بمناسبة الملتقى الثاني للعدالة بالعيون، شدد محمد عبد النباوي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، في الرسالة التي ألقاها على استقلال النيابة العامة، التي قال أنها جزء من استقلال القضاء. ويحمل هذا الملتقى دلالة ورمزية عميقتين وخاصتين، من حيث الظرفية ومكان وتوقيت انعقاده، والذي نظم، أمس السبت 16 نونبر 2019، في مدينة العيون، على بعد 10 أيام عن تخليد الشعب المغربي الذكرى الرابعة والأربعين لتنظيم المسيرة الخضراء لاسترجاع أقاليمه الجنوبية، واستكمال وحدته الترابية، من طنجة إلى لكويرة. هذا، واستحضارا للتاريخ المشرق، الذي يبصم الملتقى الثاني للعدالة، هذا الحدث المتميز، فإنه في الخامس من نونبر من عام 1975، تجمّع في مدينة طرفاية 350.000 مغربيا ومغربية، من مختلف جهات وأقاليم المملكة، منتظرين من المغفور له الملك الحسن الثاني، إشارة بدء المسيرة، لعبور الصحراء المغربية. حيث لوح المتظاهرون بالأعلام الوطنية، وبلافتات تدعو إلى عودة الصحراء المغربية، وبصور عاهل البلاد، وبالقرآن الكريم؛ كما اتُخذ اللون الأخضر لوصف هذه المسيرة كرمز للسلام. وبحلول 14 نونبر 1975، وقّع المغرب وإسبانيا وموريتانيا اتفاقية تاريخية، استعاد بمقتضاها المغرب أقاليمهُ الجنوبية؛ وهي الاتفاقية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووضعت من ثمة حدا نهائيا للوجود الإسباني في المنطقة. إلى ذلك، فإن "الجديدة24" تورد كاملا نص رسالة رئيس النيابة العامة في الملتقى الثاني للعدالة بمدينة العيون، كما توصلت بها: بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه أصحاب المعالي والسعادة؛ السيدات والسادة الأساتذة الأجلاء؛ حضرات السيدات والسادة؛ إنه لمن دواعي السعادة والاعتزاز، أن تشارك معكم اليوم رئاسة النيابة العامة، في أشغال الدورة الثانية لملتقى العدالة لمدينة العيون. وبحكم مشاركتنا في تنظيم هذه الدورة، فإننا نرحب بجميع المشاركين فيها من منطلق افتخارنا بالانتماء لأسرة العدالة، التي يسعى جناحاها القضائي والدفاع، لإيصال الحقوق لأصحابها وحماية الحريات. فالشكر إذن لكل من ساهم في تنظيم هذا الملتقى المتميز، ونخص بالذكر هيئة المحامين بأكادير–العيون، نقيباً ومجلساً وأعضاء، ولأعضاء الهيئة القضائية بالعيون، وسلطاتها الجهوية ولمجلسها البلدي وكافة منتخبيها. والشكر والتقدير مستحقان من أجل اتخاذ هذه المبادرة الهامة واستقبالها، وكذلك على اختيار موضوع استقلال النيابة العامة، ودوره في مسار استقلال السلطة القضائية. وهو موضوع هام جداً في حاضرنا وفي مستقبلنا القضائي والحقوقي. من عيِّنَة المواضيع الهامة التي تجدر مناقشتها في جهة الساقية الحمراء، بالنظر لراهنيته وأهميته. حضرات السيدات والسادة؛ إن استقلال النيابة العامة، جزء من استقلال السلطة القضائية. واستقلال السلطة القضائية، ليس مجرد شعار يرفعه الناس في خطاباتهم، ولا هو محض عنوان يعبر به البعض عن انتماءاتهم أو اختياراتهم؛ ولكنه اقتناع بفلسفة في الحياة، يجب على من يرفع شعارها، أن يلتزم بكل حمولاته الفكرية والواقعية. وهو كذلك مدرسة في نظام الحكم، يتعين على من يستعمل مُسَمَّاهَا وعنوانها، أن يمتثل لإكراهاته وقيوده، وأن يقبل بشروطه وإجراءاته، ويطبقها على نفسه، حتى حينما تمس مصالحه أو ذاته. إن استقلال القضاء هو اختيار لنظامٍ للتقاضي، يُؤْمِنُ فيه المتقاضي قبل غيره، أن القاضي المستقل سيطبق القانون على النزاع دون تأثير من جهة أخرى. فالاستقلال يحميه من تأثير تلك الجهات. استقلال القضاء هو أن يؤمن المجتمع بأنه اختار هذا النمط لتحقيق غاية فضلى، هي إِبعادُ القاضي عن التأَثُّرِ بالإكراهات التي قد تَأْتِي من سلطات أخرى. فالمجتمع هو الذي اختار أن يكون قاضيه مستقلا عن الحكومة وعن البرلمان. ولو أراد المجتمع أن يُخْضع القضاة لإحدى هاتين السلطتين، لتوافق على ذلك في الدستور.. ولا شيء يمنع المجتمعات الديمقراطية من تبني أفكار أخرى في دساتيرها، شريطة احترامها لطرق تعديل الدساتير؛ استقلال القضاء يعني السلطة التنفيذية، لأن الدستور جعل السلطة القضائية مستقلة عنها. ولذلك، فإن احترام الدستور يدعو الحكومة – ليس فقط إلى احترام هذا الاستقلال – وإنما كذلك إلى دعمه والمساهمة في ترسيخ بنائه، باستعمال السلطات التي خولها لها الدستور، سواء في المجال التنظيمي، أو في مجال اقتراح مشاريع القوانين، والدفاع عنها أمام البرلمان وفقا لروح الدستور التي عبر عنها بوضوح الفصل 107؛ وكذلك عن طريق تسخير الإمكانيات الإدارية والمادية لذلك؛ وعن طريق حوارٍ هادفٍ وبناءٍ يرمي إلى خلق جسور للتعاون المؤسساتي المنصوص عليه في الفصل الأول من الدستور؛ استقلال القضاء، يعني كذلك السلطة التشريعية، لأن الدستور كان صريحاً بالنَّص على استقلال السلطة القضائية عنها. ولذلك فإن احترام البرلمان لاستقلال السلطة القضائية، هو مجرد التطبيق الحرفي للدستور. ولا يتأتى احترام استقلال السلطة القضائية فقط بعدم التدخل في أحكام القضاة ومقرراتهم، وإنما كذلك بالكف عن تناول الشأن القضائي خارج سياق الدستور، في نقاشات أعضاء البرلمان. الدستور لا يسمح للمحاكم بالتداول في مناقشات البرلمان، ولا الخوض في مهامه الدستورية، إلاَّ في حدود ما تسمح به القوانين في ظروف محددة، كالطعون الانتخابية، أو في حالة ارتكاب بعض المخالفات الجنائية مثلاً. والدستور لا يسمح للمحاكم بالتدخل في عمل الحكومة، ولا في عرقلة تصريفها لمهامها، إلاَّ في نطاق الحدود الضيقة التي تقرها القوانين، ولاسيما ما يتعلق بالطعن في القرارات الإدارية والمراسيم التنظيمية. وبطبيعة الحال، فإن الدستور لم يكتف بعدم السماح للسلطتين المذكورتين، بعرقلة عمل المحاكم أو التدخل في مقررات القضاة أو التأثير فيها. وإنما جعل من القضاء سلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهي خاصية ميز بها دستور المملكة القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومنع مساءلتها أو محاسبتها من طرفهما. وأقام نظاماً خاصاً بمحاسبة القضاة ومؤسساتهم وأقر له آليات أخرى. حضرات السيدات والسادة؛ إن استقلال القضاء، يعني السلطة القضائية نفسها؛ حيث يتعين عليها أن تسخر استقلالها لخدمة مبادئ العدالة، وحماية القضاة من كل تأثير يُخالف روح الدستور وأحكامه، وأن تبنى مؤسسات قضائية قادرة على حماية الحقوق والحريات، واثقة بدورها في تحقيق الأمن القضائي الذي يعتبر أساسيا لأمن الأشخاص والجماعات، واطمئنانهم على حياتهم وسلامتهم وعلى ممتلكاتهم واستقرار معاملاتهم، ومشجعاً على الاستثمار والابتكار المنتج للثروات التي تحقق التنمية الاقتصادية. وهي مطالبة في ذلك بوضع معايير شفافة ونزيهة لتحفيز القضاة وتقدير أدائهم. ومطالبة كذلك بتوفير تكوين مثين وجيد لهم، ودعم تخصصهم وتوفير ملكات البحث لديهم، لمواكبة المستجدات التشريعية والإدراك الجيد لدور القاضي في تطوير المجتمع. واستقلال القضاء يعني بالطبع القضاة أنفسهم، الذين عليهم أن يستحضروا ما جاء في الرسالة التاريخية لجلالة الملك لمؤتمر العدالة الأول (أبريل 2018)، حيث أكد جلالة الملك: "أن مبدأ الاستقلال لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضين، وإنه إذ يرتب حقا للمتقاضين، فكونه يلقي واجبا على عاتق القاضي. فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من القانون وحده مرجعا لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سندا لاقتناعاته. وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية." (نتهى النطق الملكي). إن استقلال السلطة القضائية بالمملكة المغربية اليوم، هو حقيقة دستورية وقانونية.. يجب على الجميع أن يتعاون من أجل جعلها حقيقة واقعية كذلك. وإن جعلها حقيقة واقعية معاشة وملموسة، يتطلب أن يلتزم كل طرف من الأطراف السلطوية والمجتمعية بمضمون الدستور. والدستور نص أولاً على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وجعل جلالة الملك ضامنا لهذا الاستقلال (الفصل 107). وهو ما يقتضي استحضار العمق الفلسفي لفكرة الاستقلال، واستحضار أهميتها في نظر القانون الأساسي للمملكة، الذي أوكل حمايتها للجهة الأسمى في البناء الدستوري للدولة، على غرار حماية الوطن والقيم العليا للدولة ومقدساتها، التي أناط الدستور حمايتها بجلالة الملك، كضمان حرية ممارسة الشؤون الدينية (الفصل 41)، وضمان دوام الدولة واستمرارها واستقلال البلاد وحوزتها والاختيار الديمقراطي وتعهدات المملكة الدولية (الفصل 42). ولا يمكن أن يتجسد الاستقلال الدستوري للسلطة القضائية إزاء السلطتين المذكورتين، إلاَّ باحترام هذا الاستقلال شكلا ومضموناً، ومراعاة حدود التعاون بين السلطات، كما تأتى للمجلس الدستوري، ثُمَّ للمحكمة الدستورية، أن بَيَّنَاهُ بمقتضى عدة قرارات، ينص الفصل 134 من الدستور أن مضمونها ملزم لجميع السلطات. كما أن استقلال القضاء لا يمكن أن يكون عرضة لنقاشات مجتمعية من طرف أفراد أو جماعات في المجتمع، لمجرد تضرر مصالحهم من جراء بعض المقررات القضائية، لأن طبيعة عمل القضاء هي أن ينتصر لخصم ضد خصمه، أو يأخذ من جهة لفائدة الجهة المقابلة، ولا مجال في أحكام القضاء لنظريات اقتسام النقط بالتعادل، كما في بعض الألعاب الرياضية. فَقَدَرُ القضاء أن يَحْكُم لفريقٍ ضد فريق آخر. وقد يصيب وقد يخطئ، ولذلك فإن المقررات القضائية لا تكون قارة ونهائية، إلاَّ بعد خضوعها لمراجعات متعددة، يمكن خلالها تدارك ما فات وإصلاح ما أشكل ومراجعة الأخطاء. فقرارات النيابة العامة كلها، على سبيل المثال، هي مقررات وقتية تُعْرَضُ على القضاة والمحاكم لفحصها وتمحيصها بغاية إقراراها أو إلغائها أو تعديلها. مما يشكل فرصة حقيقية للأطراف، للدفاع عن مصالحهم والتنبيه إلى الثغرات القانونية أو الواقعية التي قد لا تتم مراعاتها حين اتخاذ مقرر النيابة العامة. كما أن مقررات قضاة الحكم نفسها تخضع لطعن أو أكثر من أجل تلافي الأخطاء واستدراك الهفوات. فضلاً عن كون النطق بالحكم لا يتم إلاَّ بعد مناقشة الواقع والقانون من قبل الأطراف ودفاعهم، وسلوك الإجراءات المنصوص عليها في القانون. ولذلك، فإن دفاع المجتمع عن استقلال القضاء، يقتضي القبولُ بأحكامه مبدئياً، والتظلمُ منها عند الاقتضاء بالطرق التي يتيحها القانون. وليس بمهاجمة النظام القضائي – وأحياناً الطعن في استقلاله – لمجرد أن مقررات القضاة لم تعكس وجهة نظر الطرف الذي يخسر الدعوى. فلو تم استعمال هذا المقياس، فإن نصف المتقاضين – على الأقل – سيكون غير راض عن أداء القضاء، علماً أن القضاة بشر يطبقون قانوناً وضعه بشر على أشخاص ينتمون للمجتمع، وهؤلاء يقدمون لإثبات دعاويهم أو نفيها حججا من صنع البشر، أي أن العدالة منتوج مجتمعي يؤثر في نتيجتها المدعي والمدعى عليه والشاهد والخبير والمبلغ، بالإضافة إلى ممتهني العدالة الآخرين، وفي مقدمتهم القضاة والمحامون. ولا يمكن للقاضي أن ينطق سوى بحكم ساهم المجتمع في صنع وتجميع أثاته. وإذا أخطأ، فهناك طرق للطعن يمكن استعمالها، وإذا انحرف، فهناك إجراءات يمكن سلوكها، وجهات مسؤولة يمكن اللجوء إليها. ولذلك، لا يمكن إلقاء اللوم على استقلال القضاء، كما نلاحظ في بعض الأحوال، لمجرد أن النيابة العامة تابعت شخصا معينا. ومن يفعلون ذلك، يتناسون أن المهمة الأساسية المنوطة بهذه المؤسسة، هي إقامة الدعوى العمومية في حق المخالفين للقانون. ولذلك، يتساءل قضاة النيابة العامة: هل سيتحقق استقلالهم بالعزوف عن متابعة الأشخاص، الذين يشتبه في تورطهم في ارتكاب بعض الجرائم، بسبب مكانتهم الاجتماعية، أو مكانة خصومهم أو ضحاياهم؟؛ كما يتساءلون: هل سيتحقق استقلالهم إذا عمَدُوا إلى إبطال تطبيق بعض النصوص التجريمية، التي تُبدي بشأنها فئاتٌ مجتمعية عدم رضاها، مثل عدم تحريك الدعوى العمومية في حق أشخاص يرتكبون أفعالا يجرمها القانون، بحجة الانتصار لأنماط مختلفة من الحريات؟ يجب أن يعلم المواطنون أن مثل هذه المتابعات، كانت تتم قبل استقلال النيابة العامة، وستظل تتم في فترة استقلالها، مادام القانون الجنائي يعتبرها جرائم، ويقرر لها عقوبات زجرية، لأن مهمة النيابة العامة هي تطبيق القانون، وليس تعطيل أحكامه، وأن حدود سلطة الملاءمة، يجب أن تظل محكومة بمعايير موضوعية صارمة تراعي الضرر المجتمعي، وتماسك الأسر واستقرار المعاملات، وما يوفره الصلح وإصلاح ذات البين من أثر إيجابي على النسيج المجتمعي. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصبح الملاءمة متأثرة بنفوذ فئة من فئات المجتمع، تُخْشَى سَطْوَتُها، وما يَتَوَفَّر لها من معرفة باستعمال الوسائط الاجتماعية، فذلك بعينه هو التدخل في استقلال القضاء، الذي يجب استنكاره. كما لا يمكن مؤاخذة القضاة على إصدار أحكام في حق أشخاص يتضامن معهم فريق مؤثر من الرأي العام. فالأحكام تصدر بناء على الوثائق والإثباتات المتوفرة في الملفات، والتي تتم مناقشتها داخل قاعات المحاكم. وتخضع المقررات الصادرة بشأنها لطرق الطعن ودرجات التقاضي التي يوفرها القانون، وليس على أساس عدد الأشخاص المتعاطفين مع هذا الطرف أو ذاك من طرفي الخصومة. فحين تتأثر الأحكام بذلك، لا يمكن أن نقول بأن المحاكم أصبحت مستقلة. كما أن إصدار حكم على شخص من الأشخاص على أساس فعل يجرمه القانون، دون مراعاة نداءات بعض الطوائف التي تطالب برفع التجريم عن الفعل، لا يجب أن يكون مبرراً لاتهام نظام العدالة بعدم الاستقلال. نعم، إن لهذه الأطراف الحق في مناقشة مبدأ التجريم والعقاب – في مثل هذه الأحوال – في أصله الفلسفي والتشريعي، حتى إذا نزع عنها المشرع صفة التجريم، ورفع عنها العقاب، فإن النيابة العامة والقضاء سيكونان ملزمين بإرادة المشرع. هذه هي دولة الحق والقانون.. وهذه هي دولة المؤسسات التي يضمنها الدستور. للمشرع سُلُطَاتُه، وللحكومة اختصاصاتُها، وللقضاء مهامُه. ولكل مقام مقال. حضرات السيدات والسادة؛ تعلمون أن الانتماء إلى السلك القضائي يقتضي التزام مبادئ الحياد والتجرد، ويطوق القضاة بواجب التحفظ. وهو ما يقتضي أن ينأى النظام القضائي بنفسه عن الدخول في صراعات مع الأطراف، وفي مجالات ينجذب إليها بسبب الهجومات الضارية التي قد تشن عليه. ولا يوفر الوضع القانوني الحالي منصات رسمية للقضاء لتوضيح مواقفه، وتصحيح بعض المعلومات، وردِّ بعض المغالطات التي يتم تداولها بشأنه؛ فيصبح الباطل حقيقة تخدِش صورة العدالة الوطنية. وإذا كان المجتمع يودُّ الحفاظ على وضعِ ابتعاد القاضي عن النقاش السياسي، والانجذاب نحو مناطق الاختلاف المجتمعي التي تهم العدالة، فإنه – أي المجتمع – مطالب بالدفاع عن ذلك، والتصدي للمغالطات لا مساندتُها، والردِّ على الأكاذيب، وليس نشرُها. فالقضاء مِلك للوطن، والدفاع عن استقلاله، واحترام قراراته مهمة الجميع، ولاسيما أعضاء البرلمان، والحكومة وهيئات المحامين والمجتمع المدني. وإننا نفكر بجد في تنظيم لقاءات علمية لتسليط الضوء على هذا الوضع الذي بات فيه القضاء محل هجومات متكررة بسبب وبدونه. وباعثنا على ذلك هو توفير الثقة في النظام القضائي. حضرات السيدات والسادة؛ إن موضوع استقلال القضاء، موضوع مجتمعي بامتياز، يجب على كل مواطن أن يستحضر مفهومه وأبعاده ومراميه، وأن يستوعب الغاية من إقراره. وبالضرورة، فإنه آنذاك سيعمل على دعمه والمساهمة في تحقيقه. وعلى المواطن كذلك أن يستحضر أن النيابة العامة جزء لا يتجزأ من النظام القضائي الوطني، وأن مبدأ الاستقلال يشملها كذلك؛ وأن يعلم أيضاً أن قضاة النيابة العامة ملزمون بتطبيق القانون، ويحاسبون على ذلك أمام رئاستهم، ومن طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ وأن انتماءهم لسلطة رئاسية تسلسلية، هو من أجل انسجام عمل أعضاء النيابة العامة، والدفاع عن القانون، وفق منظور موحد داخل كامل حدود المملكة؛ وأن سلطتهم الرئاسية لا تملك صلاحية توجيههم خارج القانون؛ كما لا تملك الإمكانيات لحملهم على اتخاذ إجراءات لا ينص عليها القانون، أو تطبيق مقررات مخالفة له. فالدستور والقوانين تنص على إمكانية إصدار تعليمات كتابية مطابقة للقانون. ولذلك فلا يمكن لرئاسة النيابة العامة إلزام قضاتها بغير التعليمات المكتوبة المستمدة من القانون، أي أنهم ملزمون في النهاية بتطبيق القانون. وفي هذه الحالة يتخلون عن سلطتهم التقديرية لفائدة رئاستهم، امتثالاً للنص الدستوري المنصوص عيله في الفقرة الأخيرة من الفصل 110، الذي يتلاءم مع مسؤولية تلك الرئاسة على تنفيذ السياسة الجنائية بشكل منسجم ومتوازن داخل إقليم المملكة، علماً أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يضمن لقضاة النيابة العامة استقلالهم، ويوفر لهم الحماية إزاء التعليمات غير القانونية. كما أن خضوع قرارات النيابة العامة للرقابة القضائية المباشرة، وما يوفره القانون بعد ذلك من درجات التقاضي وتعدد طرق الطعن، يوفر ضمانة للمتقاضي إزاء تلك القرارات. ولابد أن نتذكر أن رئاسة النيابة العامة التي آلت إليها بعض اختصاصات السلطة الحكومية المكلفة بالعدل، لم تُحَول إليها الاختصاصات التي كان وزير العدل يتوفر عليها بصفته نائبا لرئيس المجلس الأعلى للقضاء السابق، والمتعلقة باقتراح تعيين قضاة النيابة العامة وسلطة التأديب وتعيين المقرر وتوقيف القضاة، والتي كانت سلطات حقيقية على الوضع المهني لقاضي النيابة العامة. ذلك أن تلك الصلاحيات انتقلت إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبعضها إلى رئيسه المنتدب. وهو ما يجعل نظام النيابة العامة المغربي محكوماً بهاجس مصلحة العدالة، التي توفر للسلطات الرئاسية التسلسلية هامشاً مهماً للحرص على التطبيق السليم للقانون، وكذلك بحماية القاضي من كل انحراف شخصي لرؤسائه يحيد به عن التطبيق الصحيح للقانون. حضرات السيدات والسادة؛ إن موضوع استقلال النيابة العامة أكبر من أن تستوعبه كلمة في الجلسة الافتتاحية، ولكنني موقن أن ما سيتلوها من جلسات، سيسلط الضوء على مختلف أركان العدالة، وسيتعمق في حقيقتها بشكل موضوعي، يستند إلى تحليل الدستور والقوانين المختلفة. ولعل مؤسستكم، مؤسسة النيابة العامة، التي تتطلع إلى القيام بدور جديد تكون فيه قريبة للمواطن الضحية، تساعده في لحظات الضيق والشدة، حينما يتعرض للاعتداء، وألاّ ينظر إليها فقط من نظرة قدحية ألبستها إياها مهامها في معاداة الأشخاص الذين يكدرون صفو المجتمع، ويُخِلُّون بسكينته، ويَخْرِقُون القوانين التي وضعها المشرع. هؤلاء الذين يسمونها "الغراق". والحال أنها مُنْقِدٌ للمجتمع بتطهيره من بطش الذين يخرقون القانون.. ومنقذ لهؤلاء المخالفين للقانون أنفسهم، لمساعدتهم في أداء ثمن أخطائهم لمجتمعهم، وربما مرافقتهم في مرحلة إعادة إدماجهم في المجتمع كذلك. النيابة العامة، أيها السادة، تحاول أن تقوم بالدور الذي أناطه بها الدستور والقانون، وترجو أن يتم تفهم دورها، وأن تتم محاسبتها على أساس الدستور والقانون. وتفتح صدرها لكل الملاحظات والنصائح التي من شأنها مساعدتُها على إجادة قيامها بمهامها. ولذلك فهي تتقدم بجزيل الشكر لمنظمي هذه الندوة، وفي مقدمتهم هيئة المحامين بأكادير – العيون – كلميم، الذين خصصوا الندوة لمناقشة موضوع استقلال النيابة العامة، وتنوه بالمبادرة وبتوقيتها، وتشيد بالآفاق العلمية المتبصرة والمقتدرة للأساتذة الأجلاء الذين سيتناوبون على منصة الإلقاء، وكذلك بمحاوريهم المحترمين داخل القاعة. وترجو أن يتوفرَ لديها من هذا اللقاء رصيدٌ من التوصيات والأفكار القابلة للتطبيق، أو التي ستمكن السلطات المختصة من اتخاذ مبادرات ملائمة في حدود اختصاصاتها، لفائدة نظام العدالة ببلدنا العزيز. شكراً جزيلاً، وأرجو لكم التوفيق والنجاح والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته (نهاية كلمة محمد عبد النباوي، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة).