات إلى الجوانب الأخرى المهمة في التنمية كالجانبين الاجتماعي والثقافي، وبقي تعاطي الدولة مع الجانب الاجتماعي في حدود دنيا، لا تعدو أن تكون بعض البرامج القطاعية المحدودة، والاهتمام بفئات معينة دون تعميم تلك التدابير على جميع الفئات، لكن إزدياد حجم فوائد القروض، وضعف تنافسية الاقتصاد الوطني، كلها عوامل ستساهم في ظهور أعراض الخلل في الاقتصاد الوطني، ستجعل الدولة، وأمام صعوبات الوفاء بالدين الخارجي، تخضع لتوجيهات وشروط مجحفة لهذه الصناديق، وصل ذروته مع فرض سياسة التقويم الهيكلي سنة 1982 الذي ركز على الإصلاحات الضريبية والنقدية، لخلق التوازن الماكروإقتصادي، كان وقعها خطيرا على الجانب الاجتماعي، وصفه العاهل الراحل الحسن الثاني بسكتة قلبية موشكة على الوقوع. وتأخذ طبيعة التدخلات الاجتماعية للمملكة منذ الإستقلال وإلى الآن، طابعا يتسم بعدم الفعالية الاقتصادية، وانعدام العدالة الإجتماعية برغم المبادرات الكثيرة طيلة السنوات ال50 الماضية، والتي عرفت ترسانة مهمة من المؤسسات، يتسم شكل تدخلاتها بالقصور، وغياب التنسيق، ومحدودية الأفق، زد على ذلك طابعها الظرفي (الإنعاش الوطني)، ومقاربتها التقنية والكمية (الحد من الفقر عن طريق المعونات المادية). وقد تم إحداث هذه المؤسسات والآليات في فترات متباعدة، وفي ظروف خاصة استلزمت تدخلا للدولة، فكان أن أصبح سماء المغرب يعج بأربع وكالات للتنمية، 3 تحت وصاية الوزير الأول، وواحدة تحت وصاية وزارة التنمية الإجتماعية، ومؤسسة تابعة للحكومة، وأخرى تابعة للقصر الملكي كما هو الحال مع مؤسسة محمد السادس للتضامن، والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية. كان من باكورة هذه المؤسسات مع بداية الاستقلال؛ مؤسسة التعاون الوطني التي تأسست سنة 1957، وبعدها برنامج الإنعاش الوطني للتشغيل المؤقت لفئات ذات المهارات المحددة في ظروف الأزمات المناخية وذلك منذ سنة 1961، ثم صندوق المقاصة الذي تأسس سنة 1956 وكان الهدف منه هو دعم القدرة الشرائية للمواطنين، وإبتداءا من 1961 وبدعم من البرنامج الغذائي الأممي ثم إحداث المطاعم المدرسية، بداية بالمناطق الشمالية، ليتم تعميم التجربة في باقي المناطق المغربية فيما بعد. في مستوى آخر ومع بدايات التسعينات، سيهيئ المغرب، حزمة من التدابير الاجتماعية الأخرى، شملت تهيئ برنامجا اجتماعيا وبتنسيق مع البنك الدولي سمي ببرنامج الأولويات الاجتماعية (I PAJ)، شمل بعض الجهات من البلاد وركز على برامج دعم التربية الأساسية، برنامج الإنعاش الوطني، دعم برامج الصحة الأساسية، وتدخل في حزمة البرامج الجديدة، والتي تمت أجرأتها ابتداء من سنة 1995؛ برنامج تأهيل العالم القروي، والهدف منه بالأساس تحسين مستوى المعيشة للساكنة القروية، عن طريق ربط هذه المناطق بشبكة الماء الصالح للشرب وهو ما يسمى ببرنامج PAGER بعده جاء مشروع ربط الساكنة القروية بالشبكة الكهربائية وهو ما يسمى ب PERG وفي نفس السياق ومن أجل رفع العزلة عن العالم القروي تم تفعيل برنامج لإصلاح وتبليط طرق العالم القروي ويعرف ب PNCRR وبالنسبة للسكن، تم في هذا الإطار إحداث برنامج وطني للسكن الاجتماعي سنة 2002، يتوخى القضاء نهائيا على مدى عشر سنوات على السكن غير اللائق والسكن الصفيحي. لقد عرفت بداية الألفية الثالثة بالمغرب، ظهور مقاربة جديدة للمسألة الاجتماعية، جاءت في خضم انتقال الحكم إلى العاهل الجديد محمد السادس، وبروز مستجدات على الساحة الدولية، عرفت إجماعا دوليا على ضرورة الالتفات إلى ظاهرة الفقر المنتشر على نطاق واسع، وكان من نتيجة ذلك عقد مؤتمر كوبنهاكن السالف الذكر سنة 1995، ثم مؤتمر الأممالمتحدة للألفية، تمخض عنه التزام الدول ال 147 المشاركة بأهداف سميت بأهداف الألفية للتنمية في أفق تحقيقها سنة 2015. وكان على المغرب رفع هذا الرهان، والدخول في الماراطون الدولي لتحقيق الأهداف الثمانية، والغايات الثامنة عشر، والتي تحتل فيها المسألة الاجتماعية أولوية أساسية، وقد رافق كل هذه المستجدات تحول نظرة الدول إلى الإنفاق الاجتماعي باعتباره إستثمارا بشريا يعود بالنفع على الإقتصاد، عكس ما كان عليه الأمر من قبل من اعتبار الجانب الاجتماعي قطاعا غير منتج في الإقتصاد، وفي هذا السياق ومع بداية سنة 1999 تم إنشاء وكالة وطنية للتنمية الإجتماعية، كآلية لتدبير البرامج الإجتماعية، وإعداد مشاريع القرب لدى تم خلق 16 تنسيقية جهوية، تعمل وفق أولويات يتم تسطيرها في مخططات هذه المؤسسة، والهدف منها تقليص الخصاص الاجتماعي، عن طريق تقوية قدرات الفاعلين الاجتماعيين الآخرين من النسيج الجمعوي، ودعم الأنشطة المدرة للدخل لدى الفئات الهشة من المجتمع، ودعم البنية التحتية الأساسية، ودعم التنمية الإجتماعية بالمدار الحضري. وبالموازاة مع عمل هذه المؤسسة، تم إحداث مؤسسة من طرف العاهل المغربي خاصة بالتضامن في نفس السنة حملت اسم "مؤسسة محمد الخامس للتضامن" حصلت على صفة النفع العام، وتعمل وفق حملات وطنية لجمع التبرعات عن طريق المؤسسات الحكومية، ويتم تصريف مواردها في برامج مختلفة لدعم الساكنة في وضعية صعبة، والتدخل الإنساني في الكوارث الطبيعية، ودعم الجمعيات، والمساهمة في التنمية المستدامة عن طريق بناء وتجهيز المؤسسات الإجتماعية، والبنيات التحتية. بالإضافة إلى هذه الترسانة المهمة من المؤسسات والآليات الإجتماعية، ستعرف سنة 2005 انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والتي أعلن عنها الملك محمد السادس، حيث أعطيت لها ميزانية مهمة، وسخرت لها إمكانيات الدولة من أجل إنجاح برامجها وأوكل لمصالح وزارة الداخلية أمر تسييرها عن طريق اللجان الإقليمية بالعمالات، واللجان المحلية في كل قيادة، وسطر لها كأهداف عامة وهي؛ محاربة الفقر، محاربة الإقصاء الاجتماعي، ومحاربة الهشاشة الإجتماعية، وأشركت معها شركاء محليين كالجماعات المحلية، والجمعيات، وكذا التعاونيات، وقد بنت تدخلاتها على خريطة وطنية للفقر يتم بموجبها تحديد المناطق الأكثر احتياجا، وبالتالي أعطيت لها الأولوية في مشاريع المبادرة، وتعمل بشكل عمودي وأفقي لتحقيق غاياتها. إن الحديث عن مختلف المؤسسات والبرامج الإجتماعية المغربية، يقتضي أن نشير أيضا إلى مؤسسات تساهم هي أيضا يقسط مهم في بناء البرامج الإجتماعية، كوكالات تنمية بعض الجهات كما هو الشأن بالنسبة لجهة الشمال حيث تم إحداث وكالة إنعاش وتنمية أقاليم الشمال سنة 1996، يدخل من بين مهامها الجانب الاجتماعي، حيث يغطي مجال تدخلها جهتين، وهي: جهة طنجة تطوان، وجهة تازةالحسيمة، وفي الجنوب تم إحداث وكالة الإنعاش والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لأقاليم الجنوب بالمملكة، والتي تأسست سنة 2002 ويشمل مجال تدخلها ما نسبته 52 في المائة من التراب الوطني. وفي الجهة الشرقية للبلاد تم تأسيس وكالة التنمية للجهة الشرقية سنة 2006، وفي إطار مسلسلة المصالحة السياسية الذي نهجه المغرب مع فترة من تاريخه سميت بسنوات الرصاص، ثم رصد إعتمادات مالية خارج أي برنامج حكومي لدعم الجانب الاجتماعي لضحايا هذه الفترة من المعتقلين والمختطفين وعائلاتهم، شمل تعويضا جزافيا، وتغطية صحية، وذلك في إطار جبر الضرر الجماعي. وفي ميدان الشغل، وتحت وصاية وزارة التشغيل والتكوين المهني، تعمل العديد من الأجهزة على تقريب فرص الشغل من الشباب، ودعمهم لخلق المقاولات من خلال تدخلات الوكالة الوطنية للتشغيل (ANAPEC) وبرنامج مقاولتي لتشحيع إنشاء المقاولات الصغيرة للشباب TPE، كما تم توسيع دائرة التغطية الصحية لتشمل فئات اجتماعية جديدة، خصوصا بعد صدور مدونة للتغطية الصحية توضح كيفية تسيير هذا الورش الاجتماعي، أما فيما يتعلق بالتكوين المهني، فقد تم توسيع ميادين التكوين الحرفي، وتوسيع قاعدة المستفيدين، وفرص التكوين لجميع الفئات من خلال برامج خاصة لكل من وزارة التشغيل عن طريق مكتب التكوين المهني، وكذا وزارة التنمية الإجتماعية في إطار التنسيق مع وزارة التعليم بهدف إحداث تكوينات جديدة في الميدان الاجتماعي (المبادرة الحكومية لتكوين 10000 مهني إجتماعي في أفق 2012)، ليدخل إلى قاموس الشغل بالمغرب مهن كالوسيط الاجتماعي، والمنشط الاجتماعي، وعون إجتماعي، ومربي متخصص وغيره من التخصصات الإجتماعية الجديدة. ملاحظات وخلاصات عامة من خلال استعراض مختلف البرامج والمبادرات التي يقوم بها المغرب في مجال التدخلات الإجتماعية، نستخلص مجموعة من الملاحظات والتي تعزز نظرنا في ضرورة إعادة التفكير في مجمل هذه المبادرات، فنلاحظ مثلا أنه بدلا من أن تكون السياسة الاجتماعية في صلب الخطة الوطنية، فإنها تركز على معالجة النتائج. فهي تستخدم أساسا وسيلة مخصصة لمعالجة النتائج الاجتماعية الناجمة عن إخفاقات الأسواق ومنها البطالة وانخفاض الدخل، أو لمعالجة مشاكل بعض الفئات الاجتماعية المهمشة والمحرومة، كالمعوقين والمسنين. ومن هذا المنطلق، حصرت "السياسة الاجتماعية" في مجموعة مشاريع اجتماعية لتلبية الحاجات العاجلة والملحة. وبقيت هذه السياسة مقيدة برؤية ضيقة تركز على المستوى الجزئي، وتقتصر على برامج قطاعية مباشرة كثيرا ما تفتقر إلى الكفاءة في تخصيص الموارد الضئيلة وتقييم أثرها على حوافز السوق الاقتصادية، وقلما تعنى بإحداث أثر يذكر على النمو الاقتصادي الطويل الأجل. وعلى مستوى المشاريع، ركزت هذه التدخلات الاجتماعية على الاضطلاع بمشاريع عمودية قطاعية لا تمت بصلة إلى الاعتبارات القطاعية والاقتصادية الأخرى. وكانت النتيجة "تقسيم السياسة الاجتماعية وتجزئتها إلى مشاريع"، وإحداث هوة بين المشاريع الاجتماعية على المستوى الجزئي والسياسة الاجتماعية والأهداف الاقتصادية على المستوى الكلي. لذلك يجب وضع السياسة الاجتماعية في نطاقها الصحيح باعتبارها جزءا لا يتجزأ من عملية صنع السياسات على المستوى الكلي. ففي خضم التركيز على النمو الاقتصادي في التنمية خلال أصبحت قضايا المساواة والإدماج الاجتماعي في مرتبة ثانوية. وكان يفترض أن مكاسب النمو والتنمية الاقتصاديين يمكن أن تتسرب تلقائيا إلى الفئات المنخفضة الدخل، فتتحول تدريجيا إلى فوائد اجتماعية لصالح الجميع. عوض حصر الهدف الرئيسي لتلك التدخلات الاجتماعية على كيفية تخفيف أي أثر سلبي ينجم عن السياسات الاقتصادية، بدلا من التركيز في المقام الأول على تجنب حدوث أي تشوهات اجتماعية. غير أن الفوائد المتوقعة من التنمية الاقتصادية لم تتسرب تلقائيا لتصل إلى الجميع، بل أدت في حالات كثيرة، إلى تعاظم الفوارق والتشوهات الاجتماعية، وأدت إلى حالات من التوتر الاجتماعي. (ظهور تنسيقيات لمناهضة الغلاء، وكذا الانتفاضات الشعبية ذات الطابع الاجتماعي في العديد من المناطق) وهذا الوضع أدى بدوره إلى تفاقم الفقر وتزايد تهميش الفئات المحرومة. وهذه النتائج الاجتماعية الخطيرة للبرامج الاقتصادية، هي التي دفعت بالمجتمع الدولي المعني بالتنمية إلى إعادة التفكير في نموذج التنمية المتبع في التسعينات وتوجيهه نحو تحقيق المساواة الاجتماعية ووجه بعض سياسات الدولة المغربية في هذا الاتجاه. وعلى الرغم من ذلك، بقيت السياسات والبرامج الاجتماعية ذات دور ثانوي بدلا من أن ترتكز على مبدأ التوزيع، وظلت وسيلة مخصصة لمعالجة بعض المشاكل الاجتماعية الناشئة. ومع أن البرامج الاجتماعية التي تمولها جهات مانحة، ومنها الصندوق الاجتماعي التابع للبنك الدولي، لمساعدة المعوزين، فإنها تبقى قاصرة عن تأمين حلول طويلة الأمد. لهذا يجب إعادة التفكير في السياسة الاجتماعية للبلاد بدلا من تناول السياسة الاجتماعية من موقع ثانوي تابع للنمو الاقتصادي وتنفيذ المشاريع الاجتماعية بطريقة منفصلة ومجزأة، بل يجب النظر إلى السياسة الاجتماعية على أساس قيمها الفعلية وقدرتها على تحقيق الآثار الإيجابية وتعزيز النمو الاقتصادي والاجتماعي. وتبني نظام دولة الرفاه المتقدمة، إذ يتيح "فرص العمل المتكافئة والنتائج المنصفة للجميع"، و"يحقق دخلا وطنيا مرتفعا" ويحقق توازنا بين الدولة والسوق، حتى في ظل اقتصاد السوق وهناك براهين كثيرة تؤكد أن النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية يجب أن يسيرا معا. ولذلك لا بد من الاعتراف بأن النمو الاقتصادي يتيح زيادة الاستثمارات في التنمية البشرية، وكذلك التنمية الاجتماعية تعزز قدرات الأفراد فيصبح بإمكانهم المشاركة المنتجة في عملية التنمية الاقتصادية. على سبيل الختم وحتى تحقق جهود التنمية الاجتماعية الفعالية المطلوبة، يجب أن ترتكز على مبادئ عديدة سبق للبرامج الأممية للتنمية، وكذا مؤتمراتها أن نصت عليها، وتدعوا الحكومات المختلفة إلى اعتمادها، منها إرساء التوازن بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية بحيث ترفد فوائد إحداهما الأخرى؛ ثم اعتماد إستراتيجية لإعادة التوزيع وتعنى بتلبية حاجات الأفراد وبتخفيف ما ينجم عن المخاطر المحتملة من أضرار؛ ثم الاستثمار في الإنتاج، بما في ذلك بناء رأس المال البشري وتوفير فرص العمل؛ واعتماد إستراتيجية مرتكزة على المشاركة تعنى منذ البداية بتحديد حاجات المعنيين، ومنهم المجموعات المهمشة. وإضافة إلى ذلك، يجب أن تدرج السياسة الاجتماعية وكذلك آثارها الجزئية في إطار صنع السياسات على الصعيد الكلي، ويجب دمج تحليل السياسة الاجتماعية في جميع جوانب صياغة استراتيجيات التنمية الوطنية وعلى جميع مستوياتها. ويقصد بذلك دمجها في التشخيص، وتحديد خيارات السياسات العامة، وأوجه تخصيص الميزانيات التي تحدد أولويات التنمية الوطنية. ويجب وضع استراتيجيات وأدوات السياسة الاجتماعية بحيث تستهدف معالجة الإخفاقات الاجتماعية في المجالات التالية: (أ) دمج السياسة الاجتماعية والمساواة كقضايا رئيسية في جميع القطاعات؛ (ب) اعتماد سياسات شاملة تفيد الجميع؛ (ج) وضع الإطار المؤسسي والقانوني لاتخاذ القرار وتحقيق التغيير؛ (د) تطوير أدوات تتيح فوائد التنمية المنصفة لجميع شرائح السكان، من خلال تأمين العمالة والتعليم والصحة والثقافة، وضمان الحماية الاجتماعية، ودرء النزاعات. وبهدف اعتماد السياسة الاجتماعية الفعالية وتحقيق التغيير الإيجابي، يجب على الحكومة أن تزود مبادرات التنمية الاجتماعية بالموارد المالية والمادية والبشرية اللازمة؛ وأن تدعمها بالالتزام السياسي والدعم الشرعي؛ وتضعها في موقع يوازي موقع السياسات الاقتصادية في عملية صنع السياسات، باعتماد الاستراتيجيات المركزة، ولا سيما التي تدعو للتكامل بين المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتي تركز على الاستثمار في رأس المال البشري. إن استراتيجيات التنمية الوطنية هي تعبير عن رؤية مشتركة بين جميع المعنيين في المجتمع، من قطاع عام، وقطاع خاص، ومجتمع مدني، تجسد تطلعاتهم إلى مجتمع أفضل. وتتيح هذه الاستراتيجيات فرصة لإعادة النظر في العقد الاجتماعي والتأكد من أن العنصر الرئيسي في هذا العقد هو دائما تأمين الرفاه للجميع. ففي الماضي لم يكن للسياسة الاجتماعية دور يذكر في التأثير على الخطط الإنمائية. ولتصحيح ذلك، لا بد من التأكيد على دور البرامج الاجتماعية وتعزيزه بمراجعة الاستراتيجيات الشاملة والقطاعية، والتشديد على أهمية السياسة الاجتماعية في عملية التخطيط على الصعيد الوطني، بدءا من مرحلة التشخيص، مرورا بدراسة الخيارات، والتمويل وتخصيص الميزانيات، وصولا إلى تنفيذ البرامج وتقييم أثرها. وللقيام بتشخيص فعال، يجب إجراء تحاليل كمية ونوعية بهدف تحديد الحاجات والإحاطة بالوقائع والديناميات الوطنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن الضروري أن تركز عملية التشخيص على تحديد الحاجات والفئات السكانية ذات الأولوية، والعوائق والحواجز البنيوية التي تحول دون الاستفادة من فرص التنمية ونتائجها، والمخاطر التي تعوق القدرة على مواجهة الظروف غير المواتية، واستراتيجيات أسواق العمل ومصادر العيش التي تسهم في تحسين الرفاه والإنتاجية. إن المراتب الدونية في سلم التنمية البشرية، والتي يتبرم منها ساستنا، وصانعي البرامج السياسية ببلادنا، تستقي معطياتها من مجموع العوامل البنيوية التي تتحكم في ميكانيزمات التنمية البشرية وتوظفها في صياغة مؤشراتها، فتقيم المجهودات الكبيرة للدولة، وكذا تمويلاتها الضخمة في هذا الإتجاi لتضعنا رغم ذلك في المرتبة 126 دوليا. إن التخطيط لسياسة اجتماعية مندمجة يقتضي القيام بتشخيص دقيق لمعضلات الجسم الاجتماعي الوطني، وأعتقد أن إعطاء الضوء الأخضر لتأسيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي مؤخرا، قد يساهم في لعب دور محوري -إذا ما أعطيت له صلاحيات مهمة- في تدبير أزمة التخطيط الإستراتيجي للقطاع الاجتماعي والاقتصادي بالبلاد. وحتى يأخذ صانعي القرار الوطني بأسباب هذا التخطيط الاجتماعي العلمي، أقول هنيئا لنا بهذه الرتبة وإلى تقرير تنموي آخر، ورتبة أخرى.