1 - يهود وعلوج وفرنجة في النهاية، يسهل الوعظ الديني أو الثرثرة بالفكر والأيديولوجيا من أي لونٍ عندما يكون الفيصل هو الموقف السياسي. إذ تعلمنا تجارب الشعوب، خاصة تجربة الأمة العربية في التاريخ المعاصر، أن الحد بين الجد واللعب، بعد الفراغ من استعراض القمم الأيديولوجية العليا أمام السامعين، هو موقف المرء من الاحتلال هنا والآن. وليس المقصود هنا موقف المرء من هذا التجاوز أو ذاك للاحتلال، فانتقاد العوارض أمر يسيرٌ، لا بل تنفيسي، قد يقوم به بعض المحتلين أنفسهم. المقصود بالطبع هو الموقف من حق الاحتلال بالوجود وحق كل ما يمت له بصلة بمجرد تنفس الهواء، ومدى استعداد المرء لأن يضع كل كيانه في خدمة ذلك الموقف المناهض الساعي لاستئصال الاحتلال وقاعدته المادية والسياسية والبشرية . وليس هناك من قيمة لوعظٍ أو لفكرٍ أو لأيديولوجيا لا تدعم ولا تشتق مثل ذلك الموقف بشكل طبيعي من مقدماتها. وقد يقول قائل: ما المشكلة؟ ألسنا جميعاً ضد الاحتلال؟ فما المطلوب إذن؟ ولكننا لسنا جميعاً ضد الاحتلال، كلا! بل ثمة من يقول ما لا يعنيه، والمقياس هو الموقف السياسي، لا النية أو الرغبة، أو الأيديولوجيا. فأن نكون ضد الاحتلال يعني بالتحديد: 1) أن نكون ضد وجود الاحتلال في بلادنا، سواءٌ أتانا بشكل مدني أو عسكري، 2) أن نصر على الهوية العربية لأرضنا، 3) أن ندعم كل أشكال العمل ضد الاحتلال، وعلى رأسها العمل العسكري الذي يزينه العمل الاستشهادي. فعندما استوطن الفرنجة الجزائر على مدى قرن وثلث، كان الوقوف ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر يعني: 1) رفض وجود المستعمرين على أرضها، و2) التأكيد على الهوية العربية للجزائر، و3) تأييد كل أشكال العمل ضد الاحتلال الاستيطاني الفرنسي للجزائر، وعلى رأسها العمل المسلح. وعندما يستعمر اليهود فلسطين، فإن القول أن المرء ضد الاحتلال يعني بالضرورة أن يكون: 1) ضد وجود اليهود على أرض فلسطين، 2) مع التأكيد على الهوية العربية لأرض فلسطين، 3) مع كل أشكال العمل ضد الاحتلال الاستيطاني اليهودي لفلسطين، وعلى رأسها العمل الاستشهادي. وعندما يحتل الأمريكيون العراق، فالوقوف ضد الاحتلال يعني بالضرورة أن يكون المرء: 1) ضد وجود القوات المحتلة من أية جنسية على أرض العراق، 2) مع التأكيد على وحدة وعروبة العراق، 3) مع كل أشكال العمل العسكري ضد الاحتلال الأمريكي-البريطاني للعراق وأعوانه، وتاج رأسها طبعاً العمل الاستشهادي. وليس منطقياً بالتالي أن يكون المرء مثلاً ضد الاحتلال في فلسطين، ولكن مع اليهود بالتواجد فيها، أو مع حق أي مؤسسة من مؤسساتهم وامتدادتها بالوجود، من دولة "إسرائيل" إلى السلطة الفلسطينية، أو أن يقول المرء أنه ضد الاحتلال في العراق بيد أنه مع المؤسسات التي يخلفها، من مجلس الحكم الانتقالي إلى الحكومة المؤقتة الخ... سواء كانت منتخبة في ظل الاحتلال أو غير منتخبة...! وكما لا يعقل أن يكون المرء ضد الاحتلال في الجزائر سوى أنه يريدها فرنسية، كذلك ليس هناك معنى لشخص ضد الاحتلال في فلسطين، سوى أنه يريدها ثنائية القومية، فالمهم أنه لا يعتبر عروبتها مسألة غير خاضعة للنقاش. فسواء كنا نواجه علوجاً أو يهوداً أو فرنجة، كي نكون ضد الاحتلال يعني أن نكون ضد كل ما يجعل الاحتلال ممكناً، سواءٌ كان قوات عسكرية أو قواعد مدنية أو مؤسسات وسياسات وثقافة تابعة أو عميلة. وليس القضية قضية تناقض منطقي فحسب، بل قضية نفاق وتهاون في المبدأ، وأخيراً، قضية ما يفيد وما لا يفيد، فما نقول أنه المعنى الحقيقي لمعاداة الاحتلال ليس مجرد موقف مبدئي، بل هو الطريقة الوحيدة العملية الناجحة للتعامل مع الاحتلال. وإذا كان يوجد أفراد أو جماعات تحت الاحتلال أو في الولاياتالمتحدة تعتبر أن هذا الموقف متشدد يفقدها كل حيز للمناورة، فإن ذلك يعني أنها غير أهل لحمل عبء القضية أصلاً. 2 - عن الصهيونية واليهودية: أحكام علاقة اليهود بالأغيار
لم يكن ارتداد اليهود ابتداءً من القرن التاسع عشر بعيداً عن حركة التنوير اليهودية (الهاسكالاة) الداعية لاندماج اليهود على قدم المساواة في الشعوب التي يعيشون بينها ليأتي بالصورة الصهيونية العنصرية والاستعمارية التي جاء عليها لو لم تكن ثمة عناصر أصيلة في الديانة اليهودية نفسها تدعمه وتقدم له إمكانيات النجاح. وقد يعترض معترض هنا بأن تحميل اليهودية مسؤولية "شطط" الصهيونية لا يصح منهجياً إلا بمقدار ما يتحمّل أي دين أو عقيدة مسؤولية الشطط الذي تحدثه جماعة من اتباعها. ولكن اليهودية ليست كباقي الأديان والعقائد المعروفة لأن العنصرية والاستعمار لا يمثلان انحرافاً عنها بقدر ما يمثلان التأويل الأساسي، ولو لم يكن التأويل الوحيد، لها. وقد ترجم الكاتب إسرائيل شاحاك نصوصاً عبرية قديمة من التلمود حول الكيفية التي يجب أن تدار بها علاقة اليهود بغيرهم لا يمكن أن تجد لها مثيلاً في أي ديانة أو عقيدة أخرى. ولننتبه أن كل هذه الأحكام مقيدة بشرط مهم هو أن ممارستها من قبل اليهودي يجب أن تراعي عدم عودتها بالضرر على أي يهودي أخر على سبيل الانتقام أو غيره. ومنها مثلاً: على اليهودي أن يلعن عند المرور بمقابر غير يهودية، وأن يترحم عندما يمر بقابر يهودية. وعليه أن لا يسعف جرحى أو مرضى الأغيار (غير اليهود)، أو الغريق أو الواقع في حفرة منهم، إلا إذا عاد ذلك بالانتقام على يهود. وحسب منظومة الأحكام اليهودية الكلاسيكية المعروفة باسم الهاكالاة فإن قتل المدنيين من الأغيار عن سابق قصد وتصميم في الحرب ضرورة لا مفر منها يتعرض اليهودي الذي لا يراعيها لغضب الرب، وهو ما لا نستطيع أن نفصله عن الممارسات الصهيونية في فلسطين. أما في غير حالة الحرب، فإن اليهودي الذي يقتل غير يهودي بتعمد، فإنه يعتبر مذنباً أمام الله ولكن ليس أمام القانون. فإذا قتل اليهودي غير اليهودي بطريق الخطأ، فإنه لا يعتبر مذنباً لا أمام الله ولا أمام القانون. ومن امتيازات اليهودي على الأغيار في هذه الشرائع حقه في تضليلهم، في السياسة والتجارة والعلاقات الشخصية. مثلاً، تمنع السرقة على اليهودي بتاتاً، ولكن من حقه أن يمارسها في التجارة مع غير اليهود بشكل غير مباشر إذا كانت تتضمن "تشغيل عقل". وكذلك يسمح بالنصب، ويسمح بالسطو العنيف من الأغيار إذا كانوا تحت حكم اليهود، وهو الأمر الذي يقلل من احتمالات الانتقام من يهودي أخر. وكذلك يحق لليهودي أن يأخذ أو أن لا يأخذ الربا من يهودي أخر، ولكنه ملزم بأخذ الربا من غير اليهودي إلا بمصلحة، حيث أن الهاكالاة تحظر الهدايا لغير اليهود دون مقابل! وهناك كثير غير ذلك ينسج على نفس المنوال مما ترجمه إسرائيل شاحاك. ولكن د. عبد الوهاب المسيري يعترض على تعميم هذه القوانين التشريعية اليهودية على كل اليهود باعتبار الذين أسسوا دولة "إسرائيل" من العلمانيين والملحدين الذين لا يعترفون بهذه الأحكام بالضرورة. ولكن هذه الرؤية تتجاهل حقيقة أن اليهودية، مثل أي دين، ليست مجموعة من الشعائر والأحكام فحسب، بل ثقافة يتشرب أبناؤها الكثير من قيمها ومفاهيمها منذ الصغر. والإسلام كثقافة (مختلفة بالتأكيد) تجده بقوة مثلاً في كافة شرائح المجتمع العربي. ولعل من أبرز الأمثلة المضيئة والرائدة على ذلك من اليسار عبد الخالق محجوب من الحزب الشيوعي السوداني الذي كان يصلي، وبيانات المقاومة العراقية الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي/ الكادر التي تبدأ كما يلي: "حيث ثقفتموهم!". 3 - الصهيونية هي الابنة الشرعية لليهودية تعلم أبناء جيلي في صفوف الثورة الفلسطينية عندما كنا صغاراً أن يرددوا مقولة حفظناها عن ظهر قلب: نحن ضد الصهيونية، لا ضد اليهودية، وضد الصهاينة، لا اليهود. وكانت تتمة هذه الاسطوانة المكسورة في الطبعة اليسارية: نحن ضد الصهاينة العرب أيضاً، فليس كل الصهاينة يهوداً، وليس كل اليهود صهاينة، بل هناك يهود تقدميين. والمثال المفضل على هؤلاء "اليهود التقدميين" (الذين يمكن أن تعدهم على أصابع قدم واحدة) كان دوماً المحامية فيليتسيا لانغر التي تبنت عدداً من قضايا المعتقلين في السجون الصهيونية. ولكني بت أعرف اليوم، كما يعرف عددٌ ممن كانوا يرددون نفس النغمة، أننا خدعنا أنفسنا بها كثيراً. وإذا كانت بعض القيادات الفلسطينية تقول لقواعدها أنها يجب أن تطرح هذا الموقف ولو لم تقتنع به تماماً لنكسب "الرأي العام العالمي"، ولكي لا نتهم، كشعب محتل مطرود من أرضه بالقوة، أننا "عنصريون إزاء مغتصبينا"، فقد تستطيع تلك الحجة "التكتيكية" أن تقنع بعض الناس كل الوقت، وكل الناس بعض الوقت، ولكنها يستحيل أن تقنع كل الناس كل الوقت. فالأمة لا تجمع على ضلالة. فالحقيقة تبقى أن الذين أتوا من خلف البحار لاغتصاب فلسطين هم اليهود، وليس الصينيين أو الهنود الحمر أو قبائل الزولو الأفريقية أو سكان أيسلندا. هؤلاء اليهود الذين قدموا لبلادنا من مشارق الأرض ومغاربها لم يأتوا مهاجرين مسالمين كما يهاجر أي إنسان إلى أي مكان، بل أتوا غزاة محتلين بالرغم منا. وهؤلاء اليهود الغزاة، وليس غيرهم، هم الذين اقتلعونا من أرضنا ومارسوا ضدنا أبشع الجرائم ورمونا بعدها بأقذع الصفات عبر وسائل الإعلام المسيطر عليها. فعلام نخدع أنفسنا بعدها في التفريق ما بين غازٍ يهودي وغازٍ صهيوني على أرض فلسطين؟! أليس كل يهودي على أرض فلسطين، بغض النظر عن رغباته "اليسارية" أو الإنسانية، جزءاً موضوعياً من المشروع الصهيوني، وبالتالي عدو؟! ورب قائل أن هؤلاء اليهود الغزاة لم يأتوا وحدهم، بل استقدمتهم الدول الإمبريالية مثل بريطانيا ليصبحوا قاعدة لها في بلادنا. ولا شك أن هذا ثابت تاريخياً. ولا نقول أن الإمبريالية بريئة، ونعرف أنها عدوة للأمة، مع اليهود أو بدونهم، وأن تأسيس قاعدة للإمبريالية في فلسطين جاء في بريطانيا بالتحديد على خلفية مشروع منع قيام الوحدة العربية بعد محمد علي باشا، فكان لا بد من "حاجز بشري غريب"، كما اسماه الساسة البريطانيون، لفصل المشرق العربي عن مغربه، ولمنع الوحدة العربية. وما زالت الإمبريالية عدوة لأمتنا بسبب مخططاتها للسيطرة على بلادنا، ولسنا من الذين يضللون أنفسنا بالقول أن الدول الغربية بريئة لولا سيطرة اليهود عليها. فهذا ليس إلا الوجه الآخر لنفس الوهم الذي يزعم أن اليهود أبرياء لولا سيطرة الإمبريالية عليهم. فهناك سبب يجعل اليهود قابلين لاستخدامهم من قبل الإمبريالية. لأن ثمة تراث ثقافي محدد هيأ اليهود بالذات لهذا الدور. فاليهودية ليست عرقاً حتى نكون عنصريين إذا عاديناها، وهي ليست قومية حتى نكون متعصبين قومياً إذا نددنا بها، اليهودية هي عقلية التقوقع والانعزال التي ابتلت بها مجموعات من عدة أعراق وقوميات بسبب اعتناق اليهودية، فنشأت عندها عقلية الغيتو الرافض للاندماج بالشعوب التي عاشت بين ظهرانيها، وتقول كتب التاريخ أن الحاخامات كانوا يطلبون من بعض أمراء القرون الوسطى في أوروبا الغربية فرض الغرامات على اليهود الذين يعملون يوم السبت حتى لا ينسى هؤلاء أنهم يهود. وفي بعض الحالات، كان اليهودي الذي يجرؤ على انتهاك تعاليم الحاخامات يتعرض للضرب أو للقتل... وليس صحيحاً أن اليهود "هاجروا" إلى فلسطين لأنهم عانوا التمييز في أوروبا، بل توثق كتب التاريخ دورهم الاجتماعي-الاقتصادي فوق المجتمعات التي رفضوا الاندماج فيها كوسطاء وكجباة ضرائب ومرابين وتجار ومهنيين، بعيداً عن الأرض والدولة والجيش. ولهذا كانت تثور عليهم شعوب أوروبا، خاصة في أوقات الأزمات، وهو ما سبب التمييز ضدهم لاحقاً حيث وجد. واليهودية تتميز عن غيرها من الأديان بالكثير من التعاليم العنصرية المتعالية إزاء غير اليهود، وقد وثقنا بعض تلك التعاليم اعتماداً على كتاب إسرائيل شاحاك حول الديانة اليهودية لمن يرغب. واليهودية تتميز عن غيرها بفكرة "أرض الميعاد" أي احتلال فلسطين، وفكرة "شعب الله المختار" أي العنصرية. هذا هو تراثهم الثقافي الذي هيأهم للدور الذي يلعبونه لمصلحة الإمبريالية، أي الذي هيأهم ليكونوا صهيونيين. ومن ابتعد عن ذلك التراث، ليس يهودياً ببساطة، وليست لدينا مشكلة معه ما دام خارج فلسطين، ولا نعاديه لمجرد أنه من أم يهودية... أما داخل فلسطين، فإن التمييز ما بين يهودي وصهيوني ليس له أي معنى على الإطلاق، ولهذا، توصلت مجموعة من القوميين واليساريين العرب بناءً على الحيثيات السابقة أن مشكلتنا مع اليهودية عامة، ومع اليهود في فلسطين خاصة، وليس مع عدو هلامي هو الصهيونية، وأن الموقف الذي لا يميز بين اليهودي والصهيوني، بالتالي، هو الأقرب للمنطق ومصلحة الأمة، حتى دون النظر إلى أي اعتبارات شرعية. 4 - حول الموقف من اليهود في فلسطين يبرز الموقف من التواجد اليهودي في فلسطين اليوم باعتباره المؤشر العقائدي الأهم، والميزان السياسي الحساس، لمدى ثبات المرء إزاء المشروع الصهيوني برمته، وإزاء السياسة الأمريكية. ويلاحظ في هذا السياق أن التساهل مع الوجود اليهودي في فلسطين يتناسب طرداً مع التساهل تجاه هذا الجانب، أو تلك الخطوة، في السياسة الأمريكية-الصهيونية، مما يساعد على تقبل الطرف المتساهل في منظومة الهيمنة الدولية، وهو الدرس الذي يبدو أن القذافي تعلمه جيداً. والعكس صحيح أيضاً، إذ يؤدي تحسن العلاقات مع الطرف الأمريكي-الصهيوني، بالمحصلة، للاعتراف بقانونية التواجد اليهودي في فلسطين، كما تشهد عشرات الأمثلة بعد توقيع اتفاقية أوسلو. وتجد هذا القانون منسحباً على الهند وروسيا والصين والدول الأفريقية والعربية وغيرها على حدٍ سواء، حتى يمكن اعتباره أحد القوانين التي تحكم العلاقات الدولية في زماننا المعاصر. أما على مستوى التنظيمات والمثقفين، فينطبق القانون نفسه، حيث يتحسن وضعهم المالي والإعلامي، ومقبوليتهم السياسية إقليمياً ودولياً، بالتناسب مع الخطوات التي يخطونها باتجاه استيعاب الوجود اليهودي في فلسطين بغض النظر عن الحجج والذرائع. وبالتالي، يمكن التعميم أن تقبل مشروعية التواجد اليهودي في فلسطين أمسى أحد السمات المميزة للعولمة السياسية في عصرنا ابتداءً من تسعينات القرن العشرين. وكي لا يكون في الأمر لبسٌ، يتناول الحديث هنا بالضبط الوجود اليهودي في فلسطين، وليس فقط التعبير السياسي لذلك الوجود، أي دولة "إسرائيل"، أو الحركة السياسية التي أنتجت ذلك الوجود، وهي بالطبع الحركة الصهيونية. فالأهم هو أن يقبل المرء مبدأ ومشروعية التواجد اليهودي في فلسطين، ولو تحت شعارات براقة مثل الدولة الديموقراطية، أو "إسرائيل" ثنائية القومية، أو "إسراطين"، ولا يهم بعدها أن ينتقد الأم (الحركة الصهيونية)، والأب الراعي (دولة "إسرائيل")، ما دام يعترف بذريتهما. بالمقابل، رب قابلٍ بدولة "إسرائيل" بذريعة ميزان القوى المختل، مثل بعض الأنظمة والقوى السياسية العربية، ممن لا يقبل بمشروعية الاستيطان اليهودي في فلسطين من حيث المبدأ أو بما يكفي من الحماسة الداخلية. بيد أن الطرف الأمريكي-الصهيوني بات يرى هذه الشريحة لم تعد تفي بالغرض، باعتبارها تنتمي لتوازنات الحرب الباردة. فالمطلوب اليوم في مرحلة زحف العولمة والهيمنة الإمبريالية هو التقبل الثقافي والعقائدي والقانوني للوجود اليهودي في فلسطين مع تحوله لمركز هيمنة إقليمي "شرق أوسطي"، وتحول الحركة الصهيونية نفسها لقطبٍ عالمي. فمجرد التعاطي السياسي "العقلاني" مع دولة "إسرائيل" بات أقل بكثير مما يتوخاه ويقدر عليه الخصم، مع العلم أن هذا التعاطي بعض الأنظمة والقوى العربية مع دولة العدو كان أحد المقدمات الضرورية للحصار الذي تعيشه تلك القوى نفسها بعد أن أصبح البرنامج المعادي هو إزاحتها لمصلحة قوى أكثر ولاءً وانسجاماً مع المرحلة التالية من المشروع الأمريكي-الصهيوني. المهم، لا بد من التأكيد هنا على نقاط هي بمثابة بديهيات في الشارع العربي، لكنها كثيراً ما تغيب عن القوى السياسية العربية الرسمية والمعارضة: 1) أن اليهود أتوا إلى فلسطين كغزاة، وليس كمهاجرين، وبالتالي لا مشروعية لوجودهم فيها حتى لو لم يطردوا أهلها منها. 2) أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين ليس احتلالاً عسكرياً فحسب، بل احتلالٌ ديموغرافيٌ، أي أن الوجود اليهودي في فلسطين هو قاعدة الاحتلال وديمومته، فنحن لا نقاتل من أجل جلاء قوات عسكرية محتلة فقط كما في العراق مثلاً. 3) أن الميثاق الوطني الفلسطيني (البند السادس) يقول أن كل اليهود الذين أتوا إلى فلسطين بعد المشروع الصهيوني لا يعدون فلسطينيين، وهذا يعني أن نسبة اليهود المسموح لهم بالعيش في فلسطين المحررة لا يمكن أن تتجاوز نسبتهم من الفلسطينيين قبل بدء المشروع الصهيوني، أي خمسة بالمائة بأعلى تقدير. 4) أن فلسطين أرض عربية (البند الأول من الميثاق)، وهذا الحق العربي بأرض فلسطين لا يسقط بتقادم الزمن، ولو لم يبقَ فلسطيني واحد حياً. وقد احتلها الفرنجة قرنين، ولم يغير ذلك من حق الأمة فيها شيئاً. 5) لو افترضنا جدلاً حق اليهود وغيرهم كأفراد، وليس كقومية مزعومة، بالهجرة لفلسطين، كما في ظل الحكم الإسلامي عبر العصور مثلاً، فإن ذلك يخضع للقرار السيادي المحلي، وليس للقرار الدولي، كما في أي حالة هجرة حول العالم. فما بالك بهم إذا ظلموا وقتلوا وهدموا؟! 5 – حول الموقف من اليهود خارج فلسطين يتمتع اليهود خارج فلسطين بصفتين متلازمتين تغطي إحداهما جيداً على الأخرى، أما الصفة الأولى فهي أنهم أقلية في المجتمعات التي يعيشون فيها، بما يحمله تعبير أقلية، خاصة في الغرب، من إمكانية التعرض للاضطهاد أو التهميش أو التمييز ضدهم من قبل الأغلبية، أما الصفة الثانية، فهي أنهم يتمتعون بوضع اجتماعي-اقتصادي متميز على الشعوب التي يعيشون بينها، خاصة في البلدان الغربية من الولاياتالمتحدة إلى أستراليا، وأن وجودهم المكثف - بنسب تفوق بأضعاف نسبتهم بين السكان - في المفاصل الأساسية للمجتمعات الغربية، ونفوذهم المستشري في قطاع المضاربة المالية والبنوك إلى قطاع مؤسسات صنع القرار السياسي إلى وسائل الإعلام والثقافة والترفيه كهوليوود مثلاً، تجعل الحديث عنهم كأقلية مضطهدة مجرد استخفاف بعقول الناس... واليهود ليسوا قومية، كما نعلم، بل ديانة تسرب منها كثيرٌ من أبنائها عبر الزمن، وليسوا عرقاً أو سلالة، بل أخلاطاً عرقية ورثت منظومة من القيم الثقافية الناتجة عن دورهم التاريخي كجماعة وظيفية مارست التجارة والحرف في المدن والربا وجمع الضرائب لمصلحة الإقطاعيين، بدلاً من الزراعة والجندية والخدمة العامة. وقد كرس حاخاماتهم انفصالهم عن الشعوب التي عاشوا بينها حرصاً على عدم ضياع نفوذهم على عامة اليهود، فنشأت في مستنقعات هذه الغيتوات اليهودية، ومن ثنايا دورها الاجتماعي-الاقتصادي الطفيلي في أوروبا خاصة، عقلية التقوقع والانعزال، عقلية العداء للمحيط والخوف منه في آنٍ معاً، وضرورة استغلاله والتلاعب به والسيطرة عليه وتفكيكه من أجل الحياة، وبالتلازم، ضرورة القضاء المسبق على أية انتفاضات شعبية كانت تستهدف عامة اليهود في أوروبا في الأزمات بسبب دورهم الربوي الكريه وكوسطاء للسادة الإقطاعيين، وكجماعة طفيلية لا يتناسب نفوذها السياسي والاقتصادي أبداً مع حجمها العددي في المجتمع. وكان من الطبيعي أن تنشأ، على قاعدة هذا الدور وهذه العقلية، شبكة من العلاقات ما فوق القومية بين الغيتوات اليهودية المنتشرة عبر القارة الأوروبية وعبر المحيطات كانت تعزز الدور السياسي والتجاري لليهود، وتجعلهم في آنٍ معاً موضع حسدٍ كبيرٍ من التجار الأغيار المحليين، وفاقدين للهوية الوطنية وللانتماء القومي للبلدان التي ولدوا وعاشوا وعملوا فيها. فاليهودي ينتمي للشبكة العالمية لليهودية قبل أي شيء أخر، لا بل أن مصطلح Cosmopolitan ، أو كوزموبوليتيكي، بمعنى "مدني عالمي"، فاقد للهوية والانتماء الوطني، كثيراً ما كان يقصد به اليهود في أوروبا دون غيرهم، وكذلك كان يستخدم في أوروبا الشرقية، خاصة في روسيا وبولونيا في بداية القرن العشرين. ومن هنا، ارتبطت اليهودية كمنظومة ثقافية، حتى بشكلها العلماني غير المتدين، بالحديث عن "الإنسان"، مقابل الحديث عن الأمة أو الوطن، وبجهد فكري دائب لتحقير الثقافات القومية ورموزها، وبالشبكات والجمعيات السرية الممتدة عبر الحدود، وبالمؤامرات الدولية، والأهم، بمنهج افتراس غير اليهود بالمكر والخديعة، و"الذكاء" المتجرد من أي ضابط أخلاقي، تماماً كذكاء الخفاش المنكب على دماء وريد الخيل في عتمة الليل. وقد وصف كارل ماركس اليهودية (وليس الصهيونية)، في كراسه "حول المسألة اليهودية"، بأن اليهودية تصبح عقيدة النظام الرأسمالي برمته في مرحلته العليا، مرحلة تفككه وانحلاله، ولا يهم هنا أن يكون كثيرٌ من المنتمين إلى هذه المنظومة الثقافية اليهودية من غير المتدنيين، إذ "لا يجب أن نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل فلنبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي... ما هو الأساس العملي لليهودية؟ المصلحة العملية والمنفعة الشخصية..."، ويضيف الكراس بعدها: "المال هو إله إسرائيل المطماع... هذا هو الإله الحقيقي لليهود... وقومية اليهودي الوهمية هي قومية التاجر، قومية رجل المال". وقد اقتطفت من كراس ماركس من أجل العلمانيين واليساريين الذين لم يتخلصوا بعد من عقدة التعاطف المرضي مع اليهود! نحن إزاء عقلية ذئبية إذن، أو إزاء حقيقة الخفاش مصاص دماء البشر بالأحرى، أي إزاء الثقافة اليهودية، وهي نفس الثقافة التي تنتج عنصرين أساسيين أخرين من توجهات اليهود السياسية، بغض النظر عن مدى تدينهم، وهما: 1) فكرة "أرض الميعاد"، أي احتلال فلسطين كوطن قومي لليهود، و2) فكرة "شعب الله المختار"، أي التعالي على غير اليهود وافتراسهم، أي العنصرية. والمقصود أننا لا يمكن أن نتعامل مع قضية فلسطين كاحتلال موضعي فحسب. فقد كنا نواجه منذ البداية شبكة دولية، شبكة متغلغلة في نسيج القرار الدولي، ولا نواجه احتلالاً مثل احتلال فرنسا للجزائر مثلاً كي يقول بعضنا ما معناه أن كل فرنسي لا يحتل الجزائر ليس عدواً، أو كل أمريكي لا يحتل العراق ليست لنا مشكلة معه!!! مع اليهود، كنا نواجه منذ البداية ثقافة ذئبية "كوزموبوليتية" تعاني منها شعوبٌ عدة، لا نحن فحسب، وكنا نواجه منذ البداية مشروعاً كونياً وحركة عالمية، كنا نواجه اليهودية العالمية كمؤسسة دولية، وكثقافة باتت جزءاً من ثقافة وبنية المؤسسة الحاكمة في الدول الإمبريالية. والمعنى ببساطة أن كل يهودي خارج فلسطين لم يتساقط خارج المنظومة الثقافية اليهودية الآنفة الذكر، تلك المنظومة الكوزموبوليتية، هو عدوٌ ليس لنا فحسب، بل لكل شعوب الأرض. وكما أشرت في كتابات أخرى، ليس صدفةً أن يتم تبني "المحرقة" رسمياً من قبل الأممالمتحدة، كعقيدة يمنع نقاشها تحت طائلة العقاب، وكعقيدة تجعل اليهود أكثر أقلية مضطهدة في تاريخ البشرية، في الوقت الذي: 1) تكرست فيه العولمة كتيار يسعى إلى إضعاف وتفكيك السيادة الوطنية والثقافة القومية للشعوب، 2) تكرست فيه ضمن النظام الإمبريالي هيمنة القطاعات غير المنتجة في الاقتصاد، القطاعات الربوية والمالية، على القطاعات المنتجة الصناعية والزراعية والتجارية. أي مع ازدياد تغلغل اليهود ودورهم في النخب الحاكمة في "النظام الدولي الجديد" الذي لا يقوم عليهم وحدهم طبعاً. والطريف الآن طبعاً أن تجد الجماعات الفلسطينية في الغرب اليوم تحرص أشد الحرص على جعل اليهود في مقدمة قياداتها لكي تضع البرامج وتحدد السقف السياسي "للتضامن مع القضية"، ولكي تنفي عنهم تهمة "معاداة السامية"، ولكي تعوضهم عن عقد النقص إزاء اليهود... --------------------------------------------------- التعاليق : 1 - الكاتب : ا.د. سعيد صلاح النشائى هذا كلام فى معظمة صحيح , وأن كانت وجهة نظر الدكتور المسيرى وكتابات روجية جارودي( مرفق أحد كتب جارودي الذى لا بد أن الكاتب يعرفه جيدا) فى رأى غير المتخصص أكثر دقة. وبغض النظر عن كتابات الآخرين أعتقد أن مقالة سعادة الدكتور علوش لا تعطى فئة معينة حقها( أيا كان حجمها) وهى فئة اليهود الذين يعيشون خارج الكيان الصهيوني وهم ضد الصهيونية وضد الكيان الصهيوني ويؤيدون المقاومة الفلسطينية التي ترفض هذا الكيان المنحط وتسعى إلى تحرير كامل التراب الفلسطيني( حماس وحلفائها) مع خالص تحياتي سعيد صلاح النشائى