استطاعت الجزائر بفضل دبلوماسيتها القوية والنشيطة في السنوات الأخيرة أن تحسن علاقاتها الخارجية أكثر مع العالم وخاصة مع بعض الدول الكبرى، الأعضاء الدائمة العضوية بمجلس الأمن كفرنسا وأمريكا وروسيا، وتمكنت في الوقت نفسه من أن تحصل على موقع أساسي على الصعيد المغاربي تنافس به المغرب في سعيها لأن تجعل من نفسها محاورا مع أوروبا وأمريكا عن الاتحاد المغاربي، وهو الدور الذي جعلها نقطة تقاطع بين السياسة الفرنسية ومثيلتها الأمريكية في علاقتهما معا بها. كيف أثرت إذن أحداث 11 شتنبر على السياسة الجزائرية الخارجية؟ ما حجم التعامل السياسي الجزائري مع أوروبا وأمريكا؟ هل استطاع الرئيس بوتفليقة إحقاق السلم الاجتماعي بالجزائر وكيف توازن الجزائر في علاقاتها مع فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية؟ خطة ذكية لتفعيل التقارب الفرنسي الجزائري تذهب بعض التحاليل السياسية إلى أنه من الصعب وصف العلاقة الجزائرية الفرنسية بالطبيعية على الرغم من مساحيق التجميل التي توحي بذلك، فمنذ استقلال الجزائر سنة 2691 إلى الآن، مازالت هذه العلاقة تمر بحالة انسداد تارة وحالة انفتاح تارة أخرى، لكن الذي يبعث على الاستغراب هو أنه رغم هذا التوتر في العلاقات الثنائية، فقد ظلت باريز سيدة الموقف اقتصاديا وثقافيا وأحيانا سياسيا في الجزائر، بل إن تحاليل أخرى تذهب إلى أن باريز هي المسؤولة عما تعيشه الجزائر من أوضاع مزرية، فقد مارست خلال استعمارها للجزائر كل أنواع المسخ وطمس الهوية وسلب خيرات هذا البلد. هذا المنطق الاستعماري الفرنسي استمر مع جزائر ما بعد الاستقلال، وقد أورد الباحث يحيى أبو زكرياء في تعليق له على الزيارة الأخيرة للرئيس الجزائريلفرنسا في مارس الماضي، نماذج لهذا السلوك الاستعماري، منها أن باريز واصلت احتكارها لصناعة الطاقة الغاز والنفط استخراجا وتوزيعا وتسويقا، كما كانت توفر الحماية للغتها التي كانت نافذة في الإدارة والمدرسة والجامعة. وشبه الباحث أبو زكرياء في مقال له بعنوان: شيراك في الجزائر: "هل نسي الجزائريون العلاقات الجزائرية الفرنسية الحالية" بفسيفساء كثيرة الألوان والالتواءات وتتخذ سمات وملامح مختلفة على مدى الولايات المتعاقبة للرؤساء الجزائريين منذ 1962 وإلى حدود الآن وهي الفترة التي عرفت فيها الجزائر سبعة رؤساء هم: أحمد بن بلة من 1962 إلى 1965 وهواري بومدين 1965 إلى 1979 والشاذلي بن جديد من 1979 إلى 1992 ومحمد بوضياف من يناير 1992إلى ماي 1992 وعالي كافي 1992 إلى 1994 واليامين زروال 1994 إلى 1999 وعبد العزيز بوتفليقة من 1999 إلى يومنا هذا. وطبعا كانت لفرنسا سياسات متنوعة تجاه الجزائر حسب الرؤساء الذين تناوبوا على حكمها. إلا أنه بوصول عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم في انتخابات 1999 التي انسحب منها كل المرشحين الآخرين، دخلت الجزائر مرحلة جديدة يحاول من خلالها الرئيس الحالي الانفتاح على عواصم صناع القرارات السياسية لمساعدته في المجال الاقتصادي والسياسي والأمني. واعتمد الرئيس بوتفليقة خطة ذكية لتفعيل التقارب الجزائري الفرنسي من حيث إنه أعطى بعض الإشارات التي تدل على أن الجزائر يمكن أن تخرج من تحت العباءة الفرنسية عن طريق تكثيف الزيارات الرسمية للمسؤولين الأمريكيين إلى الجزائر، الأمر الذي أقلق باريز ودفعها إلى إعادة حساباتها في علاقاتها مع الجزائر صيانة لمصالحها الاستراتيجية والسياسية والثقافية والاقتصادية. حاجة فرنسا للجزائر وهنا نشير إلى أن الملف الأساسي الذي يختزل في ذاته كل الملفات الأخرى، والذي كان دافعا مباشرا للرئيس شيراك لزيارة الجزائر هو خشية فرنسا من أن تفقد عمقها الاستراتيجي والاقتصادي في الجزائر حيث أصبحت الأسواق الجزائرية مهددة بغزو أمريكي كبير، خاصة على مستوى التسلح والدعم العسكري المباشر. وتحولت القوة الشرائية تدريجيا نحو معسكرات أخرى بما فيها روسيا التي عقدت مع الجزائر السنة الماضية صفقة تزويد بالأسلحة بقيمة 4 مليارات دولار، وهو الأمر الذي فسر بأن سعي بوتفليقة نحو تحديث وتطوير ترسانته العسكرية إنما يقصد توجيه رسالة بليغة للمغرب الذي استغرب هذا التمسك الجزائري بالتسلح. وفي نفس السياق، صار سوق السيارات بالجزائر الذي يستوعب ما يزيد على 60% من الصناعة الفرنسية يتحول تدريجيا إلى أسواق أمريكية وأوروبية أخرى، وأدركت باريز على الفور أنها ملزمة بالعمل على استرداد الجزائر ومن خلالها السوق الجزائري وفق خطوات سياسية واقتصادية وثقافية مختلفة. المطالب الجزائريةلفرنسا شكلت الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى الجزائر أهم محطة للحديث عن أهم القضايا الاجتماعية المشتركة بين فرنساوالجزائر. فكان الملف الأول الذي تمحورت حوله المناقشات الجزائرية الفرنسية وهو مدى دعم فرنسا للإصلاح في الجزائر. ولم يتردد الرئيس الفرنسي في إعلان تعهده بدعم الجزائر في كل جهودها الإصلاحية والتحديثية، وقد تعهدت فرنسا بصورة خاصة بدعم المنظومة التربوية والتكوين والمساهمة بالأطر العلمية والآليات الضرورية لهذه المهمة. وكان الملف الثاني هو ملف الصحراء المغربية الذي تساند فيه الجزائر بشكل صريح وواضح ومباشر مطالب الشعب الصحراوي القاضية بحقه في تقرير مصيره، إلا أن فرنسا كانت قد أبدت ميلها لموقف المغرب، واعتبار الصحراء جزءا من ترابه المغربي. وقد جعل شيراك من شرط إطلاق سراح السجناء المغاربة الذين تحتجزهم جبهة البوليزاريو شرطا مهما للإسراع بحل هذا الملف. وكان الملف الثالث هو موضوع الأمن الداخلي، ومدى مساهمة فرنسا في دعم الجزائر في جهودها للقضاء على ما تعرفه من أحداث قتل داخلي. وركز الرئيس الفرنسي في مقاربته لهذا الموضوع على الإسلام المتسامح مؤكدا أن مبادئ الحوار والتسامح والفهم الصحيح للواقع والتاريخ هي أفضل الطرق للوصول بالإنسانية إلى سلام دائم. أمريكا: هل تكون بديلا للجزائر عن فرنسا سجل المهتمون بالعلاقات الجزائريةالأمريكية حدوث تقارب ملحوظ بين البلدين في أثناء سنتي 2001 و2002 نتيجة لزيادة التعاون في مجال التصدي "للإرهاب" وزيادة حجم التجارة المشتركة والاستثمارات الأمريكية الخاصة في الجزائر، ومعظمها استثمارات في مجال النفط. وازدادات العلاقات الجزائريةالأمريكية وضوحا في السنتين الأخيرتين خاصة عندما أعلن رئيس قسم مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأمريكية فرانسيس تايلور عند وصوله إلى العاصمة الجزائرية في 27 يونيو 2002 وقال في ندوة صحافية "إن الجزائر من أصدق شركاء الولاياتالمتحدةالأمريكية وأكثرهم ثباتا". وكان مسؤول أمريكي رفيع أعلن في وقت سابق عن أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تؤيد الجزائر في حربها ضد الإرهاب "من خلال بعض برامج التدريب المشترك، وغير ذلك من صور "المساعدة" الأخرى التي يمكن أن تقدمها الولاياتالمتحدة للجزائر في الموضوع. بما في ذلك "تدريب القضاة الجزائريين على الاستقلالية والشجاعة والقدرة على اتخاذ القرارات على أساس من القانون". وعرفت العلاقات العسكرية بين الجزائروواشنطن تطورات مذهلة منذ انضمام الجزائر إلى الحوار مع ملف الناتو، وقد جرت العديد من المناورات العسكرية بين القوات البحرية الأمريكية والقوات البحرية الجزائرية في البحر الأبيض المتوسط، كما قامت العديد من الوفود العسكرية الأمريكية بزيارة للجزائر، الأمر الذي فهم منه المراقبون في الجزائر أن هذه الزيارت هي عبارة عن رسائل مبطنة لدعم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في وجه المحور الجزائري المحسوب على فرنسا في دوائر القرار الجزائري. وتشرف الولاياتالمتحدةالأمريكية على تدريب المآت من الضباط الجزائريين في معهد سانسور إلكترونيك في بالتيمور التابعة لمجموعة نوتروب غرومان، كما أن خطة الجيش الجزائري في تنويع مصادر تسليحه، وسعي عبد العزيز بوتفليقة إلى امتلاك أكبر ترسانة عسكرية يزايد بها على باقي دول المغرب العربي وخاصة المغرب، جعل واشنطن من أهم مزودي الجزائر بالعتاد العسكري. ولم تقتصر إدارة واشنطن في سعيها إلى التضييق على فرنسا بشمال إفريقيا على هذا التعاون العسكري مع الجزائر، بل تعدى الأمر ذلك ليشمل المجال النفطي، ذلك أن شركات أمريكية باتت تستحوذ على حصة الأسد في مجال التنقيب عن النفط الجزائري وتسويقه. وهناك عقود مبرمة بين الشركات الأمريكية وشركة النفط الجزائرية سوناطراك لأزيد من ربع قرن. وتفوق الاستثمارات النفطية الأمريكيةبالجزائر 4 مليارات دولار، في أفق أن تصل في مطلع 4002، حسب الإحصائيات الرسمية إلى 8 مليارات دولار، على الرغم من أن التقرير الصادر عن كتابة الدولة الأمريكية لوضعية حقوق الإنسان لسنة 2000 انتقد بشدة الحكومة الجزائرية واعتبرها منتهكة بشكل كبير جدا لحقوق الإنسان، لكن إدارة واشنطن عندما تخير بين أن تضمن مصالحها وبين أن تدافع عن حقوق الإنسان فإنها تختار حماية مصالحها أولا وأخيرا. ومما يزيد من أهمية الاستثمارات النفطية الأمريكيةبالجزائر أن عددا من قادة واشنطن منهم من له صلة مباشرة بملف الصحراء المغربية، مازالت شركاتهم مرابطة بالجزائر للتنقيب عن النفط. ومع أن التقرير الأمريكي لسنة 2000 حول حقوق الإنسان تضمن انتقادات لاذعة للحكومة الجزائرية، فإن سفيرة أمريكا السابقة بالجزائر جانت ساندرسون قد طلبت من الكونغرس الأمريكي في أكتوبر 2000 توسيع التعاون السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي مع الجزائر، وتعود خلفيات هذه الدعوة إلى حرص واشنطن على تقزيم الدور الفرنسي بشمال إفريقيا ككل وفق مشروع كبير تطلق عليه واشنطن اسم مشروع الشراكة الأمريكية المغاربية. تعاون أمني استخباراتي بين الجزائروواشنطن أبدت الجزائر حماسا شديدا للمشروع الأمريكي الجديد القاضي بتحريك القوة العسكرية الأمريكية ضد ما أسمته بالإرهاب العالمي كنتيجة مباشرة لأحداث 11 شتنبر 2001، وقد بادرت الحكومة الجزائرية، في ما أعلن عنه الباحث يحيى أبو زكرياء، بطواعية منها، وفي تسابق مقيت للحصول على الرضى الأمريكي، إلى تقديم قائمة طويلة تضم 250 اسما لأشخاص مطلوبين للنظام الجزائري ويقيمون في الخارج، كما أن القوات الجزائرية الرسمية أعطت للإدارة الأمريكية انطباعات بأن أسامة بن لادن ليس بعيدا عن الأحداث الجزائرية. وقد عجلت أحداث 11 شتنبر 2001 بقيام تنسيق أمني جزائري أمريكي كانت أولى نتائجه اعتقال أحد مؤسسي الجبهة الإسلامية للإنقاد قمر الدين خربان في المغرب. وقد كان يقيم ببريطانيا كلاجئ سياسي ولديه تأشيرة مفتوحة لزيارة للمغرب وقد كان اعتقاله بطلب أمريكي ومساعدة جزائرية. كما كانت وزارة الخارجية الأمريكية قد أدرجت في وقت سابق "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" في قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، وهو نفس الوصف الذي سبق أن وصفت به الجماعة الإسلامية المسلحة". وتنتظر الجزائر من واشنطن دعما عسكريا ولوجستيكيا وغطاء سياسيا لحملة الإبادة التي تشنها السلطات الجزائرية ضد الجماعات المسلحة وخصوصا بعد أن أعلن مدير الأمن العام الجزائري علي التونسي أن التائبين الذين نزلوا من الجبال استفادة من قانون الوئام المدني كما أعلن عنه الرئيس الجزائري بوتفليقة، عادوا إليها. وحسب المتحمسين لضربات واسعة وشاملة للحركة الإسلامية الجزائرية فإن المسؤولين الجزائريين أصبحوا يتوفرون على الموافقة الأمريكية لذلك واقتنعوا بأن الظرف الآن مواتي لتساهم واشنطن في تخليص الأنظمة العربية من أعدائها في الداخل بما فيها النظام الجزائري، ومع ذلك فإن الجزائر لم تحصل لحد الآن على شيء عملي وملموس رغم مسارعتها إلى تقديم كل فروض الطاعة والولاء للإدارة الأمريكية من خلال تقديم كل ما لديها من ملفات أمنية لها. خلاصة إن صح ما كشف عنه بعض المسؤولين المقربين من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة من أن هذا الأخير سيرشح نفسه لولاية رئاسية جديدة. فهذا يعني استمرار التقاطب الأمريكي الفرنسي على الاستحواذ لا على الجزائر فحسب بل أيضا على شمال إفريقية. وينسجم الخيار الأمريكي مع أطروحة أمريكية تنص على إحقاق شراكة مغاربية أمريكية تستهدف سحب البساط بشكل كامل من فرنسا في المناطق المغاربية. وباريز التي تنظر إلى هذه التطورات باستياء أصبحت تدرك أن هوى النظم السياسية المغاربية بات أمريكيا ولربما سيزداد هذا الهوى رسوخا وتمكنا في الأنظمة العربية بعد الانتصار في الإطاحة بنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين. عبد الرحمان الخالدي