عيسى بطارسه صوت شعري أصيل في الزمن الرديء .. صوت تلتقي في نبراته آهات الغربة والحنين وعنفوان الحرف الشعري العربي النابض بالعبقرية والابداع .. شعر بطارسه بدأ بديوانه الأول ” الآخر البعيد “ومروراً ب” من يهز الشجر؟” و “وجع المسافة ” وصولا الى “قليلٌ من الخبز .. كثيرٌ من الحب” وديوانه الخامس الذي تحت الطبع هذه الأيام “قبل أن ينتهي الزمان” الذي يطبع على نفقة وزارة الثقافة الأردنية . هو أشبه بقطعة موسيقية حزينة في سفر طويل وبين تضاعيف الامتدادات الموغلة في الحنين يمتد الوطن عاشقاً ومعشوقاً أسطورياً يرسم ألف ألف صورة من الجمال والروعة .. هذا الصوت المجدد للقصيدة العربية صار في السنوات الأخيرة يشق طريقة للقارئ العربي عبر الثورة الالكترونية وتحديداً عبر الموقع الالكتروني العالمي الناجح “شبكة الأدب العربي” الذي يشرف عليه الأستاذ بطارسه نفسه، وكل صباح يفتح نوافذه أمام القارئ على عوالم شعرية وأدبية غاية في السحر والجمال ، ومن أجل الدنو أكثر من فضاء الشاعر الأردني الكبير عيسى بطارسه كان لنا معه الحوار التالي : مرحبا بك الأستاذ عيسى في دنيا بريس.. مرحبا بك، مرحبا بكم، عشاق الشعر، أبناء الكلمة الخضراء التي لا تموت .. 1 بداية كيف يعرف الشاعر بطارسه نفسه ..؟ ولد في قرية “سوف” شمال الأردن عام 1942. وانتقل مع والديه الى المدينة وهو ابن تسعة أعوام، تسعة أعوام كانت كافية لتصبغ بقية عمره برائحة الكروم والدوالي ومواسم قطف الزيتون والحجل وبئر الماء واللوز والتين والمشمش ودخان الطابون وخرير عين الماء وترقب انتظار المطر وفرح وصول الربيع القروي بفراشه وقبراته وحساسينه، والصيف بمواسم حصيده وبيادره، والجلوس الطويل امام شاعر الربابة الضرير الذي كان يأتي الى ”سوف” مع اطلالة كل ربيع ويمضي بين ظهرانيها أكثر من أسبوعين، وهو يحمل معه الربابة والطرب والزير سالم وعنترة العبسي، وغيرهم. هذه الذكريات التي قلما تخلو قصيدة له من تلك الصور المبكرة الجميلة. * وصلت قصائده وهو على مقاعد الدراسة، كبريات المجلات الأدبية المتخصصة كالآداب والأديب. بالأضافة الى الصحف والمجلات التي كانت تصدر في الأردن آنذاك، كالرقيب والأثنين الأسبوعيتين، بالأضافة الى الجرائد اليومية، ووصلت لاحقا الى مجلة “شعر” المصرية. * توقف عن كتابة الشعر أو كاد بعد هزيمة 67، هو وجيل كامل من شعراء الستينات. * عام 1974، هاجر مع عائلته الى جنوب كاليفورنيا، حيث أصبحت علاقته بالشعر أكثر شحوبا، الى أن التقى بالصدفة مع الشاعر الفلسطيني حكمت العتيلي، حيث التقيا بالشاعرة الفلسطينية سلوى السعيد، ومع الأديبة والباحثة السورية التي كانت وما زالت تعيش بين اللاذقية ابنة الشاطئ السوري الجميل وبين جنوب كاليفورنيا، والقاص الفلسطيني المقل نظام المهداوي، ومع مجموعة من الكتاب والشعراء والصحفيين أسسوا ما أسموه بالمنتدى الثقافي العربي الأميركي، الذي كان يعقد مرة في الشهر في بيت أحدهم. حيث تفتحت حينئذ شهية الشاعر مجددا. 2 أنت صوت من أصوات القصيدة العربية الأصيلة المعاصرة أين تجد نفسك بين المدارس الشعرية العربية بكل تشعباتها ونزعاتها؟ عندما كُتب علي سِفر الهجرة، في مطلع سبعينات القرن الماضي، كانت ثورة التفعيلة، التي انطلقت على أيدي روادها الأوائل في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، كنازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وغيرهم، قد انطلقت ، وبدأت بالتبلور، حيث قابلتها بالقبول مجموعة كبيرة من الأقلام الشابة في الستينيات، على امتداد الوطن العربي، بعد أن وجدوا فيها مدى أكثر رحابة يفضي الى آفاق جديدة تحتمل تجربة الأنسان اليومية ، تنطلق بها الكلمة باتجاه الحس بدون عقد القافية وعدد التفاعيل المصبوبة كالجدران الأسمنتية في وجه الشحنة الشعرية، التي وجدت لها أخيرا متسعا، تصب فيه كامل شعورها بارتياح كامل وبلا خوف ولا عقد. ولقد كنت واحداً من هؤلاء. 3 كيف يقرأ الأستاذ عيسى واقع الشعر العربي المعاصر ؟ أعتقد أن الأبداع بشكل عام، وخاصة في عالمنا العربي، يواجه أزمة حادة استطاعت أن تلقي بثقلها بخبث بين المتلقي من جهة، وبين النص الأبداعي من جهة أخرى، مرده أمور كثيرة ربما من أهمها ما آل اليه حال أمتنا العربية في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة، لعبت في تثبيته وترسيخه الفضائيات والأنترنت والأزمة الأقتصادية التي جعلت أكثر من 60 بالمئة من هذه الأمة تحت خط الفقر، بالأضافة الى ضياع هويتنا القومية تحت ضرباتنا المتتالية في أكثر من مكان وأكثر من بلد! ما دوخها، ودوخ معها أحلامنا وتطلعاتنا بل وزعزع ربما ثقة بعضنا بالغد .. والشعر لم يسلم هو الآخر، بل تراجع خطوة مع كل شيء جميل في حياتنا، ليتقدمه بخطوة احساسنا بالعجز والقهر والأحباط .. 4 يرى البعض أنه انتهى زمن الشعر ، ونحن في عصر الحكي ما رأيك أستاذ؟ نظرة بسيطة على أرقام قراءات المواد المنشورة في الموقع، تنفي هذا الأدعاء برمته، صدقني أن أرقام القراءات لمادة الشعر في الموقع تفوق بمسافة كبيرة كل أعداد قراءات المواضيع الأخرى قاطبة، وأنا لا أتحدث عن مرة أو مرتين أو ثلاثة، بل هي هكذا دوماً، بغض النظر عن أسماء الشعراء ومستوى القصائد. 5 في شعرك الكثير من الغربة والحنين بمعناه المكاني كيف تفسر ذلك ..؟ ومن أحق بالكتابة عن الغربة وآلامها، وعن الحنين الأزلي النابع من كل انش فيها، من الغرباء أنفسهم؟ الذين اقتلعوا من طفولتهم، من كلماتهم الأولى، من جوار حقيبة مدرستهم الأولى، من أول صف، من أول قصيدة حب، من أول ليلة أبت فيها العيون أن تغمض الجفون بحافز من القلب الذي يرفرف للمرة الأولى كالعصفور الذي يجرب الطيران للمرة الأولى؟ من أول قبلة، من أول صداقة حقيقية؟ ذلك المكان الذي ترفض أن تقدم قصيدة المغترب، صلاتها الا على أعتابه، وفوق ترابه وصخوره، تحت سمائه، في هوائه وحده. 6 ماذا عن موقعكم الالكتروني ” شبكة الأدب العربي” وما القيمة المضافة التي يحملها هذا الموقع ؟ في شبكة الأدب العربي آلينا على أنفسنا منذ اللحظة الأولى أن يكون اهتمامنا منصبا على الجودة لا على العدد، بشروط غير قابلة للنقض توصي باللغة ، اللغة السليمة، التي انتهكت بشراسة، والتي همشت لدى الكثير من المواقع والفضائيات. وهذا يستدعي الدقة بكل أبعادها، فنحن نمحص وندقق ونستشير ونقيم ثم ننشر، أي أن مفاتيحنا لا نسلمها إلا الى أيد أمينة تعرف قيمة نفسها أولاً، وتعرف قيمة منبرنا ثانياً. لم نشأ أن نكون موقعا آخر من مئات المواقع، أردنا أن نتميز وأن تكون لنا هويتنا المستقلة. وعرفنا على أنفسنا في “من نحن” بالتالي: نحن أدباء ومثقفون عرب. لم تعد تغرينا دهاليز العولمة التي وصلت أعماق مشاعرنا، فزيفتها و هجنتها و لونتها بأصباغ الحيرة والفتور. نحن من طفح الكيل في قلوبهم وعقولهم ، وهم يرون عوارض الإستنساخ الأدبي هنا وهناك ، وانتشار اللغة الخشبية ، والأدب السيء ، تحت عنوان إبداع المرحلة . نحن من يريد أن يعيد ربط ثقافتنا العربية ، بالصيرورة الزمانية والمكانية ، لتعكس روح العربي ووجهة نظره ، وتقلباته الأيديولوجية ، وصراعاته الداخلية ، وحروبه التي لا يلوح في الأفق فجر لها ، بدلاً من الإبقاءِ على المنقول ، والمُسلّم بهِ ، من دون أن يكون انعاكساً لصورتنا ومثالنا . فاذا كانت النصوص المرسلة تحمل شيئاً من هذا التوق ، وإذا كان أصحابها مهمُومين بإعادة الأمور إلى نصابها ، والتجرؤ على الخلق والإبداع ، من دون تحفظٍ وخوف ، فموقعنا هو مكانها . وإلا فان الدروب الأخرى أكثر من أن تُحصى . نحن قوم نؤمن برسالة واضحة وبسيطة : إن الأدب هو ترسانة الأمة الفعليةُ ، وهو اليد الطولى في التغيير . قد لا يوقف كتابٌ حرباً على وشك الإندلاع ، و قد لا يشكل نصٌ نقديٌ شيئاً حقيقياً في معمَعة الفساد الإجتماعي أو الإداري ، و قد لا تتمكن لوحة بالغة الايحاء من أن تحارب الفقر ، وقد تعجز قصيدةٌ عصماءُ من الحد من الديكتاتورية .. قد لايكون لكل هذا تأثيره الفوري على مجتمعاتنا العربية ، لكن بالمقابل ، أي تغيير إيجابي يحدث اليوم ، إنما هو من دون شك ، نتاج تلك الآثار العظيمة التي كتبت بصدق و شفافية وحب في يوم ما . نحن المعتدلين ، اللاطائفيين ، المؤمنين بأن الغد الأكثر بهاء ، لن يكون لنا ، إلا إذا تعلمنا أن نكون صادقين مع أنفسنا ، ومع الله المحبة . إن الأدب العظيم يعني رجالاً و نساءً عظماءَ حقاً ؛ ونتمنى أن يكون هذا موقعهم مرة واحدة وإلى الأبد . 7 ما الذي تحقق من الأهداف الكبيرة التي رسمتموها للموقع ؟ تعرف أنني تركت البلاد منذ ما يقارب الأربعين عاما، في مرحلة غيابي تلك ولدت قصيدة النثر، ونحن أنا وأصدقائي في الغربة، الشاعر الفلسطيني الكبير المرحوم حكمت العتيلي، والشاعرة الفلسطينية سلوى السعيد، والشاعر العراقي الدكتور صاحب ذهب، والشاعر الذي انضم إلينا مؤخراً سرحان النمري، جميعنا أبناء التفعيلة والبحور والخليل، لم نحد ولم ننأى أبداً. وعندما كانت تتسرب لنا حكاية قصيدة النثر، وخاصة في السنوات التي بدأنا فيها التعرف على الأنترنت، رفضنا رفضا لا هوادة فيه ، كل ما جاءت به قصيدة النثر، خاصة وأن بعض المتسلقين هنا، ممن فهموا قصيدة النثر على أنها كلمات قليلة توضع في سطور تتوالى وتصنع القصيدة ، أبعدتنا جداً عن إمكانية قبول هذا النوع من الشعر أو النثر. الى أن شد انتباهي بالصدفة، بضعة قصائد للشاعرة المقلة ثناء درويش، التي التقيت بها في أحد المواقع الأدبية، وبهرتني بلغتها وموسيقاها الداخلية وصوفيتها النادرة. وعندما ولد موقعنا الأدب العربي فوجئت بشاعرتنا السورية سمر محفوض، حيث استوقفتني هي الأخرى بقصائدها الجميلة. وبدأت أعيد التفكير بقصيدة النثر من جديد، بعد ذلك حصل أن انضمت الشاعرة الأردنية المبدعة لانا راتب المجالي الى الأدراة، حيث حملت لي صورة جديدة أنيقة عن قصيدة النثر، وبدأت أمام عيني تضع ملامح ورواسي وشروط هذه القصيدة. وبدأت أسمع بالحركة والصورة والبعد الزماني، وبدأت فعلا أتعرف وأعشق هذا اللون الحداثي من الشعر. 8 هل الموقع في رأيكم يعكس بعمق واقع الحركة الأدبية المعاصرة اليوم في البلاد العربية ؟ أستطيع أن اؤكد لك أن كل واحد منا، في الأدب العربي، مسكون بهذا الهم، ويحمل في ضميره، وعلى كاهله إحساساً كاملاً بهذه المسؤولية، وأننا جميعاً لم ولن نختلف على أن مسعانا، ومسيرتنا، وحرصنا الأكيد ألا نبتعد انشاً واحداً عن هذا الهم. 9 في رأي الأستاذ عيسى بطارسة أين وصلت الحداثة في الشعر العربي ، ألا يبدو أنها انطفأت بسرعة دون أن تقدم شيئا ذا بال للأدب العربي ؟ لعل الكثيرين ربطوا بين مفهوم الحداثة وبين كتابة قصيدة النثر، فأصبح، في هذا المفهوم، أن من يريد أن يبتعد عن الكهف وأهله، ويقترب من الحداثة والمحدثين عليه أن يكتب قصيدة النثر، وأنها الوحيدة التي تستطيع أن تفتح له هذا الباب. مع أن الحداثة قد بدأت بزمن غير قصير قبل أن نصل الى ما دعي بقصيدة النثر. شعراء مدرسة الديوان ومدرسة أبوللو وشعراء المهجر كانوا جميعاً شعراء حداثيين، لأنهم أحدثوا ثورة في الشعر العربي وجددوا من لغته وموضوعاته وموسيقاه. كما أن شعراء التفعيلة هم شعراء حداثيون لنفس الأسباب السابقة. ولا أدري كيف يمكن لنا أن نقول أنها انطفأت، ونحن نراها تتجدد كل يوم، وتبرز كل يوم أسماء جديدة تضيف كل يوم الى حركتنا الشعرية جديداً، كما أن رغبتنا للشعر وموسيقاه، تتجدد كل يوم أيضا، ويحمل الشعر كل يوم أيضا، همومنا ويرفعها عاليا في وجوه مغتصبيها، وفي وجوه ظالمينا، بحثاً عن الخلاص. 10 في موقعكم يحضر الشعر المغربي مع بعض أعلامه المعاصرين ، كيف يقرأ الشاعر بطارسه التجربة الشعرية المغربية ؟ لا أعتقد أن الشعر، شأنه شأن كل الفنون الأبداعية، يختلف في المغرب العربي عنه في مشرقه. فالهم واحد، والأمل واحد، والمسببات هي هي، والجرح الفلسطيني مثلا ينزف في طرابلس بنفس قوته في دمشق، والوجع العراقي ينبض في تونس بنفس عمقه في عمان، وتمزق بيروت نسمع صداه في الرباط. في الأدب العربي لدينا مجموعة جميلة من شعراء وكتاب المغرب العربي، وتهدر وقتك سدى اذا حاولت أن تجد فروقا، في الهم، أو في الحلم .. بين شرقنا وغربنا. وأجدني سعيدا أن أشير هنا الى الصديق الدكتور الشاعر مصطفى المسعودي، المسكون بهم أمتنا، الموجوع مع انساننا العربي في كل بقع عالمنا العربي، من اقصاه إلى اقصاه! 11- ماذا تعني لك هذه الكلمات ؟ الصبر: خبز المغترب اليومي المغرب: جناح أمتنا الثاني والأخير النجاح: تاج على رؤوس الناجحين لا يراه غير الفاشلين الإبداع: طعم كل شيء الثقافة: عبير كل شيء 12- كلمة أخيرة شكرا لكم على اتاحة هذه الفرصة القيمة للتعرف عليكم عن قرب. شكرا لدنيابرس، وكل الشكر والود للأستاذ الفاضل عبد الجليل ادريوش. ونلتقي دوماً على المحبة وعلى الخير وعلى الكلمة التي تزهر على أيدي الصادقين وتطرح لوزاً وخيراً. أجرى مع الحوار : عبد الجليل دريوش / دنيا بريس [email protected]