أشرت في المقال السابق أن بعض الأماكن برغم فسادها قد تساعد على كشف المفسدين الكبار، ومن هذه الأماكن مكاتب تصوير الأوراق، وتكملة لحكاية تجربتي مع بعض هذه المحلات؛ فقد حاولت أن أفتش عن مكان آخر لتصوير أوراقي غير المكان الذي شهدت فيه تصوير إجابات أسئلة اختبارات الجامعة بمباركة بعض أساتذة الجامعة، وحاولت أن أنفذ مهمتي في مكان لا أرى فيه فسادا، فتوجهت إلى مكتبة ثانية وشعرت بالارتياح أن المكان غير مزدحم وقت الاختبارات، وعاد إلي الأمل أن الدنيا بخير، فوقفت أنتظر أحد المواطنين الذي قدم أوراقا كثيرة للتصوير، وشدني إليه مظهره الذي لا يؤهله لحمل الأوراق أو حتى دخول المكتبات، فقد كان يظهر من ملابسه غير النظيفة أنه أمي أبجديا وثقافيا، وشدني حب الاستطلاع لأرى ماذا يصور؟ وصدمت صدمة كبيرة أكبر من الأولى حين وجدته يصور أوراق الاختبارات النصفية لجميع المواد لإحدى مدارس محافظة صنعاء، (أحتفظ باسمها) وتقدمت منه متأثرة بالحديث الشريف(رب أشعث أغبر.." لأسأله: هل أنت مدير المدرسة؟ قال: مبتسما وفخورا بتوقعي:(لا. أنا فاعل خير فقط) واتضح أنه فعلا ليست له أي صفة في المدرسة المذكورة، وأنه جاء لتصوير الاختبارات بحق المشوار وحق الغداء وحق القات كما أفاد، وحين سألته: ألا يوجد في المدرسة آلة تصوير؟ ضحك بسخرية من سؤالي، وظن أني غير يمنية حين وجهت هذا السؤال، وقال: باستنكار لجهلي: ( المدرسة ليس فيها مدرسين زي الناس عادك تشتي آلة تصوير) قلت له: كيف سيختبرون الطلاب وهم بلا مدرسين ؟ أجاب: ( يالله ما شاء الله كان ... معهم شوية مدرسين مبزغين يصيحوا عليهم ساعتين في اليوم ويوزعوا عليهم ورقتين طول السنة ويختبروهم فيها) وسألته عن ماذا يعني ب (مبزغين)؟ قال : هذا كلام خاص بالقات والمقوتين لن تفهميه لأنك على ما يبدو غير يمنية، فقلت: حسبي الله ونعم الوكيل، وحملت أوراقي للمرة الثانية بمزيد من الألم ورحلت، وتأكدت أنه ينبغي أن أتعلم لغة القات والمقوتين حتى أكون يمنية في نظر مثل فاعل الخير هذا.. انتقلت إلى مكتبة ثالثة في محاولة يائسة لتنفيذ مهمتي ذلك اليوم، وحمدت الله أن المكتبة كانت خالية من الزبائن، وبدأت في فرز أوراقي للتصوير، وكانت المفاجأة أنني -من غير قصد-حملت واحدا من اختبارات المبزغين معذرة (المدرسين)، الذين استعانوا بفاعل الخير المذكور، واطلعت بسرعة على محتويات الاختبار، فإذا هو اختبار لمادة القرآن الكريم وعلومه،(مازلت أحتفظ به) وزاد من حزني أن يصل الاستهتار بالقيم لدرجة بيع اختبارات تمس القرآن الكريم، ووجدته اختبارا رديئا جدا، فكل أسئلته لا تقيس غير التذكر، وفيه كثير من الأخطاء اللغوية حتى في الآيات القرآنية، والمضحك في الأمر أن اسم المدرس الذي وضع الاختبار مطبوع على جميع الأوراق بخط واضح ومنسق، وكأنه فخور بمثل هذا الإنجاز، مما يدل أن جميع من في المدرسة بما فيهم المدير والمدرس نفسه؛ لم يسمعوا عن شروط الاختبار ، ولم يسمعوا بعد بمعايير بناء الاختبارات التحصيلية، وحتى لا يعرفون أن خروج الاختبار من المدرسة بيد غير مختص وتصويره في مكان عام هو من الجرائم التي يعاقب عليها القانون، والأكثر فظاعة أنهم يمارسون الغش باستعمال القرآن الكريم . هذا يحدث في محافظة صنعاء العاصمة فماذا يحدث في الريف؟!!وهنا أتساءل: هل سيتفضل المسئولون في الوزارات الخدمية بتخصيص يوم في الشهر لزيارة مثل هذه الأماكن التي يتعامل معها الناس؟ أو حتى يزورونها في المناسبات ؟ ربما ما سيشاهدونه بأم أعينهم يقنعهم بأن مؤسساتهم منهكة بالجهل وبالفساد والإفساد، ويكفون عن إثارة غضب الشعب بالحديث عن منجزاتهم المتميزة في خدمة الوطن والمواطن...وهذا يكفي ...