اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار        خطاب الرئيس الصيني في قمة العشرين.. الدعوة لتعزيز الحوكمة العالمية والتعاون الدولي    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    الفتيان يواصلون التألق بالفوز على ليبيا    الحكومة تتدارس إجراءات تفعيل قانون العقوبات البديلة للحد من الاكتظاظ بالسجون        بوريطة يستقبل رئيسة برلمان صربيا    مجموعة سويسرية تعزز حضورها في الداخلة بالصحراء المغربية.. استثمار متزايد في الطاقات المتجددة        'كوب 29': المغرب يرتقي إلى المركز الثامن في تصنيف مؤشر الأداء المناخي 2025    ولد الشيخ الغزواني يهنئ الملك محمد السادس بمناسبة عيد الاستقلال    "قمة عرض المغرب" تناقش السياحة    المغرب يستضيف خلوة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يومي 21 و22 نونبر بالرباط    العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية تقرر تغيير توقيت انطلاق ديربي البيضاء    الوالي التازي يشرف على افتتاح مركز "للا فاطمة الزهراء" متعدد التخصصات لدعم الأطفال المحرومين من الأسرة    ارتفاع طفيف في تداولات بورصة الدار البيضاء    صفقات مشهوبة تدفع حماة المال العام للمطالبة بالتحقيق مع الوزير السابق ميراوي    ارتفاع طفيف في أداء بورصة البيضاء    فيتو أميركي في مجلس الأمن على مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة    توقعات أحوال الطقس لنهار اليوم الأربعاء    تفاصيل نجاة فنانة مصرية من الموت    "حزب الله" يتوعد بقصف "وسط تل أبيب"    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية    ""البيجيدي" يدعو مجلس المنافسة للتحقيق في شبهة تواطؤات بسوق الدواجن والبيض    الخطوط والألوان في لوحة للفنان التشكيلي عبد الكريم بنطاطو    منظمة الصحة تصدر ترخيصا لأول لقاح لفيروس جدري القردة للأطفال            الفنان حسن الدالي بحصل على 5 نجمات في البرنامج الفني ستارلايت ويواصل التباري من اجل الدخول الى عالم أضواء النجوم    نادال مودعا ملاعب التنس: " أريد أن يتذكرني الناس أنني كنت شخصا طيبا قادما من قرية صغيرة قرب مايوركا"    الجامعة تُهنئ نادي الجيش الملكي بعد التأهل لنهائي دوري أبطال أفريقيا للسيدات    الشامي: 8.5 مليون مغربي ما زالوا خارج التغطية الصحية والقطاع الخاص يلتهم نفقات العلاج    سيناتور أمريكي يدعو لإنهاء تواطؤ بلاده في الإبادة الإسرائيلية بغزة    إلياس المالكي يعود إلى السجن..    تلاميذ مغاربة يحرزون 4 ميداليات في أولمبياد العربية في الراضيات    المجلس الاقتصادي: متوسط كلفة مريض في القطاع الخاص تفوف نظيره بالقطاع العام خمس مرات    حوادث تخلف 36 قتيلا في مدن المغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    فعاليات الملتقى الإقليمي للمدن المبدعة بالدول العربية    أمزيان تختتم ورشات إلعب المسرح بالأمازيغية    محاميان مغربيان يطالبان بإعتقال ومحاكمة نتنياهو بتهمة الإبادة الجماعية في غزة        رغم الانتصار على الغابون وليسوتو... المنتخب المغربي يتراجع بمركز في الترتيب العالمي    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    أوكرانيا تستخدم صواريخ "أتاكمس" الأمريكية في ضرب الأراضي الروسية..    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    روسيا تبدأ الاختبارات السريرية لدواء مضاد لسرطان الدم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوراق جزائرية: أسئلة الشعر، الثقافة، والحداثة
نشر في البوصلة يوم 08 - 11 - 2010


-1-
كان الحرص قويا على زيارة الجزائر هذه المرة، بعد تعثر الأولى لاعتبارات إدارية مملة، لها صلة بمسطرة تمديد صلاحية الجواز. بين المناسبتين، أي بين الجزائر عاصمة للثقافة العربية والجزائر في عكاظيتها الشعرية الرابعة، فاصل زمني مهم، استدعى حث الذاكرة على استعادة صور أقرب إلى الجزائر في مثاليتها: جزائر الإنسان، الثورة، الحلم، والتغيير.
بطبيعة الحال، لم يكن يعنيني ما يمكن أن يشوش على صفاء تلك الصور من ظلال سياسية، سلبية من وجهات نظر التاريخ، الثقافة، والمصالح المشتركة، على حد ما ألفنا سماعه في محافل الخطابة العربية. ولذلك، كان الاهتمام، من لدني، منصبا على استرجاع كل لقطة حميمة ببعض الوجوه الجزائرية في المغرب: في الحومة، في المدرسة، في الجامعة، وفي ما بعد في بعض اللقاءات الثقافية، العربية والدولية.
بهذه الطريقة، استطعت تركيب صورة الجزائري- المغربي الصادق، العميق، لكن الحاد في مواقفه وردود أفعاله في نفس الآن. إنها صورة البدوي، في بنيتها العميقة، تماما مثل ما وقف عليها ابن خلدون.. صورة معجونة بتراب الأرض ومائها، مخلوطة بدم التاريخ السائح في جغرافيا التضاريس، ومعطرة بروائح الثقافة المتعددة في عروقها، وألوانها، وأصولها. إنه تركيب مزاج خاص، لا يمكن اختزاله في أية وصفة كيماوية- إثنية على كل حال. وإن كان في الأمر ما ينم عن وجود مزاج بالمعنى الإيجابي، فإن ذلك المزاج كثيرا ما يؤول إلى انغلاق وتطرف أحيانا، سواء اتجاه الذات أو اتجاه الآخر.
-2-
حين أتحدث عن الجزائر، أعترف بأن الحديث ليس بالأمر السهل على الإطلاق. فالعلاقة بهذه البلاد، التي تسكننا ونسكنها روحا وقالبا، ليست العلاقة، نفسها، بجيبوتي ، أو قبرص، أو غواتيمالا، أو غيرها من البلاد العربية والأجنبية.. إنها الجزائر القريبة والبعيدة، الطيعة والمستعصية، الرحيمة والشرسة.. إنها بؤرة التناقضات، التي وجد التاريخ المعاصر والقديم ، في أحضانها، حطب وجوده الضروري، لكتابة تاريخ أمة تأبى ..
وترجع الصعوبة، في الحديث عن الموضوع، إلى التراكم النفسي القاسي، الذي بسببه صار اختزال الجزائر في اتجاه واحد سيد الموقف، أي ملغيا الاتجاهات الأخرى التي بإمكانها أن تفتح لكل واحد منا نافذة على جزائره الخاصة. وبالرغم من أن صلتي بالجزء الشرقي لا تعدو أن تكون ثقافية، من حيث مدار الإهتمام الشخصي، فإن هذا لا يعني تلاشي الأبعاد الأخرى ذات العلاقة بسوء الفهم المستمر، الذي كان من أسبابه الجغرافيا والتاريخ، حين لم يتم التحكم في حبائلهما بشكل عقلاني. هكذا، لم يكن، هناك، بد، في غير قليل من الأحايين، من الإحساس باستبداد الصورة البعيدة في مقابل الصورة القريبة، من طغيان الشرسة على الرحيمة، من سيادة المنفعلة على المتفهمة. هذه العلاقة الصعبة، المتراكمة منذ تحسس خطوات الاستقلال الأولى في الجهتين، في ظل ندوب نفسية هنا وهناك، كثيرا ما كان لها مفعولها القوي في استدامة الشعور بالتشاؤم: التشاؤم من بلوغ علاقة طبيعية، يكون المغربي، في مفهومه العام، سيد الجغرافيا، والتاريخ، والمستقبل.
-3-
إن رسم صورة تقريبية للجزائر، في علاقة ذلك الفعل بالذات المتحدثة، محاولة إبداعية بالدرجة الأولى، خصوصا حين تكون المواد الخام قائمة على أساس تداعي صور ومشاهد، روائح وأصداء،.. آتية من بعيد، من ذاكرة طفل- فتى كان يوما، حيث المذياع رفيق أب- جندي، لا يكل من ممارسة أقسى درجات جلد الذات على رأس كل نشرة أخبار- رصاص .. لافرق. لاشك في أن، هناك، ظلالا نفسية كثيفة، من الصعب التخلص منها بضربة نرد واحدة، بالرغم من وجود سعي حثيث لتحويل تلك "الظلال" إلى موضوع ثقافي رصين، يشذ عن إطار ما تكرسه السياسة الضيقة، مدعومة بسلطة الإعلام التي لا شأن لها غير توسيع نطاق الحرائق.
أن تترك للذات حريتها الكاملة في البوح بالدفين، تلك المهمة الأسمى في علاقة الكاتب بموضوع كتابته، مهما اعتراها من مبالغة وتهويل. أو ليست الكتابة، في نهاية المطاف، غير تخييل، خصوصا حين تكون لغة الواقع انتسابا فجا- تورطا بشعا في ما هو شوفيني بمعنى ما ?
-4-
كانت تلك المقدمات ضرورية لتنشيط حافز الكتابة، حتى لكأن للأمر علاقة بالإقدام على مغامرة حرب، لا عودة بعدها إلى الحياة بالمرة. ذلك ما أسميه سحر "النفسي"، أثناء تسربه الخفي، للاتصال ب "الخيالي". ما من شك في أن متغيرات عديدة تدخلت في العقدين الأخيرين، ليكون للمشهد العام إطار آخر، غير الذي تعودنا أن تقدمه وسائل الإعلام في الجزأين العنيدين. ثم لا ننسى أن الجزائر القريبة- البعيدة، بالرغم من انغلاق الحدود، تسكننا في وجدة وفكيك، مثلما نسكنها في وهران، و تلمسان. ومن ثم، فليس من الغريب أن يكون للمغرب جزائره، مثلما أن للجزائر مغربها. أو ليس المغربي في وجدة، بالنتيجة، يحمل في دواخله شخصا آخر، لن يكون سوى الجزائري بالحقيقة والوجود.. والعكس صحيح، تبعا للمنطق الرياضي البدهي ?. إنه سحر "الثقافي" الذي يأبى ترسيم الحدود، مهما استطالت جدرانها. فمادام هناك هواء- أثير، هناك أجنحة متبادلة تستطيع أن تحلق بالتحايا، الحكايا، الأغاني، الروائح، والرؤى.. تلك المنطقة المشتركة، التي وإن صارت موضوع تهريب السلع بين البلدين اليوم، لا ينبغي أن ننسى أنها كانت، ذاتها، موضوع تهريب لأشعة من تلك الشمس البهية بين عشاق الحرية، تجسيدا لذلك التلاحم الشعبي- الإنساني في وجه القمع، البطش، والاستعباد.
-5-
توشك الطائرة أن تقلع، كان إلى جانبي الشاعر الودود محمد علي الرباوي، وفي ذهني صور لوجوه جزائرية أحببتها: وجوه من الأدب، والمسرح، والغناء، والسينما،.. مؤشرات ملموسة على وجود أمة تصر على أن تظل محتفظة بمكانها العليّ تحت شمس العالم، بالرغم من كل المحن،.. وهي الخارجة، على التو، من أتون تجربة قاسية، ومرعبة، من منظور الإنسان الحقيقي الذي يحتل كل جارحة هشة فينا.
لقد كان الصديق الرباوي دليلي إلى الجزائر، وهو الساكن جزائر المغرب التي تقع على مرمى قبلات من مغربها الجزائري. وبالرغم من ادعاء معرفة جهة القلب الأخرى، فإن ذلك سيظل مجرد ادعاء تعوزه معطيات الواقع الحميمة . لذلك، كان المطلوب الاقتراب من الناس أكثر، أولئك الذين صنعوا ثورة الجزائر، بكبريائهم وبؤسهم، بصلابتهم وهشاشتهم أيضا. ولأن المسألة أخذت حجما أكبر من إصراري، فقد كان إنصاتي للأخ بشير صخري، عبر الهاتف من هناك، مبالغا فيه، لا لشيء إلا لمحاولة القبض على نفحة "الجزائري" فيه، أريج زعتر تلك الجبال الأوراسية الشامخة.
-6-
الاقتراب من الإنسان الجزائري، يعني الانخراط في المسألة الثقافية بامتياز. وأعتقد أن الانخراط ، ضمن هذا البعد، كفيل، لوحده، بتنحية الأبعاد الأخرى، ذات المتعلقات السياسية- الإعلامية النمطية حد القرف. فالبحث في الإنسان، بحث في الجوهري الدائم، ضدا على الطارئ الزائل. هذا، بينما يكون الاهتمام ب "الجزائري"، اهتماما بالخصوصي- المحلي، في علاقته بكل ما هو ثر، حي، وحميمي.
ولأن الجزائر لا تشذ عن المغرب، بحكم وجود قواسم مشتركة عديدة، من عناوينها التعدد والتنوع في كل شيء، فإن الإحباط كثيرا ما يحالف مهمة تدبير ذينك العنوانين، ما يؤدي إلى الدخول من أبواب غير آمنة في بعض من مفاصل التاريخ الحاسمة.
في هذا السياق، لم يكن غريبا أن ينجذب الانتباه إلى شكل المآذن "المشرقية"، المخترقة كبد السماء بحدة رؤوسها، وأنا الذي لم يكن يخامرني شك في أن مئذنة جامع القيروان- أوالقرويين وضعت حجر الأساس لمعمار عربي- إسلامي مشترك، في غاية من الخصوصية، في المغرب الإسلامي.. من هنا، مر الأتراك العثمانيون، بعد أن استطابوا المقام عدة عصور.. هكذا، يقول التاريخ، وهو درس لاشك في أنه ترك في "الجزائري" مسحة من مزاج ما.
-7-
كانت الطريق طويلة من المطار إلى فندق شيراطون. عدا بعض المآذن المشرقية الصاخبة، كان كل شيء يذكر بالدار البيضاء: سحنات الناس الملفوحة بسياط شمس إفريقيا اللاهبة، عيونهم المشرئبة بتوجس من مستقبل، يكاد يتوارى خلف أزمات اقتصادية عاتية ومتكررة.. ُبُسط الخضرة المتمددة، بانشراح، في كل مكان لم تطله ورشة بناء.. اعتدال المناخ المتوسطي الرحيم، الذي تجتاحك نسمات هوائه البحري بلطف وأريحية.. شقاء الزحمة الضاجة في مختلف الطرقات، إلى درجة أنه غدا وجبة عقاب يتناولها المواطن، صباح مساء، في كل سعي لقضاء حاجة يومية، مهما هانت وقل شأنها..
في مقابل ذلك، كان من النادر أن ترى الناس يسعون على أرجلهم، مضايقين السيارات في أثناء عبورها. وفي ندرة ذلك السعي، بإمكانك أن تتفقد حيوية أولئك الناس وهم يعبرون الطريق، يمسحون زجاج السيارات، أو يبيعون "شيئا" ما للسائقين، طلبا للرزق. ولأني سمعت من أحد الأصدقاء حكايات معينة عن أنفتهم، لحد أن النادل بالمقهي يرفض قبول علاوة على خدمة، فقد أدركت بعضا من سر "الجزائري"، ذلك الانقلابي العنيد لمجرد سوء في الفهم العابر. فبقدر صلابته، تكون درجة هشاشته، أقصد طيبته. إنه كائن حاد بطبعه وطبيعته... يحب بعنف بقدر ما يكره بعنف.
عبر تلك الطريق، كنت أبحث عن الأطفال يحملون محفظاتهم، وهم في أقسى فورات الشغب.. عن المتسولين الذين لا يتركون فرصة للالتفاف حول سيارة، رجاء صدقة كريمة.. عن الفتيات يختلن في الطريق العام، وعلى إيقاع كعوبهن يضبطن ساعة الجزائر الوجدانية. أين هي الجزائر التي أود رؤيتها وسماعها، لمسها وشمها، تذوقها والالتحام بها ?
للأسف، ووريت في علبة إسمنتية، اسمها أوطيل شيراتون.
-8-
في الفندق الفخم، من فئة خمس نجوم، كانت القبائل العربية مجتمعة، أبيضها وأسمرها. وفي أثناء ذلك الاجتماع، كانت الحفاوة العربية حاضرة، لها أحضان حارة، مثل ما لها أصوات صاخبة.. كلنا في الهم شرق، باستثناء ضيوف على بلاد العرب في الجزائر، صينيين بالتحديد. ولولا هؤلاء، لما أدركنا أننا "ضوضائيون" في أحاديثنا وفي دعاباتنا، في مجاملاتنا وفي تعليقاتنا، في أفراحنا وفي أتراحنا.. أمة لا تعرف كيف تحيا وتعيش، يا أمة . .
قبل الوصول إلى الفندق، توقفت السيارة عند حاجز عسكري- دركي. وبالرغم من أن التوقف كان قصيرا، إلا أنه حمل في طياته معاني كثيرة، يترجمها اختبار القدرة على النهوض من جديد ، مثل طائر الأسطورة، الفينيق. ولهذا، نتفهم حالة الكمون السيّد، في انتظار الانطلاق الحر الخلاق بإصرار وعزم. وما تنظيم العكاظية الشعرية الرابعة، بمثل الاتساع العربي الذي حازته، إلا أحد مؤشرات الانطلاقة الجديدة الوثابة.
كان الحديث عن الشعر خبز العرب اليومي داخل الفندق و خارجه. لا يتم تركه إلا للحديث عن الجرح العربي النازف باستمرار: فلسطين. ولأنها الخيبة العربية المطلقة، فإن الإحباط كان سّيد الموقف.. لماذا، كيف، إلى أين، وحتى متى ???.. حين يتحول الأمر إلى عملية جلد قاس للذات، بسبب خذلانها وعجزها وتآمرها، يتم العود، من جديد، إلى الشعر.. خبزنا الأوحد في جغرافيا الجوع العربي الممتد من الماء إلى الماء.. والعود أحمد، كما يقال.
-9-
الفندق بعيد جدا، تزيد بعده شراسة زحمة الطريق المؤدية إلى قاعة "الموكار"، محفل القصيدة العربية المتوهج بصليل القوافي. وبالرغم من يقيننا بأننا في بلاد الأوراس، نقيم بين ضلوعها، ونأكل مما تنبت أرضها، ونتنفس من هوائها، إلا أن تلك البلاد كانت بعيدة عنا بمقدار متر أو مترين، أي مسافة مغادرة الحافلة.. لا إلى قاعة الشعر، حيث امرؤ القيس وطرفة والأعشى ينتظرون. فما يبقى من الجدول اليومي في الفندق، تلتهمه الحافلة وقاعة الموكار بالتساوي تقريبا. أمام ضغط مثل هذا الجدول، كان زجاج الحافلة بمثابة المرآة، المنعكس في صفحتها بعض من الجزائر التي نحب ونكره على السواء. وحين يرتد البصر حسيرا، بين الفينة والأخرى، ما تلبث الجزائر أن تتفتق، عشقا وألما في ذات الوقت، من ألسنة شعرائها، الشباب في غالبيتهم. الحديث يأخذ بعضه بأطراف بعض، عن: جزائر الثورة، جزائر المستقبل، جزائر الفن، والإبداع الشعري على وجه الخصوص.
وخارج مكائد السياسة، يبرز الإعجاب بالمغرب، أرضا وشعبا وثقافة. كانت الملاحظات والتعليقات تخرج من الأفواه سلسة، رقراقة، تلقائية.. تدرك معها شغاف القلب الجزائري الكبير، وعظمة طيبته اتجاه المغرب والمغاربة..
- زرت البيضاء، مراكش،.. الرباط جميلة وهادئة..
- ألسنا شعبا واحدا في نهاية المطاف، يعلق أحدهم.
- حقا، شعب واحد، بالرغم من أنف البولتيك والجيوبولتيك، و...
- ألحمد لله أن فرقتنا السياسة، ولم يفرق بيننا الوجدان الشعبي.. هذا هو الأهم، ففي أية لحظة يمكن أن يعتدل المزاج السياسي لصالح البلدين: بين عشية وضحاها، أي نعم .. غير أنه على العكس من ذلك، يصعب، حد الاستحالة، تعديل المزاج الشعبي لو أصابه " شيء" -لا قدر الله- مما يعكر صفوه، أقصد الثقة والاحترام المتبادلين.. فخصام الحكام أهون، بكثير، من خصام الشعوب.
- المستقبل المغاربي، بين أيدينا، قاب قوسين أوأدنى.
-10-
كانت الأخوة الجزائرية- المغربية حيية، في القلوب قبل الألسنة، لم تنل منها ماكينات الإعلام الشرسة قدر شعرة.. والترمومتر الحقيقي على الأخوة العفوية الصادقة، ذلك الخروج المغربي الجماهيري، تشجيعا للفريق الجزائري في أكثر من مناسبة كروية. والحق أن الشاعر المغربي الرباوي زادها، في هذه العكاظية الشعرية، مودة وحرارة، بفعل لطف شخصه من جهة، وبفعل معرفته القوية بالجزائر، التي له إليها فؤاد يحن ويهفو.
في الحافلة أو في الفندق، كان يحلو الجلوس إلى الجزائريين من الشعراء، على الأقل للتأكد من أن القلب يقيم في مكانه، ينبض بذات النبض الأصيل، الأمين، والوفي.. بالرغم من تقلب طقس الأحوال بين الفينة والأخرى. ولعل مما كان يزيد من حرارة الجلوس، سيادة نفس "الهوى" الشعبي، الذي في حضرة لسانه، تصبح في غير حاجة لتقمص لسان آخر، ولو كان عربيا، مبينا.
وفي السياق ذاته، لست أخفي أن هذا الهوى الفصيح دفعني، منذ فترة، إلى الاعتناء ب "الجدل الثقافي" بين المغرب والجزائر.. وقد وجدته غنيا إلى أبعد حد. ولذلك، أفهم سر الفخر الجميل الذي يملأني إحساسا، حين أعتبر رحلتي، اليوم، امتدادا لرحلة الشاعر المغربي أحمد سكيرج إلى الناحية الغربية كلها من هذه البلاد.
والواقع أن البلدين، بعظمة تاريخهما الذي صنعته شعوبهما، بعمق ثقافتهما المتعددة من فينيقية، وأمازيغية، عربية- أندلسية وإفريقية، إسلامية ويهودية، بمواردهما البشرية والطبيعية، لا يجوز أن تؤجل أحوال شؤونهما إلى ما بعد نشرة الأخبار الرئيسة في تلفزة المركزية المشرقية البئيسة.
من هنا، من المغرب الكبير، ينبض القلب العربي: بالخيال المبدع، والعقل المتنور.. ولا ادعاء.
-11-
نحن في الحافلة، الرابطة بجأش بين الفندق والموكار، إخوة من الخليج إلى المحيط. ومن ثنايا هدير الحافلة، فجأة يتناهى إلى سمعي صوت إحدى الشاعرات الشابات عذبا، يصدح بقصيدة شعرية، فيها من العمود والهم العربيين ما لا تخطئه أذن شاعر ولا عقله. حين انتهى التصفيق، من قبل ثلة من المتحلقين، سألتها بسذاجة غريبة:
- القصيدة جميلة.. هي لك ?
-أجابت بثقة واعتزاز: نعم، هي لي.
عندئذ، وأنا أسوي وضعي على المقعد، طفت إلى سطح الذاكرة ملاحظة لصديق، عبر لي عنها ذات لقاء بالرباط: الشعر الجزائري ما يزال يرسف في تقليدية غريبة بشكل لافت.
- فعلا، القصيدة جميلة.. لا شك في أنها اقتضت جهدا جهيدا من ناظمتها.
- ولكن، ما الذي يحث فتاة، في عقد الشباب الأول، على أن تعود إلى لغة امرئ القيس، في سعي حثيث لتعليب خيالاتها الغضة، أقصد بنات القرن الواحد والعشرين ? يمكن تفهّم ذلك، إن كان للأمر صلة بالبدايات الأولى على تعاطي الصناعة الشعرية، خصوصا أن الدرس الشعري العربي في المدرسة العربية، بصفة عامة، مايزال تقليديا في اختياراته، وفي طرق تدريسها.
- القضية، وما فيها، لها علاقة بالاختيار.. والفيصل في كل ذلك، شرط وجود التجويد الشعري.
- هكذا، أجابتني الدكتورة شفيقة وعيل في سياق حديث آخر.. وهي محقة، في جوابها، مبدئيا.
-12-
لا عجب إن قلنا إن أقوى ديمقراطية في العالم وأنبلها، هي ديمقراطية دولة الفن الشاسعة. فلا أحد يستطيع أن يرغم آخر على الإبداع بهذا الأسلوب أو ذاك، مثلما أن ليس للواحد دخلا في فرض ذوقه على الثاني. ولذلك، لا عجب، أيضا، من أن يكون الفن رديف الحرية، إذ بدونها تذوي زهرته، وبالنتيجة يتلاشى عطرها. ولأنها الحرية، فلا قيمة لها في غياب القدرة على التحليق خارج السرب. وبتعبير جامع، شرط الإبداع الحرية، بقدر ما أن شرط الإبداع المغامرة، حد التعرض للخطر الشخصي. والمغامرة، في هدفها، بحث عن الجديد، كشف للمستور وتعرية له.
ولأن في المغامرة انتسابا للخطِر، فإن قليلا من المتعاطين للكتابة ممن يمكن وصفهم بالمبدعين. ولنا في الإبداع العربي الراهن أمثلة قليلة جدا، في كل الفنون، لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة. في واقع مسكون بالطابوهات، الدينية والجنسية والسياسية، يندر أن تجد من يرفع صوته في وجه الاستبداد، والتطرف كيفما كان شكله ولونه، لدرجة مواجهة الطرد من الوظيف، السجن، النفي، بل والموت.
ولأنه مغامرة، فالإبداع غربة بمعناها الكلي، أي انزياح عن السائد في الزمان والمكان.. ومن ثم، قيل هو موقف وجودي، هو رؤية يلتحم فيها الخيال بالعقل، مثلما يلتحم الجسد بالروح.
وبمعنى آخر، الإبداع مقاومة للموت لأجل الحياة.. مقاومة للماضي لأجل المستقبل.. مقاومة للرديء لأجل الجميل.. مقاومة للمطلق لأجل النسبي.. هذه هي مقاومة الفن، والشعر في طليعته. كل حديث عن المقاومة، هو حديث عن المستقبل بالضرورة والإمكان. وكل ما عدا ذلك، هو خلود للكسل، وتفقد مستمر لأسباب دعته.
الإبداع وحدة كلية، لا سبيل إلى التمييز بين أجزائه وعناصره.. وإلا ضاع سحره وسره. فأن يكون المرء حداثيا، يعني أن يصدر عن وحدة في الشكل والمضمون، إن صح التفريق بينهما ولو على سبيل التمثيل الرديء.
-13-
تلك مجرد رؤوس أقلام، سجلناها وحفظناها عن ظهر قلب منذ الصفوف الدراسية الأولى. وبالرغم من كثرة اجترارها، من قبل غير قليل من الأدعياء، لم تفقد تلك الرؤوس- الشهب جذوتها اللاهبة، النيّرة. ومن جهتنا، حين نشير إليها في هذا السياق، لا نريد أن نكون أوصياء على أذواق الناس، واختياراتهم.. بمعنى أن إيرادها، هنا، لا يخلو من الرغبة في النقاش، بل والرفع من إيقاعه على أكبر تقدير.
في إطار نفس الروح" النسبية"، القلقة في ذات الآن، كانت غرابتي كبيرة من أن يتوحد مختلف الشعراء الجزائريين، المشاركين في العكاظية الرابعة، حول نمط واحد من الكتابة الشعرية، أي نمط القصيدة العمودية. والأغرب من ذلك، أن يكون هذا النمط محل إبداع الشباب، من مواليد الستينيات والسبعينيات، وحتى الثمانينيات.
إن الإجماع على نمط موحد من القول الشعري، له تاريخ طويل من تقاليد الصناعة الشعرية، لأمر يشكل مفارقة عظيمة، تستحق أكثر من تحليل واستفسار. ولعل الجانب الأكثر جلاء في المفارقة، محاولة القفز على التساؤل الإشكالي للشاعر الجاهلي عنترة في مطلع معلقته، وهو تساؤل حداثي، في روحه، ملازم لكل إبداع يسعى لأن يكون جديدا، جريئا، وعميقا. وأعتقد أن إشكاليته تلك، كانت مدار اشتغال كثير من الشعراء الإشكاليين، منهم أبو نواس وأبو تمام والمتنبي والمعري، وبدر شاكر السياب، وأدونيس، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، محمد بنطلحة، وغيرهم.
كيف تستقيم التضحية بجهود هؤلاء، الذين سعوا لأن يكون شعرهم معبّرا عن روح العصر في حساسيته الجمالية، والفنية، والرؤيوية ?
وإذ الجودة هي المعيار، فالأولى تذوقها في أصولها الأولى، لا في فروعها التي مدار جهودها إقامة وزن بدون كسور، وقافية بدون إقواء، وجملة بدون لحن، وهكذا، .. بالإحالة الملموسة إلى ما كان يتسقطّه الشاعر التقليدي عبد الرزاق عبد الواحد من أفواه الشعراء الشباب، في مجاهدتهم لتقمص أرواح شعراء الجاهلية، على ركح قاعة الموكار أو الأطلس.. أقصد تسقُّط هفواتهم بأستاذية مشرقية متنفجة.
وإذ الجودة هي المعيار، فالأنسب تجويد الخيال الشعري بالانتساب لأفق الحداثة، لا لأفق القدامة.. فالجيد ليس حكرا على الشعر العمودي، مثلما أن الرديء ليس حكرا على الحديث بالمقابل. إن الإحساس بالزمن، في كيفية التعاطي معه، ظل الموضوع الأساس في كل حركية عرفها تطور الآداب والفنون، ممارسة ونظرا.. ليس عند العرب، وحدهم، دون غيرهم.
-14-
الشعر لم يعد مجرد كلام موزون مقفى، بل تخييل حسب تعريف أحد أبناء المغرب الكبار حازم القرطاجني.
الشعر موقف في الحياة والفن، رؤية متجددة على جميع الصُّعُد: اللغة، الجملة، الإيقاع، الصورة، الإنسان، والوجود بصفة عامة بكل ما يضمه ويطوله..
الشعر إبداع لعالم ممكن، وليس اجترارا لآخر قائم.. والشعر، بمعنى ما، بدعة، ضلالة عن كل ما هو عادة مكرورة..
الشعر بناء، ليس على غرار، بل على نقيض..
الشعر تخييب لأفق انتظار، وليس استجابة سهلة ومجانية ..
الشعر مسار غير مكتمل، هو مشروع مفتوح على المستقبل..
الشعر انخراط كلي، من باب أن كل نص يخلق معاييره.. حيث يصير لكل كيان شعري إيقاعه الخاص، لغته الخاصة، كونه الدلالي- الجمالي الخاص أيضا..
وما ندري كيف يكون عليه حال الشعر، وكذا تعريفه بعد غد.. فالشعر يقيم في المستقبل، ومن ثم يكتسي أمر إبداعه طابع المغامرة المترحلة باستمرار، المشرعة على المجهول..
ولذلك، كله، يكون الشعر أقرب إلى الإقامة في الخيمة المترنحة، حيث الزوابع والرمال المتحركة.. أبعد من الإقامة في البيت، حيث نفس الجدران، ونفس الأثاث، ونفس الهواء القديم الراكد أيضا..
-15-
حين وقع ما وقع في الأمسية الشعرية الثالثة بقاعة الموكار، حاول أحد الرفاق الجزائريين، في سياق الحديث عن تداعيات ما حصل، أن يفسر الموقف على أساس أن، هناك، تكريسا للقدامة الشعرية على حساب الحداثة في تجربة الشعر الجزائري الراهن. ويضيف مؤرخا لذلك، بصعود " نجم" جبهة الإنقاذ الإسلامية في سماء المشهد السياسي ذات انتخابات..
لست مؤرخا للشعر الجزائري، ولا خبيرا بوهاده ومنعرجاته، باستثناء ملاحظات عامة يحالفها الصواب أو يجانفها. ولأن النماذج الشعرية، المقترحة في العكاظية الأخيرة، لا تترك الفرصة لأية مواربة، فإن مؤشر حضور "الخليج" الشعري في الجزائر، يدعم، من جهته، هذا الارتماء شبه الجماعي في حوض القدامة الشعرية.. والمقصود، بالذات، الخليج التقليدي، درءا لكل لبس.
لذلك، لم يكن من الغريب أن تحتشد البطاقات الشخصية للشعراء الجزائريين بالجوائز الخليجية، ومنها جوائز البابطين، وأمير الشعراء،.. هذا هو الأفق..
واللافت أنه بدلا من أن يتم تجاوز تجربة مفدي زكريا بالإغناء، وهي تجربة موفقة شعريا إلى حد بعيد، لدرجة أن الجار في المغرب لم يعرف شاعرا مثله اتساعا في المقروئية على مستوى العالم العربي.. وقريبا منه محمد العيد آل خليفة للإشارة.
هي مجرد نماذج مقترحة، مشروطة بتظاهرة شعرية، محددة في الزمان والمكان.. باعتبار أن الجزائر، في واقعها وإمكانها، أبعد من أن تحدها نماذج معينة، باعتبار الحيوية الفنية التي يشهدها المجتمع الجزائري، والتي من تجلياتها أسماء كبيرة في كناش الأدب العربي الحديث، من مثل الطاهر وطار، أحلام مستغانمي، واسيني الأعرج، محمد ديب، وغيرهم كثير.
-16-
هكذا،
بدل أن تقلنا الحافلة إلى حيث صانع ثورة المليون شهيدا يصنع خبز يومه بأناة، وبين الفينة والأخرى ينخرط في ضحك، مثل البكاء، من هذا الزمن العربي الرديء من النهر إلى البحر.. في تصاد مع ذلك المغربي الذي يرفع صوته في السماء، شاتما البشر والحجر.. و.. فيرتد الصدى، قويا، بين المشرق والمغرب: يا أمة ضحكت من جهلها..
وبدل أن تقلنا إلى الخرائط العميقة، حيث شعراء الهامش يموتون يأسا، وبين أسنانهم قصائد غضة في حب الإنسان المقيم في عبوره الأبدي.. في حب الوطن المطل من فوهة زهرة برية.. في حب الحياة، منفلتة من قارورة عطر طيبة، أو من بين إبطي صانع يشقى في كدحه.. لا فرق..
هكذا،
وجدتني، فجأة، أقرأ شيئا ما، وقبالتي وجوه ألفت الإنصات إلى هشاشاتها الإنسانية بعمق كبير: عيسى لحيلح، يوسف عبد العزيز، عباس باسم، عبد الحميد شكيل، عاشور فني، الصديق عمر الصديق..
لم أتصور، يوما، أن يكون "الشعر" بمثل تلك القوة المدمِّرة.. وهو لا يعدو كلمات نسمع مثيلاتها على ألسنة معتوهين وحمقى..
ليس غير هراء في هراء، انحراف، شذوذ، انزياح، خرق، لعب مجاني.. بحسب لغة أهل الشعريات الحديثة، واللسانيات، والبلاغيات، وهلم ذِكرا..
نعم، هراء، سوريالية إن شئت.. والقائمة طويلة من المفاهيم البليدة، التي تسعى، عبثا، للقبض على روح الشعر، أقصد سر الإنسان الكامن فينا على الدوام..
ليس هناك من جديد، حتى يتم تصويب ذلك الرشاش في وجه أي حركة تحدث فوق الركح..
ليس، هناك، بلادة أكبر من تنصيب النفس حارسة لوردة شعرية شاخت، والورود تتفتق كل حين، وليس بيننا وبينها غير شباك نطل منه كل صباح على شمس بهية، سيدة الشعر، والمقاومة الإنسانية، والثورة الفنية الدائمة..
أن تفرغ ما في الجعبة من رصاص، وبعدها تصعد فوق الجثة لتنشد الحب، الحياة، والحرية.. مشهد في غاية من القرف، لا يوازيه إلا قرف إفريقيا من عادة الانقلابات العسكرية بين عشية وضحاها..
- لا مبايعة لأبطال في ساحات من كارتون، ولا صهيل أحصنة على أسوار من شمع..
-17-
هي ذات اليد التي تستمني: يدي، يدك، يده.. أيدينا، جميعا، قبل أن ترتفع للأذان بالصلاة، وتهم بالتسبيح.. هي ذات اليد التي حملت السلاح من أجل تحريرنا جميعا.. هي ذات اليد التي علمتنا كيف نتناول القلم، ونكتب نصا يعنّف لا يدغدغ، يربك لا يطمئن، يزعج لا يهدئ، يكدِّر لا يهدهد ..
لكن، ليست ذات اليد التي تصفق من فوق المنبر، مباركة خيباتنا وخساراتنا وإحباطاتنا من الماء إلى الماء..
-18-
لا أدري لماذا يتداعى، في الخيال، العمود الشعري مع العمود الذكري للرجل..
خصوصا في مثل بيئتنا العربية، حيث يسود الرجل، ويحكم بعصاه، بقلمه، بأصبعه..
بكل شيء ناتئ فيه..
- التداعي مثير،حقا..
- ويحتاج إلى تحليل بسيكولوجيا المجتمع العربي..
-19-
بعد العشاء الفاخر، وفي ساحة إقامة الميثاق الخارجية، كانت الشاعرة العمودية تسير بخطى رشيقة، أقرب إلى قصيدة النثر منها إلى قصيدة العمود..
وفي خلفية الصورة، كانت، هناك، نساء جميلات، ما فتئن يعجن خبز الحياة.. والفن.. والرجل.. بإبداع عجيب، يصل حد الإعجاز: خليدة، نصيرة، حسيبة،..
أسماء جزائرية عظيمة بامتياز..
لا عليك، سيدتي الوزيرة، المبدعة إبداع من صنعوا ثورة الجزائر، فأنت أعظم قدرا، وأجل شأنا ممن وضعوا في طريق خطواتك المضيئة: "الفطاحل"، و"الفواحل"، و"البواسل"، وحتى الكواسر.. فقد كان إنصاتك المُبدِع، لأكثر من ساعتين، سيّد الشعر، وألقه الحي الذي لا تطوله كلمات من معجم رث قديم..
ولا عجب، إن قال أحدهم، ذات مرة، إن مستقبلنا المشرق تصنعه المرأة لا الرجل.. بعد أن طال اليأس من الأخير، جراء ما خلفه من حروب، وجهل، واستبداد..
فلتنهض، من الآن، حضارة المرأة على أنقاض حضارة الرجل الخِربة..
لتنهض القصيدة، صِنو المرأة، خفيفة، عميقة، في غير حاجة لصليل قواف أو سيوف..
-20-
في الفندق، كنت على موعد مع لبنان، وفلسطين.. أقصد الشاعرين باسم عباس، ولينا أبو بكر، وكانت طيور ثورة الجزائر، وجميع ثورات العالم، تخفق في سماء تلك الليلة المقمرة الأخيرة..
بكامل الأدب الجم، واللطف الأنيق، والخيال الوثّاب، يتحدثان.. ونتحدث جميعا..
قال باسم من عمق قصيدته: :
- في كل حرب عدوة على الجنوب، نجد أنفسنا في أكثر المواقف اختبارا لقدرة تحمُّل الإنسان فينا..
- لسنا طلاب موت، ولكن كيف نحمي مستقبل القصيدة في أرضنا: هدأة الصبي يرقد في حجر أمه، اشتعال الليل على آهات خليلين، تكسر شجر الأرز على جنبات طريق، سمفونية العصافير في فناءات بيوت..
.. ثم قامت لينا تتحدث عن أبيها، وكان حديثها قطعة سكر تتداعى في كأس ماء..
- الحديث عن الشعر، عن المرأة، عن الوطن،.. هو ذاته الحديث عن الأب، مادامت الكلمات تتضوع من فم نفس القارورة، سمها ما شئت: العقل، الروح، القلب.
وفجأة، التحق عبد الله، وكانت فلسطين تشرف من حدقتيه قاب قوسين أو أدنى، وهو يقرأ من شعره..
-21-
في الصباح، غادرنا الفندق..
كانت الجرائد ضاجة بالأخبار المفخخة عن ملتقى القبائل العربية في دورته الرابعة..
وكان المغرب يستعجل الخطى ..
- إلى اللقاء، جزائر الثورة، الإنسان، والشعر..
- هنا، إذاعة الرباط .. الساعة، الآن، الثانية بعد الزوال.
- ومباشرة، تصلني رسالة من اتصالات المغرب على هاتفي المحمول.
المحمدية، 22 - 23 مايو 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.