نعيش اليوم قصفا مريعا في ذروة ازدهار وسائل الإعلام بمختلف وسائطها خاصة البصرية منها حيث أصبحت قسم كبير منها آلة دعائية لتسويق وتلميع صورة أنظمة الحكم المستبدة والتي تعلوها طبقة ثخينة من الأحلام الوردية على أن هذا النظام أو داك هو حضن الأخ الأكبر الذي لا مفر منه إلا إليه بالنسبة للشعوب التي لا تملك إلا أن تسبح بحمده وتدور في فلكه إن هي رضيت بهذه ” القسمة والنصيب” على أنها جزيرة الخبر والأمن فهل تختزل الإنسانية في هذين (كسرة الخبز ودرع الأمن) ؟ وهل يعتبر الحاكم المستبد طوق النجاة أم نير الشقاء بالنسبة للشعوب المتطلعة إلى آفاق أرحب ؟ يبدو أن ابن خلدون قد نبه إلى النتائج الكارثية على المجتمعات المتعرضة لسلطة غير مقننة ..و أسميها “سلطة ما وراء القانون” يقول المؤرخ و عالم الاجتماع ابن خلدون “سلطة مطلقة يعني مفسدة مطلقة” انطلاقا من هذه الرؤية يمكن أن نكون صورة أشبه ما تكون بحيوان ” الهيدرا ” الخرافي (في الأسطورة الإغريقية كلما قطعوا له ذراعا نبثت له ألف ذراع) ونحن بصدد الحديث عن هذا الحاكم المستبد وكامل مكينته الدعائية ومؤسساته وعلاقة الكل بالمحكوم على أمره. صحيح أن بداخل كل واحد منا دكتاتورا في حالة انتظار لكن التاريخ يظهر صورتين رئيسيتين لقرد الدكتاتورية : _ طغاة قتالون / مقتولون تشاوسيسكو / موسوليني / صدام/ ...) _طغاة يحملون على ظهر” دابة عسكرية ” إلى قبورهم و أضرحتهم العظيمة لينين/ فرانكو/قبر الأسد في قرادحة /...) _القرد الثالث سيجد لنفسه مكانا بين المنزلتين ووجه الشبه بهما الضريح المشيد و الفكر القتيل. بذلك يكون طاغية هذا الصنف صاحب الوصية وصك العبودية حيث يعتبر زواجه بكرسي الحكم شركة عائلية ذات أصول دموية أو ما اسماه آتيين دي لا بواسييه ” عبودية مختارة ” هل حقا نختار أن نكون عبيدا بالولاء أو عبر صناديق الاختراع ؟ أليس الأمر سيان ؟ ألا نجد على رأس دواليب المؤسسات التابعة للنظام دكتاتورا صغيرا بربطة عنق أنيقة ؟ إزاء هذا الوضع المشلول يتم حقن وعي المريض العربي بأفكار ” قاتلة ” منتزعة من وسط غريب ونقلها بغير شروطها كما يقتل المريض بنقل الدم بزمرة مختلفة على حد التعبير ” مالك بن نبي” هكذا يسوق المستبد لصورته استنادا على ” فلسفة الباطل ” التي تقوم على التلاعب بالحقائق وتشويهها أو ما يسمى بفبركة المعلومات ( _ردع الديمقراطية_ تشومسكي ). لكنني أقولها بمرارة في الحلق وبنبرة قاسية ، قارسة قدت من صقيع الحقيقة : الديمقراطية أصبحت عندنا قرطا يزين أذن الحاكم ، تشنفه مزامير الدهماء والغوغاء والحاشية وجل خريجي مصانع تعليب العقل العربي المشرقي والمغربي على حد سواء . إن الحديث عن المستبد الحاكم والمحكوم الخاضع هو حديث عن عقل تمارس عليه سلطة العقل آخر مشبع بمرجعيات ، لذا لم يكن من الغريب أن يبحث هذا المستبد الحاكم عن ضالته خارج الحدود الجغرافية و الزمنية ، ويمكننا أن نحدد ثلاث مرجعيات للفكر السياسي العربي للطاغية العربي : - السياسة الفارسية الساسانية. - الحكم اليوناني الهلنستي . - التجربة العربية الإسلامية. ويبدو غريبا أن تتكرر العلاقة نفسها اليوم و التجارب السياسية الراهنة تجتر مرحلة الفكر السياسي ” السلطاني” حسب الجابري أو ” الملوكي” حسب ” الماوردي”. لا يمكن أن نفهم الأوضاع الراهنة للشعوب المستضعفة دون أن نقتنع أو نسلم جدلا بان حاكم اليوم أذاب المرجعيات الثلاث وألبسها حلة ” الأمير الميكيافلي ” بحيث صار حاكما إلى الأبد إذا وفقط إذا كان ” ماكرا كالثعلب ، دمويا كالأسد ، وعليه أن يقتل بدون تردد مثل الذئب ” وكأن الشعب في كل هذا السياق غوطة فيحاء !! أو كما عبر عنه حسنين هيكل : “مستبد البارحة قرأ تعاليم ” أردشير ” وليا للعهد وطبقه ملكا , ومستبدوا اليوم قرؤوا ” الأمير ” أمراء وطبقوه ملوكا” . فلا عجب إذن إن لم يكن العجب كله استعداد كلاب الشرطة لمطاردة ” فكر الأنوار ” عن طريق من منظومة متكاملة من الحيطان اللاقطة لذبيب النمل في تلاوة خاشعة لسفر الأمير. والمثير للعجب أن تتفتق ألمعية البعض بمحاولة بل بنسبة هذا التقهقر الحاصل إلى العامل الديني ونحن لا ننكر أهمية هذا العامل لكننا نستنكر القيام بمقاربة يعزوها الرهاب وسبل الاستئصال و كأن الأمر يتعلق بالقاعدة الحجرية أقتل المرض بقتل المريض فهل يصح ذالك!!! القول بأن الطغيان هو نتاج سلطة في شقها دينية ( الجبت والطاغوت / السياسي والديني) قول يعود ليضرب كالسيف المرتد إذا ما علمنا بان الربط بين الديمقراطية و العلمانية ليس حتميا بالضرورة بل إن أكثر أنظمة الحكم العربي علمانية تعتبر الأقل ديمقراطية بين دول العالم ( نموذج : تونس / ليبيا ) ونمضي قدما ونقول أن العلمانية اتخذت منحى التطرف القمعي و الاقصائي) نموذج تركيا على عهد كمال أتاتورك الذي صعد إلى السلطة بانقلاب عسكري و قام بسحق الأكراد العسكر) لذا فمحاولة نسبة الانجازات إلى العلمانية فيه حيف موضوعي كثير وطرح فيه الكثير من الوثوقية السطحية والتغليط. وبالتالي يمكن القول بان الديني والعلماني ليسا سوى أحد العناصر الخاضعة لعملية الشد والجدب بين الحاكم والمحكوم وإلا لماذا يختار العديد من المفكرين غير المساومين على مبادئهم دولا حاضنة تحمي أفكارهم وأرواحهم بل وتتآلف بداخلها مجموع العناصر المتنافرة أيديولوجيا على نحو مثير للدهشة بحيث يثري ويلهم مجتمعاتها ومؤسساتها ( تركيا بقيادة حزب إسلامي / كندا العلمانية / يوكوتان / وبعض الدول الاسكندنافية...) في ( عالمنا ) العربي وفي أرض الكنانة الرئيس مبارك الذي قام بالتعديلات الدستورية وهيأ المناخ اللازم له في حله وترحاله بتقديم ابنه جمال مبارك إلى العالم على انه خليفته على ملك مصر العظيمة في نشاز عز نظيره وأسس الديمقراطية التي تمنح الشعب المصري حق تقرير مصيره عبر انتخابات نزيهة وعن طريق حرية التعبير و بالمناسبة هنيئا لمنابر الإعلام والصحف المكممة التي يعتبرها نظام مبارك هجامين ولطامين يبحثون عن جنازة ! لكن مهلا لقد دشن معاوية بن أبي سفيان ” مشروع” التوريث العربي السياسي فحمله الناس على كتفي الخوف من الفراغ السياسي والفتنة أما مؤسسة الطوارئ فهي عتيقة منذ أيام ” يزيد ” و ” الحجاج ” .... وهنا أطرح السؤال البالوعة لهذه الأزمة الخانقة ، هل نشهد جيلا جديدا من أنظمة دكتاتورية في طور التشكل لخلافة أنظمة كليانية ضمرت عضلاتها إزاء الحنق الشعبي المتصاعد تجاه أوضاعه الكارثية ؟ . هل تصنع الدكتاتورية بأعيننا وبوحي منا ؟ ليس جمال مبارك إلا أحد هؤلاء وليس سيف الإسلام نجل القدافي آخرهم ولسنا نبالغ إن قلنا بان نجل العقيد كان أكثرهم تطلعا إلى ارث إمبراطورية النفط الليبي وذاك بانخراطه في عدة أنشطة تضمن له صورة ” الشاب الصالح” القادر على الإصلاح وليس دخوله إلى خط المصالحة مع المعتقلين الإسلاميين سوى احد أوجه الدعاية الرئاسية التي تخدم مصالح النظام في آخر الأمر . الأمثلة كثيرة على هذا الخطر القادم من ” صحن الدار ” كوريا الشمالية بدورها تتطلع إلى رئيس جديد يخلف الدكتاتور الشيوعي كيم جون آيل وفي الصورة يوارى اشد معارضي الرئيس وذاك بعد الترقيات العسكرية لنجله كيم جون اون_ وهو ابن السابعة والعشرين _ ! استعدادا لمراسيم التوريث الكلياني. إذا كانت الترجمة إلى أكثر من لغة للفتوى التالية :طول''البقاء في الحكم يعني مزيدا من الحكمة ‘' متوفرة على ارض المسكونة. فماذا عن محنة الديمقراطية ؟ الإجابة عن هذا السؤال بالنسبة للنسخة العربية يمكن الرجوع إليها في نسختها الأصلية خلف القضبان هناك حيث يقبع 70 % من المعتقلين السياسيين في السجون العربية لا لشيء سوى أنهم سجناء فكر وما بالك لو علمت بان 80 % من هؤلاء يتعرضون للتعذيب والخنق والفلق و السحل في أقبية المخابرات حيث يصل إليها هؤلاء المعارضون مثل أي بريد مضمون من الدول الغربية التي يخدم مصالحها هذا الوضع الراهن. نحن لا نطلب من هؤلاء الحكام أن ينتحوا جانبا للعب الشطرنج أو بإمضاء بعض الوقت مع أبنائهم وأحفادهم أو الانتظار في طوابير المستشفيات العمومية أوتحديد رواتب لهم بحجم راتب أستاذ جامعي... فقط رجاء أتموا ولايتكم ودعونا ندبر شؤوننا بأنفسنا وعبر صناديق شفافة من فضلكم. هل هذا كثير؟ بقلم: معاذ ذهيبة