ويشكل ما تقدم نماذج حول مكانة المصادر المصرية القديمة ، وأن الحاجة ملحة لنقل النصوص القديمة لتاريخنا إلى العربية مباشرة ، وليس عبر لغة غربية وسيطة ، وينطبق هذا أيضاً على المصادر الرافدية من بابلية وآشورية ، علماً بأن المصادر الرافدية ليست بالقدم نفسه مثل المصادر المصرية ، هذا وإننا ننتظر ظهور الكثير المهم من المواد السورية القديمة من قطنة وايبلا ، وأقدم المصادر البابلية وأهمها ما جاء من الدولة الآشورية ثم من دولة بابل الثانية ، فمن المعلوم أن العراق بلد قاري ، لذلك سعى حكام العراق نحو السيطرة على بلاد الشام والوصول إلى شواطئ البحر المتوسط ، وقاد هذا إلى أعمال توسع أكبر ، ويضاف إلى هذا إمكانات بلاد الشام من جميع النواحي وتوفر أكبر مناجم للنحاس ولتصنيع البرونز في العالم القديم في فيفان في أردن اليوم . ومن غير الممكن الحديث عن علاقات لدولة بابل الأولى مع القدس ، لأن القدس لم تكن قد تأسست بعد ، بل ربما كان هناك على مقربة منها محرس عسكري صغير جداً ، أما في العصر الآشوري فمن الممكن الحديث عن سياسة آشورية معتمدة نحو فلسطين منذ أيام “سلمان نصر” ، ومع ذلك لم يرد ذكر للقدس إلا مرة واحدة فقط هي في نص يعود إلى أيام الملك سنحريب (704 – 681ق.م) ، وفي هذا النص تناقضات أكبر مما ورد في النصوص الآشورية الأخرى ، حول اسم ملك القدس آنذاك ، علماً بأن النصوص الآشورية قد اتسمت دوماً بالمبالغة بالمعلومات التي حوتها ، وقد استمرت دولة آشور بالوجود حتى عام 612 ق .م حيث سقطت لدولة بابل الثانية – الكلدانية – والمهم بالنسبة لموضوعنا بين ملوك الكلدانيين هو نبوخذ نصر الثاني (605- 562 ق.م) والنصوص التي وصلتنا عن حملاته إلى سورية ، وطبعاً تعزو النصوص التوراثية إليه ما يعرف باسم ” السبي البابلي ” . ولم تعمر الدولة الكلدانية طويلاً بعد نبوخذ نصر ، وسقطت بابل عام 538ق.م إلى الملك الفارسي قورش ، حيث سلمه إياها كهنة مردوخ ، وفي أيام الملك قمبيز بعد قورش احتل الفرس بلاد الشام ، وكذلك مصر ، كما أن جيوشهم شرعت منذ ذلك الوقت بالتوغل في آسيا الصغرى وصولاً حتى بلاد الأغريق . وقبل الاستطراد بالحديث عن الحقبة الفارسية أعود إلى حكاية السلبي البابلي ، فقد تحدث الملك نبوخذ نصر عن حملاته ، وأهمها الحملة التي قام بها في السنة السابعة من حكمه حيث جاء في النص الأذي تحدث عنها ” السنة السابعة : شهر كسيليمو (كانون أول) حرك ملك أكاد جيشه إلى أرض حتى HATTI ، وحاصر مدينة ياحودو IAAHUDU ، فاستولى على المدينة في اليوم الثاني من شهر آذارو ، وعين فيها ملكاً حسبما ارتضاه ، واستولى على غنائم ثقيلة منها وجلبها إلى بابل “(1) وطبعاً لم يكن اسم القدس في يوم من الأيام ياحودو ، والدراسة المتآنية لنصوص نبوخذ نصر تظهر أنه لم يستول على القدس ، ولم يدخل فلسطين إلا مرة واحدة ، جرى صده فيها من قبل الجيوش المصرية ، ويقيناً لم يكن هناك سبي ليهود من القدس إلى بابل ، لأن اليهود لم يكونوا قد ظهروا على مسرح التاريخ ، يضاف إلى هذا أن الحفريات الأثرية أظهرت أن القدس كانت مدينة مزدهرة عامرة في التاريخ الذي قيل أنها تعرضت فيه للخراب على أيدي جيوش نبوخذ نصر ، لكن هذه المدينة أخذت تتراجع لتصبح شبه قرية ، وكان ذلك بعد أكثر من نصف قرن ، أيام الحكم الأخميني ، التي قيل بأن فيها أعيد بناء المدينة حسبما جاء في سفري عزرا ونحميا ، وتم فيها أيضاً عودة المنفيين . (2) . ولقد أظهرت نتائج الحفريات الأثرية التي جرت في بابل أنه لم يكن في هذه الحاضرة العريقة قبل احتلالها من قبل قورش غير الذين عبدوا الإله “مردوخ” وبقيت هكذا حتى تاريخ تهديمها ، ومعروف أنه في البلاط الأخميني ومن قبل عزرا الكاتب الذي كان يعمل به جرت المحاولة الأولى لتدوين أسفار التوراة ، وأن الأخمنيين أسكنوا في كل من مصر وفلسطين حاميات عسكرية أحضروها من المشرق ، وسكنت الحامية العسكرية الأخمينية في مصر في جزيرة الفيلة ، وشهرت بعبادة الآله يهوه ، وهو إله للزوابع ، ويرجح هنا أن الحامية التي جلبت إلى فلسطين سكنت في القدس ومن حولها ، وكانت على اتصال بحامية مصر ، وورد اسم المنطقة الإدارية التي سكنت فيها في البداية أحياناً باسم يه YH ثم على شكل YHWD أو Yhw أو Yhd أو Yodh-he أو Yhwd-phw أو Yhd-tet ، ووردت هذه الصيغ على بقايا قطع من الفخار ، لأن الفخار كان يختم باسم المنطقة الإدارية التي كان يصنع بها لأسباب إدارية وضرائبية ، ومع الأيام عرفت منطقة هذه الفئة باسم “يهود” وأخذ سكانها يتميزون بديانة ثنوية نبعت من الزرادشتية وامتزجت مع بقايا تقاليد عرفت باسم الموسوية ، وما تزال هذه القضية قيد البحث ، وبحاجة إلى المزيد من التعميق ، لكن لسوء الحظ إن مصادر الحقبة الخمينية التي استمرت حوالي القرنيين قليلة جداً ، وسكنى هذه الطائفة في فلسطين صبغت بثوب ديني أسطوري ، فكانت وراء ما ورد في سفري عزرا ونحميا ، وحكاية العودة من السبي ، وإعادة بناء الهيكل المزعوم وأسوار القدس ، والمهم هنا أن أعمال الكشف الأثري أفادت أن مساحة هذه المقاطعة كانت – 651 دونم – ولم يتجاوز عدد سكانها – 16.300 – إنسان ، 1- The ancient near east, vol 1, pp 199-205, the third edition of the same book, Princeton 1969, pp 307-308. Ancient Records of Assyria and Babylonia, by James Breasted, Chicago, 1926, vol 2, pp 119-121,143. 2- Rewriting The Bibl,pp / 56- 172 القدس في التاريخ تأليف د. سهيل زكار ج1 ط .بيروت 2002 ص 45- 55 وأن موقعين فقط بلغت مساحة كل واحد منهما – 20 دونماً ، وأن سكان القدس كان تعدادهم ما بين – 1200- إلى 1500 إنسان (1). وبودي لو أتيح لي الوقت الآن للحديث عن تاريخ الديانة اليهودية ، وعن تاريخ أسفار العهد القديم وعن محتوياته ، وكذلك عن التلمود ، ولعل ذلك يكون في مناسبة أخرى إنشاء الله . والمهم أننا عرفنا الآن أصل منشأ كلمة يهود ويهودية ، ومن ثم باتت جميع الآراء الماضية والنظريات ملكاً للتاريخ ، وألتفت الآن لإعطاء تعريف موجز بموقع القدس ثم البحث في اسم هذه المدينة الذي عرفت به أولاً . يشهد الدارس لموقع القدس وتطورها عبر العصور ، تشابهاً منقطع النظير مع مكةالمكرمة ، فالمدينتان قامتا في موقعين جبلين ، وارتبط تطورهما بالقداسة والتجارة ، وهما معاً عانتا من مشاكل قلة المياه ، وأكثر من هذا مثلما اسم مكة أو بكة يعني نبع الماء يرجح علمياً أن تسمية القدس من حيث الأصل ارتبطت بالماء . وتقع القدس على خط طول 35 درجة و 13 دقيقة شرقاً ،وخط عرض 31 درجة و 52 دقيقة شمالاً ، وترتفع نحو 750 عن سطح البحر المتوسط / ونحو 1150 م عن سطح البحر الميت ، والقدس ذات موقع جغرافي مهم ، لأن نشأتها جاءت على هضبة القدس والخليل ، وفوق القمم الجبلية التي تمثل خط تقسيم المياه بين وادي الأردن شرقاً والبحر المتوسط غرباً ، وجعل هذا من اليسير عليها أن تتصل بجميع الجهات ، وهي حلقة في سلسلة تمتد من الشمال إلى الجنوب ، فوق القمم الجبلية للمرتفعات الفلسطينية ، وترتبط بطرق رئيسية تخترق المرتفعات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ، وهناك طرق عرضية تقطع هذه الطرق الرئيسية ، لتربط وادي الأردن بالساحل الفلسطيني ، ومن بينها طريق القدس أريحا ، وطريق القدس يافا ، وتبعد القدس مسافة 22 كم عن البحر الميت ، و52 كم عن البحر المتوسط ، وأطوال الطرق المعبدة التي ترتبط بين القدس وكل من العواصم العربية المجاورة هي التالية : القدس – عمان 88 كم ، القدسدمشق 290 كم ، القدسبيروت 388 كم ، القدسالقاهرة 528 كم . وترجع الأهمية الجغرافية لموقع القدس ، إلى أنه يجمع بين مزية الانغلاق ، وما يعطيه من حماية للمدينة ، وميزة الانفتاح ، وما يعطيه من إمكانية الاتصال بالمناطق والأقطار المجاورة ، كما وترجع هذه الأهمية إلى مركزية موقع القدس بالنسبة إلى فلسطين والعالم الخارجي ، وعلى هذا اختير موقع القدس بما يجمع من صفات الانغلاق والانفتاح . 1- The emergence of yehud in the Persian Period, pp 222-246, 263-264, 283-294. وفي المجال العسكري ، اكتسب موقع القدس الجغرافي أهمية خاصة نظراً للحماية الطبيعية التي تزيد في الدفاع عنه ، وعندما كانت الحملات العسكرية تنجح في احتلال القدس ، كان ذلك النجاح إيذاناً باحتلال سائر فلسطين والمناطق المجاورة لها .... وكانت نشأة النواة الأولى لمدينة القدس على تلال الضهور ( الطور- تل أوفل) المطلة على قرية سلوان إلى الجنوب الشرقي من المسجد الأقصى ، وقد اختير هذا الموضع الدفاعي لتوفير أسباب الحماية والأمن لهذه المدينة الناشئة ، وساعدت مياه عين أم الدرج في الجانب الشرقي من الضهور على توفير المياه للسكان ، وأحاط بهذا الموقع وادي قدرون (جهنم) من الناحية الشرقية ، وأحاط به من الجهة الجنونية وادي هنوم ( الربابة ) ووادي الزبل من الجهة الغربية ” وقد كونت هذه الأودية الثلاثة خطوطاً دفاعية طبيعية جعلت اقتحام القدس القديمة أمراً صعباً ، إلا من الجهتين الشمالية والشمالية الغربية ” وبناء عليه استولت عليها جميع الجيوش عبر التاريخ ودخلتها من جهة الشمال . ” وهجرت النواة الأولى للمدينة بمرور الزمن وحلت محلها نواة رئيسة تقوم على تلال أخرى غير تلال الضهور (الطور ) مثل مرتفع ساحة الحرم (موريا) في الشرق ، ومرتفع صهيون في الجنوب الغربي ” ، ومع الأيام دخلت هذه المرتفعات داخل أسوار المدينة ، وكان ذلك على يدي الأمبراطور الروماني ايليوس هدريانوس (117- 138م) (1). أما بالنسبة لاسم المدينة ، فقد اعتمد الباحثون في هذا المقام على مواد العهد القديم ، فقالوا بأن أسمها الأول كان “يبوس ” ، ثم صار أسمها “أورشليم ” بصيغ متنوعة ، ثم مدينة داود ، وبعد ذلك ايليا ، وبعد الفتح الإسلامي بزمن عرفت باسم القدس ، أو بيت المقدس ، ويضاف إلى هذا أن أسفار العهد القديم أطلقت عليها أسماء أخرى مثل : سالم ، وهيروسوليما ، وبيدرأرنان ، وأريئيل ، ومدينة قوية ، وابنه صهيون ، والمدينة الدموية ، والمدينة المطلوبة غير المهجورة ، ومدينة قوية ، ومدينة الرب ، والسيدة في البلدان ، والعظيمة بين الأمم ، ووادي الرؤيا ، وسدوم، والبرج ، وهاليا ، والجريزا ، Al-gariza ، وأشار المسيحيون إليها أحياناً باسم “الضريح المقدس ” ، واللاتين باسم ييروسوليما .(2). 1- الموسوعة الفلسطينية –القسم العام – الطبعة الأولى 1983، الجزء الثالث، مادة “قدس”. 2- الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية لسهيل زكار ج 42- ط دمشق 2001 ص 1015. الموسوعة الفلسطينية – المرجع نفسه ، والمادة ذاتها . ومع أن اسم يبوس اسم عربي شامي ، مازال معروفاً في أحواز دمشق (جديدة يابوس) من غير الممكن توثيق جميع هذه الأسماء التي وردت في أسفار العهد القديم ، والذي يمكن اعتماده فقط أولاً اسم “القدس ” ثم ” ايليا ” رسمياً فقط لبعض الوقت ، والقاعدة التي اعتمدت في بلاد الشام حتى قدوم الأسكندر المقدوني ، في إطلاق الأسماء على الأماكن ، قد ارتبطت بطبيعة المكان جغرافياً أو طبيعياً ، أو بوجود مكان مقدس (بيت) أو بمعركة من المعارك ، ولم يستخدم الشاميون السابقة “أور” في أي مكان من بلادهم ، واقتصر استخدام هذه السابقة على بلاد الرافدين ، ومن هذا المنطلق من المرجح أن اسم ” أورشليم” قد أطلق على المدينة المقدسة في أيام الحكم الأخميني في المائة الرابعة قبل الميلاد ، وذلك مع ظهور مقاطعة “يهود” ، واسم “يهود” ، واسم أورشليم اسم رافدي بابلي ، ظل رائجاً حتى مطلع العصر العباسي ، حيث أنه عندما بنى أبو جعفر المنصور مدينته المدورة ( بغداد ) أطلق عليها اسم ” دار السلام” أي أورشليم . والاسم ” القدس ” هو الذي يمكن توثيقه لغوياً ، وجغرافياً ، وتاريخياً ، وهذا الاسم مرتبط بالماء من حيث الجر ، ومن حيث التخزين ، وكما سلفت وأشرت إلى التشابه ما بين مكةالمكرمةوالقدس فهذا واضح لنا من حيث التشابه بالموقع الجبلي ، وكذلك أصل الاسم ومعناه ، فقد أشار القرآن الكريم إلى مكة باسم “بكة” في قوله تعالى ( إن أول بين وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ) سورة آل عمران – الآية 96 ، والإشارة إلى بكة هي إشارة إلى بئر زمزم ، ففي لبنان هناك بعلبك ، وفي سورية ومصر اسم الفم ” بق” ويقال للذي يطلب منه الكلام ” بق الكلمة ” ، وبقين ، نبع مشهور في ريف دمشق ، يشرب الناس مياهه المعبأة في قوارير ، وما برح العرب في كل مكان يصف كل واحد منهم الماء في حالة الفوران والغليان “الماء يبقبق”. ومثل هذا كلمة “قدس ” التي تضبط ب” قادس – قادش وقدس ” وفي سورية قدس أو قادس قرب حمص ، واسم النبع الآن “عين التنور ” ، ونبع النهر الذي تشرب منه طرابلس الشام هو “قاديشا” وفي فلسطين “قادش برنيع” قرب بئر السبع ، وإلى الشمال من صفد قرية اسمها “قدس” ، وهناك “قادش” على الساحل الجنوبي الغربي لبحيرة طبرية ، بالقرب من سمخ ، (1) وفي جنوب لبنان قرية أسمها “قدس” ، وإلى جانب دمشق بلدة “قدسيا” التي سميت كذلك لجر الماء إليها من نبع العراد ، وفي الأندلس مدينة عريقة كان أسمها “قادس” في كورة اشبيلية ، ذكر ياقوت في معجم البلدان أن الماء كان يجلب إليها من نبع عذب في البحر ، حيث بني فوقه 1- الموسوعة الفلسطينية – المرجع نفسه ، مادة ” قدس + قادش “. “بناء محكم ووثق بالرصاص ، والحجارة الصلبة ” وسيق الماء من هناك إلى المدينة ، وفي العراق القادسية التي وقعت قربها المعركة المشهورة ، وكذلك قديس ، وكان أيضاً قرب دجيل بين حربي وسامراء قرية كبيرة أسمها قادسية (1) ، وفي جنوب اليمن قدس ، وعاصمة الصومال أسمها “مقديشو” ، ويقال حتى الآن في سورية لدلاء الماء ” قادوس ” وفي المغرب الأقصى،القادوس مجرى الماء ، وهناك قرب فاس “عين قادوس” . ونقرأ في لسان العرب لابن منظور ” القدوس هو الطاهر المنزه عن العيوب ، وقد تفتح القاف ، وقدس هو الموضع المرتفع الذي يصلح للزراعة ، وقدس بفتح القاف والدال – موضع بالشام من فتوح شر حبيل بن حسنة ، والتقديس : التطهير والتبريك ، وتقدس تطهر ، ونقدس لك: نطهر أنفسنا لك ، وكذلك نفعل بمن أطاعك نقدسه ، أي نطهر ، ومن هذا قيل للسطل القدس، لأنه يتقدس منه ، أي يتطهر ، والقدس : السطل بلغة أهل الحجاز لأنه يتطهر فيه ، والقدس : البركة” وعلى هذا القدس “بركة الماء” ، الماء الذي يستخدم للطهارة ، ولقد كان من أهم ما اتسمت به مدينة القدس القديمة في العصور القديمة والوسيطة البرك التي كانت تجمع فيها مياه الأمطار، حتى ساد اعتقاد لدى المسيحيين أن مياه بركة (2) الضأن ، وكانت من أكبر برك المدينة ، كان ملاك يحرك مياهها ، وعند تحركها أول من يغطس بها يشفى من كل داء . وذكر هيرودوت ( 483 425 ق. م ) في تاريخه القدس تحت اسم كاديتيس وأوضح أنها كانت بلدة سورية كبيرة على مقربة من مجدولوس الذي هو مرج ابن عامر ، أو بالأحرى تل المتسلم ويوحي كلام هيرودوت أنها كانت تعرف بهذا الاسم من القديم(3) وإنها مدينة فلسطينية ذلك أن الجزء الجنوبي من السورية الممتد جنوباً إلى مصر كله يعرف باسم فلسطين4وكان هيرودوت حين تحدث على التقسيمات الإدارية للإمبراطورية الإخمينية مع تبيان كميات الضرائب التي كانت تدفعها كل مقاطعة بهذه الإمبراطورية بين أن المنطقة العربية التي ضمت سيناء مع سورية الداخلية كانت معفاة من الجزية وأن المنطقة الساحلية التي امتدت من السويدية حتى مصر شكلت مقاطعة إدارية ضمت كل فينيقية وذلك الجزء من سورية الذي يعرف باسم فلسطين وقبرص(5) وفي هذا ما يؤكد أنه في المائة الخامسة قبل الميلاد لم تكن مقاطعة اليهود قد ظهرت إلى الوجود . 1- معجم البلدان – مادة “قادس + قادسية ” 2- الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية ج 39 ص 102 – 107 3- معجم بلدان فلسطين لمحمد شراب-ط.دمشق 1987،مادة “مجدو”. هرودوت يتحدث عن مصر للدكتور محمد صقر خفاجة والدكتور أحمد بدوي –ط. القاهرة 1987 ص 293 Herodotues, the histories, London 1965,p166 Herdotues, Ibd, p 444 Herodotues, Ibd, pp 214-215 ونقف مجدداً مع العرض التوارتي للأحداث وقد ذهب هذا العرض إلى أن القدس قد تأسست حوالي عام 3500 قبل الميلاد وأن سكانها المؤسسين لها كانوا العرب اليبوسيين وأن ملكي صادق كان أول ملوك هذه المدينة وهو سام بن نوح ، وقد زاره ابراهيم الخليل عليه السلام، فباركه أي استخلفه واستخلف ابراهيم فيما بعد ابنه اسحاق وجاء من بعد اسحاق ابنه يعقوب الذي دخل مع أولاده إلى مصر الإقليم اثر مجاعة ، ولأن ابنه يوسف كان عزيز مصر وبعد ردح من الزمن تكاثر عدد أبناء يعقوب الذي صار اسمه الآن إسرائيل، ونتيجة لظلم المصريين هاجر بنو إسرائيل من مصر بقيادة النبي موسى عليه السلام وإنهم قطعوا البحر إلى شبه جزيرة سيناء حيث تاهوا فيها لمدة أربعين سنة ثم دخلوا فلسطين بعد وفاة موسى عليه السلام بقيادة يوشع بن نون وهدموا أريحا وقتلوا أهل فلسطين حتى تمكن داود في حوالي سنة 1000 قبل الميلاد من الاستيلاء على القدس وصارت مدينة داود وبعد داود حكم ابنه سليمان الذي بنى في القدس الهيكل الأول وبعد سليمان انقسمت المملكة إلى قسمين مملكة إسرائيل في الشمال وهي الأكبر ومملكة يهوذا في الجنوب وأن حرباً قاسية نشبت بين مملكتين وأن هذا أدى إلى انفصال جماعة السامرة وفي الوقت نفسه تعرضت فلسطين لحملات مصرية وأخرى أكادية ثم آشورية وبعد ذلك كلدانية وكان آخرها حملة بنو خدنصر الذي استولى على القدس وسبى سكانها وشتتهم حتى جاء العصر الأخميني . وهذا العرض ، وأن كان يبعث في أيامنا السرور في بدايتة بالنفس ، هو ملفق ولا صحة له ، يتعارض تماما مع معطيات الآثار ، كما أنه لا يتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم ، وهو قد بعث السرور في البداية على أساس أن العرب اليبوسيين هم الذين أسسوا المدينة ، وهنا نرى أن يبوس سمه للمكان ، وأن هذه السمة من المفترض قد منحت اسمها لسكانها ، وأما الحديث عن ملكي صادق وإبراهيم الخليل فأسطوري كامل ، اخترعه كتاب العهد القديم للقول بأن ملكي صادق قد عهد إلى إبراهيم ، وأن إبراهيم قد أورث شرعيته إلى ابنه اسحق وهكذا إلي يعقوب فالأسباط ، وهذا أمر لا يمكن إثباته عن طريق الآثار ، يضاف إلي هذا أن القرآن الكريم لم يذكر ملكي صادق ، ولم يذكر أن إبراهيم الخليل قد قام بأية حروب ، ثم إن الاتصالات بين العراق والحجاز إذا قبلنا برواية أن إبراهيم كان أصلأً من العراق لم تكن قط تتم عبر فلسطين ، بل مباشرة ، وأن إسماعيل كان هو الابن الأول لإبراهيم ، وبإبراهيم وإسماعيل الذبيح، ارتبط حدث إعادة بناء الكعبة في مكةالمكرمة ، ومع إعادة البناء هذه الايذان بالحج ، وأما قضية اسم أم إسماعيل بأنه كان هاجر ، فأمر سهل التفسير ، لأن أهل اليمن يطلقون على القرية أو البلدة اسم ” هجر ” وروى ياقوت أن ” الهجر بلغة حمير والعرب العاربة : القرية ، فمنها هجر البحرين ، وهجر نجران ، وهجر جازان .... (1) ، فهاجر على هذا امرأة هجرية ، والارتباط بمصر ، هو ارتباط بمجرى ماء أو تخم ، وفي جنوب شبه جزيرة العرب المياه وفيرة، وبها ارتبطت أماكن الاستقرار والتواصل المعاشي وسواه ، وصورة إبراهيم الخليل عليه السلام في القران الكريم صورة الإنسان المتنقل غير المستقر ، أي أنه كان أقرب إلي البداوة ولذلك منطقي تسمية زوجته غير البدوية باسم هاجر ، لأنها جاءت من ” هجر ” قامت على مجري من مجاري المياه ، وهذه أيضاً صورة بقيت مستمرة حتى أيام يعقوب ، والخلاف بين أولاده ، وقضية يوسف ، ثم بعد ذلك في سيرة موسى عليه السلام بعد فراره ، وقيامه بأعمال الرعي ، ومادمنا مع موسى عليه السلام ، إن بلد السحر قديما هو بابل ، وهذا واضح في قوله تعالى : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) ، كما أن بلاد بابل هي بلاد الأبراج والزقورات ، واستخدام الطوب المجفف بالشمس أو المشوي بالنار ، في حين نجد أن آثار أرض الكنانة شاهدة على أنها بلاد الحجارة والبناء بها ، يقول الله تعالى : ( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى ) ، وقوله جل وعلا : ( ولقد أرسلنا موسى بأياتنا وسلطان مبين إلي فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب )(4) وقوله تعالى : ( وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب . أسباب السموات فأطلع إلي إله موسى ) } سورة غافر الآيتان : 3637 { . والفرعون بالعربية هو الطاغية ، وكان أبوجهل طاغية هذه الأمة ، وشهرت بلاد بابل بطغاتها عبر التاريخ ، ونعود إلي يعقوب وأبنائه لنتذكر أنه كان من عادة البداة الاسترفاد في مواسم القحط من البلدان المجاورة ، وشهرت هذه العادة عند بداة شبه الجزيرة العربية ، حيث كانوا يسترفدون من العراق في أيام القحط قبل الإسلام ، ولدينا في الأدب العربي حكاية قوس حاجب ، وهي من الشواهد المتأخرة ، كما أن شط العرب شكل مجمعا للبحرين ، وعلي مقربة منه ما تزال هناك بقايا أقدم أتباع ديانة قديمة جداً ، وأعني بهم الصائبة الذين يمتلكون تراثاً دينيا غنياً ، يضاف إلي هذا أن الخليج العربي هو البحر الأحمر قديما ، وتتحدث كتب الأخبار العربية _____________________________________________________ 1 معجم البلدان : مادة هجر . 2 سورة البقرة : الآية 1.2 . 3 سورة القصص الاية : 38 . 4 سورة غافر الآيتان : 2324. عن أنساب وكتب الأنساب عن عرب بائدة ، وقد يكون بنو إسرائيل من العرب البائدة ، لأنه جاء في القران الكريم قوله تعالى : ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون . تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولاتسئلون عما كانوا يعملون ) (البقرة : 132134 ) . هذا ومقرر علمياً أنه لا علاقة بين بني إسرائيل أي أولاد يعقوب والذين سيعرفون باسم يهود فيما بعد ، يقول الله جلت قدرته : ( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون . تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ما كسبتم ولاتسئلون عما كانوا يعملون ) ( البقرة : 140 141) . وحين ننتقل إلى مسألة كل من داود وسليمان ، نجد أن صورة داود في القران الكريم تختلف عنها في العهد القديم ، فهو في العهد القديم : فتى أفاق ، مارس أعمال رعاية الأغنام ، ثم شكل عصابة من حوله ، وتشرد وتخفى في عدة أماكن، حتى قتل سيده ، واستلم السلطة من بعده ، وفي أيام سلطته كان بيته بؤرة دعارة ، وكانت لذلك علاقته ببعض أولاده سيئة ، ثم هو لم يكن نبياً ، أما في القرآن فنجد صورته وحرفته مختلفة ، وأنه كان نبياً ، وهكذا نقرأ قوله تعالى : ( وآتينا داود زبوراً ) – ( النساء : 163 ) – ( ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود سليمان) ( الانعام:84 )- (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود)- ( المائدة : 78 ) ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ) ( ص: 26) ، وأخيراً : ( وألنا له الحديد . أن أعمل سابغات وقدر في السرد ) ( سبأ : 1011 ) . وعلى هذا كان النبي داود خليفة لله في الأرض ، وكان يمارس أعمال القضاء ، وقد آتاه الله زبوراً ، وألان الله له الحديد ، حيث عمل سابغات ، وكان بالوقت نفسه عالماً ، ولابد لخليفة الله في الأرض من أن يكون حاكما عظيم الشأن على دولة واسعة الآفاق وهذا لا يتوافق مع تاريخ فلسطين ، ثم إن القدس لم تكن قط عاصمة دولة كبيرة جداً وقوية إلى أقصى الحدود ، ونبقى مع المسألة الفيصل وهي العمل بالحديد وصنع السوابغ ، حيث من المقرر تاريخيا أن أول من استخدم الحديد في الأعمال العسكرية هم شعوب البحر ، الذين اجتاحوا الشواطئ الشامية والمصرية ، محدثين الدمار والحرائق ، وما نحين لفلسطين – كما يعتقد الكثيرون – اسمها ، فهم قد جاءوا من كريت ، ومن بعض البلدان الأوربية التي امتلكت الحديد ، وبذلك حققوا التفوق على الذين كانت أسلحتهم من البرونز ، وكان ظهورهم في حوالي / 1200/ ق .م / فهل كان داود من شعوب البحر ؟ طبعا لا ، لأن اسمه عربي ، والله تعالى قد استخلفه وانزل عليه الزبور ، وبما أن الحديد لم يكن متوفرا في المشرق العربي ، وأنه دوماً جرى استيراده من أوربا أو من آسيا الصغرى ، أو من الهند ، علينا البحث عن دولة كبرى استخدمت الحديد على نطاق واسع ، فحققت بذلك نجاحات عسكرية باهرة ، وهذا ينطبق فقط على الدولة الآشورية من بعد القرن الثامن قبل الميلاد ، وطالما كان داود خليفة الله ، وسيد دولة كبرى من نسل نوح ، لابد أنه كان ملكاً آشوريا ، ويدعم هذا اسم ابنه ” سليمان” الذي هو اسم آشوري ، والدولة العظمى التي حكمها سليمان لا تتطابق ملامحها ألا مع الدولة الآشورية ، وصحيح أن الدراسات حول الدولة الآشورية كثيرة ، نحن مازلنا نجهل الكثير من أخبارها ، لأن الذي كشف من آثار الماضي أقل مما يزال تحت الأرض ، يضاف إلى هذا أنه لدى نقل الكثير من آثار أشور في القرن التاسع عشر إلى أوربا ، أخذت طبعات العديد من النصوص المهمة جداً ، وقد أتلفت أوراق هذه الطبعات في المتحف البريطاني لأن نصوصها تعارضت مع مواد العهد القديم (1) ، وعلى هذا استعار كتاب العهد القديم من تاريخ أشور : داود وسليمان والتمزقات التي عرفتها الدولة الآشورية ، ومسخوا الجغرافيا ودنسوا الصدق والحقيقة . وقبل أن ندع النبي داود عليه السلام ، أبق مع صناعة السوابغ من الحديد ، فالسابغة ثوب أو درع من زرد الحديد ، يجره المقاتل على كعبيه طولاً ، وتصنع السابغة بالعادة من حلق أو خواتم من الحديد تشبك مع بعضها (2) وكانت صناعة السوابغ حتى في أوربا في العصور الوسطى تحتاج إلى مهارة عالية في فنون صناعة الحديد ، والى نفقات كبيرة جداً وإلى فرق من العمال البارعين ، وذلك أن سابغة واحدة كانت تحتاج إلى عدد هائل من الحلق أو الخواتم ، تصنع مفردة ثم يجرى شبكها مع بعضها ، ولحمها مع بعضها بشكل متقن بوساطة النار الحامية والتطريق ، واحتاج مثل هذا العمل إلى إمكانيات دولة كبرى مالياً وغير ذلك ، وهذا ما لم يتوفر في فلسطين. _____________________________________________________ 1 ساغي (هنري) جبروت آشور الذي كان ، ترجمة عربية دمشق 1995 ص 382 – 432 . 2 لسان العرب – مادة ” السبغ ” . وأختم حديثي هذا بالمسألة التي تواجهنا فيما يتعلق بالنبي سليمان ، وملكة سبأ ، المشهورة باسم بلقيس ، فالدارس لتاريخ الدولة الآشورية ، ولنصوص الآشوريين الكثيرة ، يلاحظ كثرة الإشارات فيها إلى القوى البدوية العربية ، والى دويلات عربية كانت محكومة من قبل نساء (1) وورد ذكر سبأ في القرآن الكريم مرتين ، في المرة الأولى في سورة النمل ( الآيات 19 – 44 ) حيث جلب طائر الهدهد خبراً إلى النبي سليمان عن ( سبأ بنبأ يقين .إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم . وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) ، و أرسل سليمان رسالة إلى سبأ قال لهم فيها : ( ألا تعلو على وأتوني مسلمين ) وحاول السبأيون شراء رضاه بالمال فقال لرسوله : ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم ولنخرجنهم أذلة وهم صاغرون ) وفي النهاية قدمت ملكة سبأ إلى عند سليمان ، ولدى دخولها عليه حسبت ارض قاعة عرشه (لجة وكشفت عن ساقيها قال انه صرح ممرد من قوارير ) ونتيجة لذلك تخلت عن كفرها وقالت : (ربي أني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) ومهم قولها أسلمت مع سليمان ولم يشر القرآن إلى حملها هدايا إلى سليمان أو سوى ذلك ،في حين تحدثت أخبار العهد القديم عن هدايا متنوعة وثمينة حملتها إلى الملك سليمان ،وإلي قيامه بإغوائها وإغواء وصيفتها، وإنجابها منه وكذلك وصيفتها إلى غير ما ذلك . والمتمعن بلهجة خطاب سليمان للسبأيين ومن ثم مقارنتها بالنصوص الآشورية التي نشرت حتى الآن يجد تماثلاً ، ولابد هنا من الوقوف عند قدرة طائر الهدهد على قطع المسافات، وإلى استخدام الزجاج الممرد ،فلعل سبأ كانت على مقربة من أشور فالقبائل العربية كانت منتشرة في مناطق الجزيرة وسواها ومن جديد دعونا نختتم بمواجهة ذكر سبأ اليمن وفي سورة قرآنية حملت اسم سبأ الآية (21- 140 )ورد قوله تعالى (لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتين ذواتى أكل خمط واثل وشئ من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجزي إلا الكفور ) وواضح هنا إن المقصود سبأ اليمن وسد مأرب حيث تعرض لفيضان وتهديم ،وكان ذلك قبل الاحتلال الحبشي لليمن ، والفارق الزمني بين سبأ سليمان وسبأ اليمن قد يصل إلى ألف وثلاثمائة سنة ،هذا ومسألة تشابه الأسماء في الوطن العربي مسألة معروفة عبر التاريخ .