وجه الأستاذ عبد الرحمن بنعمرو ، بداية شهر غشت 2010 ، رسالة إلى كل من المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية لعلماء المغرب يستفتيهما في موضوع "عدم تحمل الدولة المغربية مسؤوليتها القانونية والوطنية والإسلامية والعربية في حماية اللغة العربية من المتآمرين عليها وعدم العمل على تنميتها ونشرها واستعمالها في جميع المجالات والميادين الرسمية ". وحسب ما جاء في جريدة التجديد التي نشرت فقرات من الرسالة ، فإن الأستاذ بنعمرو برر لجوءه إلى استفتاء المجلس العلمي الأعلى بوجود "اعتبارين اثنين : الأول هو أن مبادئ وأهداف المجلس مستمدة من مبادئ وأهداف الإسلام السمحة، وهي أهداف مستمدة من القرآن الكريم الذي نزل باللغة العربية، والثاني يتمثل في أن الدستور ينص في تصديره على أن المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية، وهي جزء من المغرب العربي الكبير . وبناء على هذا ، يريد الأستاذ بنعمرو استصدار فتوى تحدد الموقف الشرعي للهيئتين العلميتين من موضوع "تهميش" الدولة المغربية للغة العربية وعدم حمايتها والوقوف "سدا منيعا ضد جميع المحاولات الرامية إلى إصدار قوانين ، عبر البرلمان ، تنص وتؤكد على رسمية اللغة العربية ولزوم استعمالها ، تحت طائلة توقيع جزاءات ، في جميع المجالات ، بما فيها مجال التعليم العالي بجميع فروعه ، والإدارة و المؤسسات العمومية و الإعلام العمومي، وهل عدم تحمل المسؤولية فيما ذكر يجد له سندا شرعيا أم لا؟ . بالتأكيد لا يشكك أحد في صدق مشاعر الانتماء القومي العربي للأستاذ بنعمرو ، واعتزازه بلغة القرآن الكريم وحرصه على حمايتها وتنميتها . لكن نبل الهدف تشوش عليه الوسيلة المعتمدة من جوانب عدة أبرزها : 1 إن استعمال الفتوى في موضوع الدفاع عن اللغة العربية من أجل تعميم استعمالها في التعليم العالي والإدارات العمومية ، هو إقحام للدين في الأمور السياسية المتعلقة بتدبير الشأن العام . وهذا يتنافى مع قناعة اليساريين وكل الديمقراطيين الذين يطالبون بالفصل بين المجال الديني والمجال السياسي وينتقدون توظيف الدين لأهداف سياسية . فكل إقحام للدين في السياسات العمومية سيقوض أسس الدولة الديمقراطية وقيمها ومبادئها . ومن شأن هذا التوجه أن يُفشل المشروع المجتمعي الحداثي والديمقراطي الذي ناضلت وضحت من أجله أجيال المناضلين ، والتقت بشأنه إرادة القوى السياسية بإرادة الملك الذي وضع نفسه ، في طليعة المدافعين عنه كما جاء في خطاب 29 ماي 2003 (ولشعبنا العزيز الواثق بثوابته الحضارية المتشبث بمقدساته وبمكاسبه الديمقراطية أقول.. إن الإرهاب لن ينال منا. وسيظل المغرب وفيا لالتزاماته الدولية مواصلا بقيادتنا مسيرة إنجاز مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي بإيمان وثبات وإصرار. وسيجد خديمه الأول في مقدمة المتصدين لكل من يريد الرجوع به إلى الوراء، وفي طليعة السائرين به إلى الأمام، لكسب معركتنا الحقيقية ضد التخلف والجهل والانغلاق) . 2 إن من شأن استصدار فتوى في موضع كهذا يهم الشأن العام أن يشجع التيارات الدينية على شرعنة توجهاتها وتقوية مواقفها ضد الدولة وتشريعاتها التي تعتبرها هذه التيارات لادينية ومنافية للشرع . ومتى تم هذا ، فسيكون المغرب أمام تجربة سياسية تعطي سلطة القرار والحسم والاختيار للفقهاء بعد أن تسلبها من ممثلي الشعب في المؤسسات الدستورية . بحيث لا تأخذ التشريعات والاختيارات السياسية طريقها إلى التنفيذ إلا بعد إجازتها من طرف الفقهاء ، أي هيئة الإفتاء . وها نحن أمام "ولاية الفقيه" بدل ولاية الأمة . وهذا ما تطالب به تنظيمات الإسلام السياسي ، سواء من داخل البرلمان أو من خارجه . فمصلحة المجتمع يقررها الفقيه ويحدد سبل إدراكها لا الناخب أو الأحزاب . 3 إن محاكمة السياسات العمومية على ضوء الفتاوى الفقهية ستفجر حرب الفتاوى بين التيارات الدينية نفسها التي يتمسك فيها كل تيار بعقائده ويرمي غيره بالضلال والردة والخسران . وفي هذه الحالة الدولة ستخضع لأي تيار وستعمل بأي فتاوى ؟ وأي هذه التيارات يمثل الشرع ؟ 4 من شأن هذا الإجراء ( الفتوى) أن يتولد عنه اتهام الدولة بمحاربة الدين من خلال محاربتها للغة القرآن وتهميشها وعدم حمايتها . والتركيز على عبارة "لغة القرآن" يجعل أحد طرفي العبارة يتداعى بما يصيب الطرف الأخر من إهمال أو تهميش . وهذا من الأمور التي لا تحمد عقباها لما يجتره من اتهامات الأصوليين والسلفيين للدولة والنظام المغربيين بكونهما "يحاربان" الدين . فالأستاذ بنعمرو يريد أن يجعل الدولة في حكم من يحارب الدين لأنها تحارب لغة القرآن وتهمشها ولا تحميها . وهكذا يلتحق الأستاذ بنعمرو بخندق الأصوليين والسلفيين والمتطرفين في موقفهم من الدولة ومحاكمة سياساتها العمومية بمنطق الفقه والشرع ، أي بمنطق الحلال والحرام الذي لا يؤمن بالمنزلة الوسطى وصراع المصالح وتدافع القوى السياسية . في حين أن الأمر ينبغي أن يظل من اختصاص البرلمان ومحصورا داخل قبته وبين فرقائه . 5 إن وضع اللغة العربية الحالي هو نتيجة لحسابات سياسية ضيقة حكمت اختيارات الدولة في مرحلة تاريخية معينة ، مما أفقدها الاختيارات جديتها ومصداقيتها وجعلها ضحية الارتباك والتردد . ولعل واقع التعليم في المغرب والضعف الذي يطبع مردوديته ، يجسد فشل السياسات الرسمية وتخبطها ؛ مما يعطل طاقات الشباب ويمنع تنميتها وتطويرها وحسن استثمارها . وطالما ظلت الدولة في ترددها وارتباكها إزاء موضوع لغة التعليم والتدريس ومناهجهما ، فإن مسلسل انحطاط التعليم وتردي مستواه لن يتوقف إلا إذا امتلكت الحكومة الجرأة الكافية والشجاعة المطلوبة للقطع مع الاختيارات السابقة ( وبدون ذلك، فإن النظام التعليمي، الذي طالما واجه عراقيل ديماغوجية، حالت دون تفعيل الإصلاحات البناءة، سيظل يستنزف طاقات الدولة، ومواهب الفئات الشعبية، في أنماط عقيمة من التعليم، تنذر بجعل رصيدنا البشري عائقا للتنمية، بدل أن يكون قاطرة لها ) (خطاب العرش 2010) . 6 إن الاستفتاء ، في هذه الحالة ، لا يتوخى بيان حكم شرعي في قضية سياسية /وطنية لا تهم الدين في شيء ، وإلا لكانت شعوب العجم التي تدين بالإسلام ملزمة "شرعا" باعتماد اللغة العربية وحمايتها ونشرها حتى يصح إسلام مواطنيها ويستقيم إيمانهم . بل هو إجراء يروم الضغط على الدولة باستعمال سلاح "الشرع" لحملها على اعتماد اللغة العربية في كل مرافقها . وكل ما يخشاه المرء أن يتحول هذا الإجراء الاستفتاء إلى حلقة ضمن الطوق الذي تحاول قوى متشددة ( دينية ، يسارية ، إثنية ) ضربه حول النظام والدولة لأهداف متباينة تتقاطع عند نقطة "العداء" للنظام والسعي لإضعافه وفق شعار : "الضرب معا والسير على حدى" . فليحذر الديمقراطيون من مزالق اللعب بسلاح الفتاوى الفقهية الذي سيكونون أولى ضحاياه ، فضلا عن كونه سيفتح باب الفتن على شعب آمن ووطن مستقر .