دنيا بريس تحاور الباحث الاسلامي الدكتور أحمد بو عشرين ألانصاري ( الجزء الثاني والاخير ) س6: بعد المحاكمة القاسية في حق المعتقلين الخمسة ما قراءتك لملف عبد القادر بلعيرج بعد هذه المحاكمة؟ ج6: سؤالكم يحيلنا إلى التذكير بالسياق، والسياق جزء من فهم ما جرى وما يجري، ويجلي بوضوح الجوهر من التفاصيل، ينبغي أن لا ننسى أن تدبير قضية ما سمي بخلية بليرج جاءت في سياق تاريخي أهم وقائعه مهزلة انتخابات شتنبر 2007، ونسبة المشاركة المتدنية التي أسفرت عنها والتي كانت بمثابة الصفعة التي تلقتها الجهات الرسمية، مما دل على أن ثمة فراغ سياسي قاتل، وينبغي أن لا ننسى أيضا أن الإعلان عن هذه “الخلية” جاء بعد المحنة التي عاشها حزب الأمة مع السلطات، والإرباك الذي أحدثه الإعلان عن تأسيسه في قلب الإعداد الرسمي لانتخابات شتنبر 2007، وشبه الإجماع الذي حققه في التضامن مع محنة حرمانه من التنظيم حين شكلت لجنة وطنية تضم جل الفعاليات السياسية والحقوقية و الجمعوية والمدنية للتضامن معه، والحضور الإعلامي اللافت له وللتعريف بمظلوميته، وإصرار مؤسسيه على المضي قدما في الالتزام بمقتضيات القانون الذي أرادت الجهات الرسمية أن تخترقه بتلكؤها في إعطائه وصل الإيداع وإشعار المطابقة القانونية ، وذلك بالإعلان عن عقد المؤتمر التأسيسي الذي عرف حضورا مكثفا لمناضليه ومؤسسيه، وينبغي أن لا ننسى أن القضاء الإداري في مرحلته الابتدائية أصدر حكمه بقبول دعوى الداخلية بإبطال تأسيس الحزب بعد الإعلان بمدة قصيرة عن اعتقال أعضاء ما سمي ب”خلية بليرج”، وينبغي أن لا ننسى الطريقة التي تم الإعلان فيها عن تفكيك هذه الخلية من خلال الرواية الرسمية التي ذكرت وقائع وأحداث وأسماء بعينها في الندوة الصحفية التي عقدها لوزير الداخلية، وكان ذلك بداية لخرق سرية البحث التمهيدي وإعلان صكوك الاتهامات قبل حتى انطلاق مسلسل التحقيق التفصيلي مع قاضي التحقيق، ونقل ذلك عبر شاشات الإعلام الرسمي، كل ذلك سياق لابد منه للوقوف على حقيقة هذا الملف وخلفياته، بالطبع مجريات المحاكمة كانت بإجماع كل الفعاليات الحقوقية المعتبرة وطنيا وكذلك دوليا تفتقد للحدود الدنيا من شروط المحاكمة العادلة، بدءا من مجريات الاعتقال وظروفه التي صرح جل المعتقلين أنها كانت منافية للقانون (اختطاف، اعتقال تعسفي، تعذيب...)، ومرورا من مرحلة تحقيق البحث التمهيدي وقضية تزوير نسخ محاضر الضابطة القضائية، ثم إفشاء سر هذا البحث التمهيدي، سواء بإخراجه إلى الإعلام الرسمي أو باعتباره أساسا للرواية الرسمية لوزارة الداخلية من خلال الندوة الصحفية الشهيرة التي عقدها وزير الداخلية شكيب بنموسى في اليوم الموالي لإذاعة خبر الكشف عن هذه الخلية، واعتقال القيادات السياسية ذ.محمد المرواني (أمين عام حزب الأمة) و ذ. مصطفى المعتصم (أمين عام حزب البديل الحضاري) و ذ. عبد الحفيظ السريتي (مراسل قناة المنار بالمغرب) وذ. الامين الركالة (الناطق الرسمي لحزب البديل الحضاري) وذ.العبادلة ماء العينين (عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية) و ذ.حميد نجيبي (عضو الحزب الاشتراكي الموحد)، وأعلن فيها عن أسماء بعينها وعن تفاصيل مخطط هذه الخلية حسب ادعائه وكان ذلك منقولا مباشرة عبر شاشات الإعلام العمومي المرئي ، وما تلا ذلك من تهديدات رسمية من مغبة تكذيب هذه الرواية الرسمية، ثم أثناء انطلاق الاستنطاق التفصيلي ومحنة الدفاع مع عدم تمكنه من الحصول على نسخ من محاضر الضابطة القضائية بعدما رفض قاضي التحقيق ذلك، ثم بانطلاق أطوار المحاكمة بناء على محاضر البحث التمهيدي المسجل لدى الضابطة القضائية والذي تبين في أطوار المحاكمة أنه شمله التزوير الفاضح للترتيب الأمني المدبر لهؤلاء المعتقلين، ثم مع المحاكمة كان رفض أغلب الدفوعات الشكلية التي تقدم بها دفاع المتهمين، ثم مع مرافعات الدفاع والمعتقلين التي أوضحت بجلاء المؤامرة المدبرة ضد هؤلاء المعتقلين، (فضيحة متجر ماكرو التي اتهم فيها الأستاذ محمد المرواني ضمن لائحة الاتهامات الموجهة إليه، بينما هي قضية محكومة أدين أصحابها واعتقلوا، حيث أكد ذ.محمد المرواني أمام المحكمة بأن المحاضر تنسب إليه التخطيط لمحاولة الهجوم على متجر ”ماكرو” بالدار البيضاء، في حين أن هناك بلاغات صادرة عن وكالة المغرب العربي للأنباء، تؤكد بأن المتورطين في الاعتداء الذي عرفه فندق أطلس آسني سنة 1994 وكذا متجر ماكرو بالدار البيضاء قد اعتقلوا وأحيلوا على القضاء، فضيحة الأسلحة المعروضة بدون ختم رسمي، ورفض المحكمة طلب هيئة الدفاع بمعاينتها بعدما لاحظ الدفاع أنها مختلفة عن الأسلحة التي عرضت في شاشات الإعلام الرسمي إبان الإعلان عن الكشف عن “خلية بليرج” حسب ادعاء وزارة الداخلية، ...)، كل هذه تفاصيل في تقديري هي ذات أهمية لأنها تظهر بجلاء فضائح هذه المحاكمة والتي تمكن الدفاع والمعتقلين في مرافعاتهم من كشفها وتجليتها، وهي تفاصيل على أهميتها لإبراز مظلومية هؤلاء المعتقلين السياسيين، ينبغي في نظري أن تظل منشدة إلى جوهر القضية وخلفياتها من أجل فهم الحقيقة، والحقيقة هي أن هذه القضية هي سياسية بامتياز، فلقد أراد مدبرو المرحلة الرسميين أن تكون المشاركة في انتخابات 2007 مشاركة سياسية على مقاس مضبوط سلفا، وهذا يتناقض مع خطاب التحفيز على المشاركة، فمنعت أحزاب من حقها في التنظيم والمشاركة السياسية، ويمثل حزب الأمة مثالا صارخا على ذلك، وهذه إحدى مفارقات الزمن السياسي المغربي، وبعد مهزلة انتخابات شتنبر 2007، ونسبة المشاركة المتدنية التي أسفرت عنها والتي كانت بمثابة الصفعة التي تلقاها مدبرو هذه المرحلة، مما دل على أن ثمة فراغ سياسي قاتل، ، توجهت هذه النزعة الارتدادية عن الديمقراطية التي يمثلها مدبرو هذه المرحلة بمشروع ظاهره سياسي من أجل ملأ هذا الفراغ الذي كشفت عنه مهزلة انتخابات شتنبر 2007، وباطنه إقصائي وأمني وتحكمي، وبالطبع، ومن أجل إقصاء غير المرغوب فيهم في صناعة المشهد السياسي، كان اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة (تهميش، حرمان من التأسيس، تأليب إعلامي، ثم اعتقال واتهامات باطلة)، وظل هاجس تغليب المقاربة الأمنية حاضرا رسميا، وكلما كانت إرادة فتية من داخل دواليب الدولة تنمو رسميا في الانفتاح الديمقراطي، إلا ويتم إجهاضها بالإعلاء من شأن المقاربة الأمنية وصناعة الخوف عبر الحديث عن ضرورة اليقظة الأمنية لمحاربة “خلايا الإرهاب” ولتفكيكها، وبالتالي أعطت هذه المقاربة الأمنية مصوغا للانتهاكات الحقوقية و لاستمرار مسلسل الاختطافات، هذه النزعة التي تعلي من شأن المقاربة الأمنية وتخترق في نفس الآن مجال السياسة بعناوين سياسية، تحلم بمشهد فيه أقطاب على المقاس، و بأحزاب على المقاس، وبأحزاب محافظة تحت الرقابة ومحدد مجال اشتغالها على المقاس، بخلاصة تريد مغربا على مقاسها، وهي تريد تقاربا وتقاطبا سياسيا يتصدى لكل محاولة لبناء أقطاب تعزز مسيرة الإصلاحات الأساسية وعلى رأسها الإصلاحات الدستورية والسياسية، -ولهذا لا نبالغ حين ندعي أن حزب الأمة كان مطلوبا منعه وتهميشه واعتقال أمينه العام، باعتباره يمثل توجها سياسيا إسلاميا نال شبه إجماع وهو من دعاة التقارب الإسلامي اليساري على قاعدة برنامجية يمثل مطلب الإصلاحات الدستورية والسياسية إحدى ركائزها-، هذه النزعة تريد عناوين “إصلاحية” في شعاراتها ولكنها ملتفة على أجندة الإصلاحات المؤجلة، عناوين “إصلاحية” تعلي من شأن “الحكامة الجيدة” بدون مضمون سياسي ودستوري تتحدد فيه المسؤوليات وتتجلى فيه المحاسبة لكل من له مسؤولية، ولكي يتحقق لها ذلك كان التدبير والترتيب الأمنيين يقضيان بهذا السيناريو، سيناريو بدأ من معانات الحرمان من الحق في التنظيم أو التضييق على كل شريف يشتغل بأجندة مستقلة، وينتهي بالمحاكمات غير العادلة والتشهير المغرض للشرفاء وللأصوات الحرة والمستقلة، وبينهما عبث سياسي وتفاهات سياسية تعطي انطباعا مزيفا بأنه ثمة حراك سياسي، والحقيقة أنه ثمة تدبير مرتب أمنيا ولا صوت يعلو فوق صوته. س7: ما هي قراءتك لكتاب الأخطاء الستة للحركات الإسلامية بالمغرب لفضيلة العلامة فريد الأنصاري رحمه الله ؟ ج7: في تقدري الذي يريد أن يفهم هذا الكتاب، عليه أن يطلع على المشروع العام الذي تقدم به الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله عبر كتبه وإصداراته، فلا يمكن أن نفهم أقوال وأحكام الشيخ فريد الأنصاري رحمة الله عليه بدون ربطها بتصوره العام الذي أسس له، والذي تشكل مؤلفاته الأخيرة حصيلة شاملة لخلاصاتها، بدءا بكتاب “الفجور السياسي” والذي شخص فيه بعناية بالغة ما آل إليه المشهد القيمي والأخلاقي للمجتمع، حيث نبه إلى خطورة الفجور السياسي الراهن باعتباره “فسق مشتهر” مختلف بالطبيعة عن الفجور الطبيعي، فإذا كان الفجور الطبيعي هو “استجابة للرغبة الذاتية الحيوانية للفساد بصورة مستهترة، وانحراف قوي مع داعي الهوى في تلبية الشهوات”، فالفجور السياسي أخطر من حيث قوة تأثيره وطبيعته المتعدية فهو ” لا يقصد إلى إشهار الفساد في المجتمع فحسب ولكنه يرمي بذلك إلى محاصرة قوى الخير منه والقضاء على (حاسة النقد) الضمير الاجتماعي” على حد تعبر الشيخ فريد الأنصاري رحمه الله. ذلك أنه يعتبر حسب منظور شيخنا رحمة الله عليه “إيديولوجية لحماية الوضع الفاسد وضمان استمراره واتساع رقعته وتعميق جذوره في المجتمع”، ثم مرورا إلى كتابه “مجالس القرآن” الذي كان بمثابة الخطة العملية التي يقترحها شيخنا الفاضل لإعادة الارتباط بالقرآن تدارسا وتدبرا مع حصول التزكية التي هي غاية هذا التلقي، ثم بكتابه “الفطرية” يكون قد أتم مجملا مشروعه التصوري في الإصلاح، فكان دفاعه المستميت على اعتماد الفطرية منهجا إصلاحيا عاما، إذ هي كما عرفها شيخنا رحمة الله عليه: ” عملية إصلاحية وجدانية، تقوم أساسا على تصحيح ما فسد من فطرة الإنسان، المجبول أصلا على إخلاص التوحيد، وإصلاح ما أصابها من تشوهات تصورية وسلوكية، في شتى امتداداتها العمرانية”، وجعل حدها في : “إقامة الوجه للدين حنيفا، خالصا لله، وذلك بمكابدة القرآن ومجاهدة النفس به تلقيا وبلاغا، قصد إخراجها من تشوهات الهوى إلى هدى الدين القيم، ومن ظلمات الضلال إلى نور العلم بالله” والأستاذ الفاضل بتقعيده للفطرية بما هي “عملية إصلاحية وجدانية، تقوم أساسا على تصحيح ما فسد من فطرة الإنسان”، فإنه يذكر بالأبجديات الأولى التي من أجلها كانت الدعوة إلى الله، وعلى أساسها انطلق العمل الإسلامي عموما، إذن من هذا المنظور الواسع الذي يتضح فيه تصوره يمكن أن نؤطر أفكاره وأقواله، فالشيخ فريد الأنصاري لا ينبغي أن تختزل أفكاره في كتاب “الأخطاء الستة...” على الرغم من حدة الخطاب النقدي الذي شمله هذا الكتاب، والذي لست من الذين حبذوا أن ينشر بهذه الحدة، لكن يبقى فضل الشيخ فريد الأنصاري كبير في الدعوة وفي التحريض عليها، وفي إيقاظ الهمم، على الرغم من الاختلاف معه أحيانا، وأحسب أن تقويمنا لخطابه ومساره رحمة الله عليه ينبغي أن يظل منشدا إلى المنهج الإسلامي في التقويم الذي يحض على أن نذوب بعض “الفلتات” في بحر حسنات الشيخ الفاضل رحمة الله عليه. س8: كلمة أخيرة ؟ ج12: أشكركم على استضافتكم لي في هذا الحوار وأتمنى أن أكون قد أشفيت شيئا من غليلكم، وأتمنى لكم التوفيق من الله في مسيرتكم الإعلامية، أريد أن أقول في آخر هذا المقام، أن البعض أرادها فوكوياما مغربية حيث نهاية التاريخ السياسي المغربي باستواء الظلم على سوقه، ونحن في عقيدتنا التاريخ جولات، والأيام دول، والتدافع المدني السلمي سلاحنا الاستراتيجي في دفع هذا الظلم حتى يفرق الله بيننا وبين معسكر الظلم والاستبداد والتخلف... (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) آل عمران آيات138و139و140، (وَلَوْلا دفاع اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الحج 35 أي: لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف. تفسير ابن كثير. أجرى معه الحوار : عبدالجليل ادريوش / دنيا بريس [email protected]