صاحب انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية آراء كثيرة من قبل الباحثين والمتخصصين في شؤون السياسة الدولية، محاولة منهم إبراز مدى تأثير نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية على الساحة السياسية الدولية والوطنية. وعرفت هذه الآراء ووجهات النظر المطروحة تباينا في تقدير الآثار السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة عن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فذهب البعض إلى اعتبار عودته مجرد عملية قديمة/ جديدة، لن تخرج عن نطاق إعادة إنتاج الشعبوية التي طبعت ولايته الأولى، المتجلية في أغلب خطاباته وخرجاته الإعلامية وفي بعض سلوكاته الغريبة التي وصفت ب"البهلوانية" في أكثر من مناسبة. فيما استحسن البعض الآخر انتخاب ترامب على رأس الولاياتالمتحدةالأمريكية، وداستقبلوا الإعلان عن فوزه بحماس زائد بلغ حد الغبطة والابتهاج، مع الاعتقاد والتوهم بأن دخوله إلى البيت الأبيض مجددا سيكون بعصى سحرية يضرب بها على الأزمات السياسة الكبرى فتنفلق أمامه طرق الحل والتسوية في لمح البصر. كثيرة هي القراءات السياسية التي يقدمها المبتهجون بفوز ترامب، سواء أثناء العملية الانتخابية أو بعد نيله كرسي الرئاسة، من قبيل؛ أن وصوله إلى البيت الأبيض سيعجل بإيقاف الحرب في كل من أوكرانيا، وفلسطين، ولبنان... وسيعمل على نشر الحد الأدنى من السلام في العالم. وليس من شك أن المدافعون عن هذا الطرح يدعمون رأيهم بالاعتقاد أن شخصية ترامب وسياسته في الحكم تنتصر فيهما النزعة الاقتصادية على النزعة العسكرية، الأمر الذي يجعل منه رئيسا فريدا للولايات المتحدة! له قدرة الدفاع عن مصالح بلاده وحلفائه دون اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية، عكس ما كان معروفا على رؤساء الولاياتالمتحدة السابقين. أما على صعيد انعكاس نتائج الانتخابات الأمريكية على السياسة الخارجية المغربية، فقد ذهب أغلب المحللين والمتخصصين إلى رسم صورة إيجابية حول مستقبل العلاقات المغربية الأمريكية خلال ولاية ترامب الثانية، وخاصة في جانبها المتعلق بقضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية، مدافعين عن هذا التوقع بحجة اعتراف الولاياتالمتحدة بمغربية الصحراء خلال ولاية ترامب السابقة.
دوافع السياسة الخارجية الأمريكية تقوم السياسة الخارجية الأمريكية، على مبدأين أساسيين؛ نشر القيم الأمريكية/ الليبيرالية القائمة على تحرير السوق الاقتصادية، وتعزيز مصالحها في مناطق نفوذها حول العالم. ويسعى رؤساء الولاياتالمتحدةالأمريكية وراء تنزيل وتحقيق هذين المبدأين على أرض الواقع بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والحزبية، سواء كانوا جمهوريين أو ديموقراطيين. الأمر الذي يجعلنا ندرك أن الإطار العام الذي تتحرك فيه السياسة الخارجية الأمريكية القائم على استراتيجية حماية الأمن القومي، لا يمكن أن يختلف عليه الرؤساء المتعاقبون على البيت الأبيض مهما بدت الاختلافات في شخصياتهم، وتقديراتهم، ونهجهم، وتصورات وبرامج أحزابهم. ومن ثم فالسياسة الخارجية الأمريكية تصنع في إطار مؤسسي، وعملية صناعتها ليست مرتبطة برئيس أو بآخر، ولا بتصور وبرنامج الحزبين، اللهم إذا استثنينا نهج وطريقة توجيه هذه السياسة نحو الخارج، ففي هذه الحالة يمكن أن يتمتع الحزب الحاكم أو الرئيس المنتخب بصلاحية تنفيذها بالطريقة التي يراها مناسبة. وللحديث عن مأسسة السياسة الخارجية الأمريكية لابد أن نستحضر تأثير اللوبيات الاقتصادية أو جماعات الضغط في صنع القرار، حيث لا يمكن الفصل بين صناعة السياسة الخارجية والوضع الداخلي، ولأن السياسات الأمريكية تركز كثيرا على القضايا المحلية، فهي بذلك تراعي مصالح هذه الجماعات، نظرا للدور الفعال الذي تلعبه في دعم العديد من القضايا الداخلية وخاصة تلك المتعلقة بالأمن الاقتصادي، إلى جانب تأثيرها الكبير في العمليات الانتخابية عبر تمويل حملات المرشحين مقابل تعزيز مكانتها وتمرير قوانين أو تعطيلها بما يخدم مصالحها.
ترامب والحرب ترددت في الآونة الأخيرة على مسامعنا مقولة فضفاضة، فيها من الطوباوية الشيء الكثير، يطغى عليها التحليل الجامد لدينامية الإدارة الأمريكية في صنع القرار السياسي الخارجي؛ "ترامب ذو نزعة اقتصادية ويستبعد الحلول العسكرية"، ويستقر معنى هذه اللازمة في اعتبار ترامب رجل الصفقات والتسويات الاقتصادية على حساب الحلول العسكرية، الأمر الذي يجعل نظرته إلى العلاقات الدولية تقوم على الصفقات وجني الأرباح مثلما يفكر أي مستثمر أو رجل أعمال، مما يسمح له بتجنب كل ما من شأنه أن يستنزف دولته ماليا واقتصاديا، مقابل عمله على ضمان المصالح الاقتصادية والتجارية مع شركاء الولاياتالمتحدة بتعزيز المبادلات التجارية والبحث عن صفقات جديدة تعود بالنفع على الداخل الأمريكي. ينطلق هذا التحليل من السياسة التي اعتمدها ترامب خلال ولايته الرئاسية السابقة، التي طبعتها الصفقات الاقتصادية وقلت فيها النزاعات أو التدخلات العسكرية، وتجلت سياسته هذه في الوساطة التي قام بها لإبرام اتفاقات أبراهام بين إسرائيل ومجموعة من الدول العربية/الإسلامية. لا نختلف على كون ترامب رجل أعمال يفكر بمنطق الربح والخسارة، ويستعمل في ذلك أساليبه المعهودة لضمان مصالحه ومصالح دولته، كالابتزاز والتهديد.. بل وصل به الأمر إلى توجيه خطاب الإهانة والتبخيس بشكل مباشر إلى بعض الدول أو إلى زعمائها. وفي هذا الصدد قد يطيب لنا القول، بأن ترامب دخل ولايته السابقة رافعا شعار: "المال مقابل الاستقرار والسلام" في وجه الدول التي يسعى وراء ثرواتها، أو تلك التي يرى بأنه قادر على زعزعة استقراراها. لكن واقع الأمر، أن السياسة الأمريكية لا تحكمها النزعات الفردية أو الميولات الشخصية لرؤسائها، فحتى وإن تجلت لنا في بعض الخطابات والقرارات السياسية، فإنها لا تعبر في غالب الأحيان عن الإطار العام للسياسة الأمريكية واستراتيجية أمنها القومي. إذن، فصناعة السياسة الأمريكية، الداخلية والخارجية، لا ينفرد بها الرئيس وإدارته، وإن كان واحدا من صناعها، وإنما يجتمع فيها الكثير من المتدخلين، إن لم نقل شبكة معقدة من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الدولة، ومعها الرأي العام الأمريكي. الكثير من يعقد الأمل على دونالد ترامب بشأن وقف الحرب التي تشنها إسرائيل على فلسطين ولبنان وكذا الحرب الروسية الأكرانية، معززين أملهم في ذلك بما ذكرناه سابقا، ومحاولين إسقاط السياسة "الترامبية" التي نهجها في ولايته السابقة على الولاية الحالية. لكن دعونا نطرح سؤالا في غاية البساطة، لو أن هجوم السابع من أكتوبر الذي شنته حركة حماس على إسرائيل وقع في عهد ولاية ترامب الأولى، هل كان بمقدور ترامب أن يمنع الحرب الإسرائيلية على فلسطين ولبنان؟ أو بتعبير آخر، هل كان ترامب سيستمر في نفس النهج الذي يُعقد عليه الأمل اليوم لإيقاف هذه الحرب؟ يبدو لي أن الإجابة على هذا السؤال بديهية، لأن الحرب الدائرة اليوم في كل من فلسطين ولبنان وأوكرانيا، كان لابد من وقوعها في هذه الفترة التاريخية بالذات، لاعتبارات يفرضها منطق التحولات الجيوسياسية التي تطرأ على كل مرحلة تاريخية، سواء بوجود جو بايدن على رأس الولاياتالمتحدة أو ترامب أو أي رئيس آخر. وبالتالي، فالمنطق السليم يحتم علينا تجنب الخلط بين شخص الرئيس وميولاته وبين الأهداف والتوجهات الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، كما لا تجب المماثلة بين ولايتين رئاسيتين في مرحلتين مختلفتين، وإن كانت من نصيب نفس الرئيس، مع ضرورة استحضار التحولات الجيوسياسية التي تستجد في كل مرحلة تاريخية، أو في كل ولاية رئاسية للولايات المتحدة.
العلاقات المغربية الأمريكية في عهد ترامب تميزت العلاقات المغربية الأمريكية بالانفتاح والتقارب عبر التاريخ، فمنذ استقلال الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ واعتراف السلطان المغربي محمد بن عبد الله سنة 1977 باستقلالها والسيادة على أراضيها، توطدت هذه العلاقات مما أسفر عن إبرام معاهدات عديدة مثل معاهدة السلام والصداقة بين البلدين، وعدة اتفاقات تهم التعاون في المجالات التجارية والعسكرية والدبلوماسية... ومع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض خلال ولايته الأولى سنة 2017، توطدت العلاقات المغربية الأمريكية أكثر وعرفت تقاربا كبيرا نتج عنه اعتراف الولاياتالمتحدة سنة 2020 بسيادة المغرب على الصحراء، وأكد الرئيس ترامب في هذا الخصوص أن "اقتراح المغرب الجاد والواقعي للحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لحل عادل ودائم لتحقيق السلام الدائم والازدهار في المنطقة"، كما حث أطراف الصراع على الدخول في مناقشات دون إبطاء على أساس خطة المغرب للحكم الذاتي كإطار للتفاوض. وبعد نهاية ولاية ترامب ودخول جو بايدن إلى البيت الأبيض ظل موقف الإدارة الأمريكية من قضية الصحراء قائما كما أعلنه ترامب، لكن دون استكمال ما وعد به بخصوص فتح القنصلية الأمريكية بمدينة الداخلة. أما بعودة ترامب إلى البيت الأبيض، فقد تزايدت التوقعات حول تعزيز الموقف الأمريكي من قضية الصحراء، بما في ذلك الوفاء بوعده المتعلق بفتح القنصلية الأمريكية في مدينة الداخلة، وهو ما يراهن عليه المتفائلين بفوز ترامب من أجل توسيع دائرة الاعتراف بمغربية الصحراء. وفي حال تقدم الموقف الأمريكي فمن المرجح أن يدفع ذلك دولا أخرى وازنة لتحذو حذو الولاياتالمتحدة للاعتراف بسيادة المغرب على الأقاليم الجنوبية، عبر تكثيف الجهود الدبلوماسية للمملكة المغربية، وبدعم من البيت الأبيض، بهدف الوصول إلى حل نهائي لهذا النزاع.
تحرك الدبلوماسية المغربية بين فرنساوالولاياتالمتحدة لابد من الإشارة إلى مسألة مهمة، وهي أن التقارب الحاصل بين المملكة المغربية والولاياتالمتحدةالأمريكية، جاء في مرحلة عرفت فيها العلاقات المغربية الفرنسية أزمة سياسية بسبب تذبذب الموقف الفرنسي وعدم وضوحه اتجاه قضية الصحراء، الأمر الذي جعل الخطاب الدبلوماسي المغربي يطالب أكثر من مرة بخروج شركائه من المنطقة الرمادية بالإعلان عن موقف واضح ومتقدم من سيادة المغرب على الصحراء، معتبرا موقف الدول من قضية الصحراء هو المحدد الأساسي في اختيار المملكة المغربية لشركائها وحلفائها. فهل استغلت الولاياتالمتحدة هذه الأزمة للتقرب من المملكة المغربية؟ ولم تلبث الأزمة التي عكرت صفو العلاقات المغربية الفرنسية أن عرفت انفراجا أعادها إلى سابق عهدها، بل توطدت بشكل أعمق من السابق بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المملكة المغربية، واعترافه الصريح بمغربية الصحراء وسيادة المغرب على كل أراضيه. وهنا يمكن أن نعترف بنجاح الدبلوماسية المغربية في إخراج الموقف الفرنسي من منطقة اللاموقف واللاوضوح إلى الموقف الواضح والمتقدم. إن عودة الدفء إلى العلاقات المغربية الفرنسية يفتح لنا باب التساؤل عن مستقبل العلاقات المغربية الأمريكية، حول ما إذا كان ترامب سيكمل ما بدأه في ولايته السابقة بخصوص اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء، بالعمل على دعم هذا الاعتراف بفتح القنصلية الأمريكية بمدينة الداخلة، وبتعبئة رجال الأعمال الأمريكيين للاستثمار في المناطق الجنوبية؟ وحول مدى استعداده للدفاع عن الموقف في المحافل الدولية وحشد الدعم للاعتراف بمغربية الصحراء في إطار مقترح المغرب للحكم الذاتي؟ أم أن التقارب المغربي الفرنسي، والحرب الإسرائيلية على فلسطين ولبنان، سيحول دون أن تعرف العلاقات المغربية الأمريكية أي تقدم يذكر؟ وختاما، هل يسمح منطق "الدولة الأكثر رعاية" للسياسة الخارجية الأمريكية والفرنسية بأن يكون المغرب شريكا وحليفا لهما في نفس الوقت ومن نفس الموقع؟ محمد شاكر/ باحث في العلاقات الدولية