يحار المرء حين تتجمع المعلومات بشأن ما يحصل عن مكمن الخلل. فالسعودية تسعى إلى حل مسائل رئيسية وأكثر حيوية بالنسبة إليها من الملف اللبناني، وسوريا تسعى إلى تكريس ما حققته عبر المزيد من العلاقات بمن خرجوا عن الطوق قبل أن يفشلوا ويعودوا، ولكن هناك أمر ما يسير بطريقة خاطئة دائماً حين تمت التسوية الرئيسية بين المملكة العربية السعودية وسوريا، كان ما يرشح من هذه التسوية عن الملف اللبناني هو الطلب السعودي لأمرين: حفظ السنّة في لبنان وحفظ آل الحريري. أما حفظ السنّة فهو واضح تماماً، وخاصة أن هذه الطائفة التي شهدت تحوّلاً في موقفها في الأعوام الخمسة الماضية بدأت تقف عارية أمام تصاعد النفوذ السوري في البلاد، وتخلّى عنها جهازها العصبي الذي مثّله وليد جنبلاط لمرحلة مضت، وهي مهدّدة بالانهيار السياسي مجدداً لتعود كما كانت في أحلك أيام الحرب الأهلية، وبقي الهيكل العظيم لها لا يغطيه إلا بعض الجلد المتنوع المشارب والطوائف والمدفوع ثمنه سلفاً. أما حفظ آل الحريري فلم يتطرّق إلى أكثر من الحفاظ عليهم كأفراد وكجهة سياسية، فلا يتعرضون لحملات من حلفاء سوريا للقضاء على ما بقي من نفوذهم، أو ما هو أسوأ لا سمح الله. أما مسألة حصرية التمثيل ورئاسة الحكومة فهي موضوع فيه الكثير من البحث والنقاش وتخضع للمتغيّرات التي قد تطرأ في أي لحظة أو مرحلة. وحين تستوي التسوية في دمشق بين الأطراف التي تمتلك نفوذاً في العراق، فإن ما يمكن أن يصبح جائزة ترضية هو دول صغيرة وضعيفة كلبنان، وملفات ظرفية كملف انتشار القوى الجهادية وبعض مجموعاتها أو معتقليها. وهو ما بات ظاهراً للعيان بعد مجموعة من التسويات بدأت في اليمن مع الحوثيين ولم تنته بعد في العراق، وحينها يصبح الحديث عن قوى مثل القوات اللبنانية نافلاً، وسهلاً اعتبارها «قوى غير موجودة على الخريطة»، كما صرّح الرئيس السوري بشار الأسد أخيراً. في الأيام الماضية كان أحد كبار أمراء المملكة يزور العاصمة السورية، وهو سبق أن كُلّف بتسوية العلاقات بين بلاده ودمشق في المرحلة الماضية. هناك، بعدما أنجز أعماله، جرى الاتصال بين رئيس الحكومة سعد الحريري والقيادة السورية، وعلى الأثر بدأت تظهر أنباء عن استعدادات لزيارة الرئيس الحريري لدمشق، وهي الزيارة التي علّقت في انتظار أن يفهم من يعنيهم الأمر أن اللعب على الكلام وإطلاق المواقف المنفتحة من ناحية وممارسة النقيض من ناحية أخرى لن تمر على العاصمة السورية، التي يبدو أنها سئمت أسلوب رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، الذي يبكي على الحجارة والركام، بينما يستقبل رئيسة الدبلوماسية الأميركية. في المملكة من بدأ يسأم تراكم الأخطاء والخسائر والإصرار على العمل بغير التوجهات ومع زيارة الأمير السعودي لدمشق، بدأت الأمور تعود إلى مجاريها، فلم تمانع العاصمة السورية استكمال الإعداد للزيارة المؤجّلة، التي لم يعرف في بيروت بعد لماذا عُلّقت، ولكنّ أحد المعنيين مباشرة بالملف الحكومي يربط ما بين الخبر الذي ورد من المملكة العربية السعودية عن طلب أعلى السلطات هناك من سعد الحريري أن يكون ليّناً تجاه النفوذ السوري في لبنان، وما امتنع عن القيام به الحريري من مطالب سورية: «لماذا لم يسحب تمثيل رئاسة الحكومة في احتفال ذكرى حلّ القوات اللبنانية؟ لم يكن هناك ما يعوق. الرئاسات انسحبت، وليحافظ على تمثيل تيار المستقبل، ولكن رئاسة الحكومة شأن مختلف»، يقول المعني. المملكة العربية السعودية من ناحيتها لديها الكثير لتقوله لسعد الحريري، وبعض المقرّبين من المملكة في لبنان يتحدثون صراحة عمّا ينقلونه إلى بلاد آل سعود. فالنقاش الذي يمكن تقديمه على الشكل الآتي: «هل تعتقدون أن هناك من تثق به إيران أكثر من حزب الله في لبنان؟». وحين يأتي الجواب لا، طبعاً، فإنهم يتابعون: «مع ذلك، فإيران تدعو الأطراف اللبنانية المؤيدة أو الصديقة أو التي تبدي استعدادها، لزيارة طهران، وسفارتها في بيروت خلية نحل من الاجتماعات، ودبلوماسيّوها يجولون على مختلف الشخصيات اللبنانية، ولديهم تصوّر واضح لما يريدونه في لبنان، ومن المنطقة، بينما العلاقات مع السعودية تمر دائماً عبر عنق زجاجة اسمه سعد الحريري ومجموعة من المقرّبين إليه». هؤلاء الأصدقاء للمملكة لا يخفون خيبة أمل لما يرونه منذ أعوام طويلة من حراك تقوم به الجهات النافذة، ولم يعد الأمر مقتصراً على أسلوب العمل الذي يقوم به وكلاء المملكة الحصريون في لبنان من آل الحريري، بل إن كل الأخطاء والمبالغات والشطحات السياسية والإهمال والتجاوزات الإعلامية والتصرّف في السر عكس ما يُعلن أمام الملأ، وغيرها الكثير، يرمى في خانة أن «الخارج يطلب منّا ذلك ونحن وكلاء أمينون»، في إشارة إلى أن كل تجاوز أو مصلحة ضيّقة أو عملية استيلاء على المال العام، أو تصريح يبلغ من البلادة ما يكاد يطيح التوازن الداخلي الهش هو مطلوب من المملكة مباشرة أو من مصر أو من الولاياتالمتحدة، وأن دور السياسيين المحليين، وآل الحريري منهم، هو التنفيذ الأمين للسياسات الخارجية. وفي المملكة من بدأ يسأم تراكم الأخطاء والخسائر والإصرار على العمل بغير التوجهات، وهؤلاء يعلمون أن أيدي السفير السابق للمملكة في لبنان، الوزير الحالي عبد العزيز خوجة، لا تزال طويلة هنا، وأن هذا الرجل، وإن كان قد أتى إلى بيروت شاعراً برتبة سفير، واضطر إلى خوض أقسى مرحلة من الصراعات الداخلية والخارجية في العاصمة اللبنانية، إلا أن ذلك لا يعني أنه يحمل السياسة السعودية الرسمية حالياً، وخاصة أن السفير الحالي يفترض أنه ينسج علاقات مع الداخل اللبناني تختلف عمّا كانت عليه في زمن الخوجة والأزمات الماضية. على الأقل هذا ما ينقله أصدقاء للمملكة في لبنان من غير آل الحريري، وهم يشيرون إلى أن رقم الخوجة السعودي بات في حوزة كل أمير جماعة أو رئيس جمعية أو ناد، وأن السفير السابق والوزير الحالي على السمع طوال الوقت مع لبنانيين على طريقة غازي كنعان ومن تلاه، وهو يقدّم مشورات ونصائح وغيرها ممّا يتاح له، ووفق فهم بات من حقبة ما قبل الانتخابات، وربما من حقبة ما قبل السابع من أيار 2008. واليوم، تحاول المملكة صياغة تفاهمات على قاعدة التراجع الأميركي في المنطقة، بينها مع إيران، ومنها مع ليبيا، والكثير منها مع سوريا، وتتعلق بشوؤن القاعدة والحوثيين ومستقبل العراق، وصولاً إلى باكستان وأفغانسان، ووضع لبنان. وبات من في المملكة يعلم أن المدخل إلى لبنان هو حصراً عبر سوريا، وأن العمل ضد سوريا إذا ما استعيدت تلك المرحلة لا ينجح من داخل لبنان، وما تلا أعوام الصراع بين المعسكرين، المعتدل والممانع، هو المزيد من الإمساك السوري بالملف اللبناني عبر الإطباق على المفاصل الرئيسية في البلاد، حتى بات أول ما تطلبه المملكة من سوريا في لبنان هو حفظ السنّة وآل الحريري. وفي الإطباق على المرافق الرئيسية السياسية في البلاد، لن تكون الحكومة كما نراها اليوم، قائمة إلى الأبد. فالفشل الحكومي يفتح الشهية على الحديث عن تغييرات، قد لا تطيح رئيس الحكومة، ولكن تطيح الكثيرين من الجالسين إلى جواره. فاستمرار الفشل، وخاصة على مستوى صياغة العلاقات العليا الداخلية والخارجية، إضافة إلى الشلل في العمل، سيؤديان إلى البدء بالبحث عن مخارج، بما في ذلك تبديلات واسعة في الحكومة تطال أساساً جهات «ليست موجودة على الخريطة»، وإن كانت هي تسعى إلى الزحف نحو دمشق. خوجة على السمع طوال الوقت مع لبنانيين على طريقة غازي كنعان ومن تلاه وفي الإطباق أيضاً وأيضاً، لم يسأل أحد ما الداعي اليوم إلى تأسيس جبهة عريضة تضم إلى الشخصيات المعروفة من الرئيس عمر كرامي والوزير عبد الرحيم مراد والرئيس إميل لحود ممثّلاً بابنه، شخصيات من الصف الثاني، ومن الصف الثالث، بينما يفترض أننا في ظل حكومة وفاق وطني. فهناك من يسعى عبر الإصرار على تأليف الجبهة هذه وتوفير الإمكانيات لها إلى إطلاق عجلة من العمل تعيد فرز الأمور لتصفية آثار المرحلة الماضية واستخراج شخصيات سياسية جديدة، أو وارثة لشخصيات سياسية حالية، يمكنها أن تدخل في أي تعديل حكومي مقبل كأسماء مرشحة، على قاعدة أن الحكومة المقبلة ستكون حكومة وئام وهّاب بامتياز. ومن لا يصدق أن المملكة لم تعد تمانع الكثير مما يجري في لبنان، فعليه أن يراجع زيارة الأمير مقرن بن عبد العزيز الأخيرة للبنان، وليتذكر من الذي استضاف الأمير على طاولة العشاء، ومن زار سراً، ومن الذي لا يمانع السعوديون أن يكون رئيساً للحكومة إذا ما لا قدّر الله وتعثّر رئيس حكومتنا الحالي واضطر إلى الاعتذار. وفي داخل المملكة من بدأ يتبرّم من ضرورة إعادة ترتيب الأمور مع دمشق كل ساعة وحين، وإعادة ترتيب اللقاءات لزعيم السنّة مع العاصمة الأموية، ومن صار كثير التأفّف من الخسائر المالية الهائلة التي دفعت، وذهبت هدراً، كما استُخرجت الزكاة منها لمصلحة من تسلّمها أولاً ومن تسلّمها ممن تسلّمها وهكذا، فلم تنتج في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في رسم ملامح انتصار ما، بل سُرق معظمها، أو صُرفت برعونة يبالغ البعض في تصويرها بصفتها براءة، لا أكثر من نقص في الخبرة. وهناك في المملكة من لا يزال يذكر أن فريق المستقبل تلقّى نصائح كان يمكنه لو سمع القليل القليل منها أن يوفّر على نفسه وعلى البلاد وعلى مشروع المملكة في مواجهة المدّ الإيراني حينها الكثير من الذل والدماء والجهد والتوتر. ومن يعرف المملكة ويبنِ معها روابط من الثقة المستجدة أو القديمة يتحدث عن أن الكلام الرسمي هو أن آل الحريري يمثّلون المصالح السعودية. «نعم ولكن» هناك آخرون في البلاد، وعلينا أن نعيد ترتيب العلاقات مع هؤلاء، وألّا يبقى الاستماع محصوراً في فم واحد، وأن ما يفعله الإيرانيون الذين يديرون مشروعاً ضخماً كان يجب أن تقوم به المملكة في مطلق الأحوال. ويتحدث بعض أصدقاء السعودية عن استعدادها للاستماع إلى كل من لديه ما يقوله أو ينصح به دون أية تعهدات مسبقة. لكن على الأقل، فإن باب الإنصات قد بات مفتوحاً الآن، بعدما كانت الأمور مغلقة دون أيّ ممن يملكون وجهات نظر مختلفة. أحد الذين حاولوا في الماضي التحدث إلى سعد الحريري يتحدث عن جلسات طالت لعدة ساعات، كانت نتيجتها موافقة الحريري الشاب على أغلب ما قيل في اللقاء، إلّا أن ما جرى ميدانياً بعد اللقاء كان كارثة، حيث بدا كأن الشاب الذي كان لا يزال زعيم كتلة نيابية كبرى لم يكن هو نفسه الذي أبدى موافقته على أغلب ما استمع إليه، بل شخصاً آخر، وعلى نقيضه تماماً، إذ أشرقت الشمس على الشاب وهو ينقلب على ما اتفق عليه. «هو يستمع إلى آخر من يحدثه، ويقتنع من آخر من يسرّ في أذنه»، يقول من حاول التحدث إليه وحاوره لساعات، «ولكن اليوم في العلاقات الخارجية لم تعد الأمور محصورة فيه، وما يقوم به قد لا يأتي من توجهات خارجية، بل بات الخارج متعباً من تبعات تصرّفات الفريق المحسوب عليه».