يحتاج الانزعاج المغربي من أمريكا إلى وضعه في إطار معين، لذلك لجأنا إلى الكاتب والباحث عبد الصمد بلكبير بحثا عن تفسير لحالة الارتباك غير الظاهرة التي تُخَيم على علاقات الرباطوواشنطن، والتي تختفي في ضحكات بوريطة عند لقائه بنظيره بلينكن، وتظهر في ردود الفعل التي يعبر عنها المسؤولون المغاربة عندما يخلعون ثوب الرسمية.
وفي هذا الإطار، غاص بلكبير في التناقضات الداخلية الأمريكية المؤثرة في سياستها الخارجية قبل أن يستشرف مآل القرار الأمريكي التاريخي بالاعتراف بمغربية الصحراء.
لاشك أنك تتابع عن كثب تطورات العلاقات المغربية الأمريكية في ضوء التزامات واشنطن بالاتفاق الثلاثي الموقع في دجنبر 2020، فباستحضار ما جاء في خرجة مندوب السجون محمد التامك الأخيرة حول علاقات الرباطبواشنطن والتي يرى البعض أنها تعبير عن مِزَاجِ الدولة المغربية بالنظر إلى حساسية منصبه، هل يمكن القول إن هناك انزعاجا مغربيا من تلكؤ الإدارة الأمريكية في الوفاء بالتزاماتها؟ وهل نحن إزاء حالة من الارتباك في علاقات البلدين؟
هناك ظاهرة تميز السياسة الخارجية الأمريكية، يَصِفها عدد من المتتبعين والمحللين ب»الارتباك»، لكني أعتبر أن الأمر يتجاوز حدود الارتباك ويصل إلى حد التناقض والصراع داخل الدولة الأمريكية، ذلك أن كثيرين لا ينتبهون عند تحليلهم للوضع الداخلي الأمريكي إلى حقيقة أن أدوات التحليل والمفاهيم التي تنطبق على الدول الوطنية لا تنطبق على الولاياتالمتحدةالأمريكية، لأنها ببساطة دولة قومية وعولمية في نفس الوقت، وبالتالي لا يمكن أن تنطبق عليها القاعدة العامة التي تنطلق من أن السياسة الخارجية لدولة هي انعكاس لسياستها الداخلية.
في الحالة الأمريكية، فإن العكس هو الصحيح، فالسياسة الخارجية هي التي تنعكس على السياسة الداخلية، والسبب أن الولاياتالمتحدةالأمريكية منقسمة عموديا كما لو أنها دولتان ونظامان ومصلحتان واستراتيجيتان، لكن الحل لتجاوز هذا الانقسام كان قبل أزمة 2008 هو التناوب على الحكم بين المجمع الصناعي المدني الذي يركز اهتمامه على الداخل الأمريكي من أجل تحقيق فائض اقتصادي، والمجمع الصناعي العسكري الذي يبحث عن تصريف الفائض الاقتصادي المحقق في الخارج عبر إطلاق حروب والاستثمار في انقلابات.
التطور الجديد الذي حصل بعد سنة 2008، أن التناوب لم يعد ممكنا من الناحية الموضوعية والنقاش يطول في هذا المجال، لأن الصراع أصبح محتدما بين المجتمع الصناعي العسكري والتوجه المدني المقتنع بأولوية الأوراش الداخلية الصناعية والعلمية والتكنولوجية والخدماتية وضرورة التخلي عن العولمة، وهو ما يمثله دونالد ترامب الذي كان يدعو إلى الاهتمام برجوع الرأسمال الأمريكي في الخارج إلى الداخل، والتركيز على بناء الجسور والطرق والسكك الحديدية والنهوض بالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وأيضا الخروج من دائرة إكراهات العولمة خاصة ما يرتبط بالقواعد العسكرية الأمريكية واصطناع الحروب.
وفي الانتخابات الأخيرة، تمكن المجتمع الصناعي العسكري من الانتصار عن طريق الغش والتزوير، من خلال التدخل الواضح لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)، لينقسم المجتمع الأمريكي والطبقة الرأسمالية إلى شطرين، وهو ما يفسر حالة الارتباك الأمريكي في التعاطي مع المغرب، ومن أبرز الأمثلة على الهوة الساحقة بين هذين التوجهين، التقارب الذي نهجه ترامب مع روسياوالصين، حيث كان يرى أن السبيل لحل المشاكل معهما هو التنافس العلمي والتكنولوجي والحصار الاقتصادي، والطريق لإبعاد موسكو عن الصين هو التقرب منها، وهو ما بدأ يستوعبه الرئيس جو بايدن أيضا، فيما يبقى الشغل الشاغل للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي هو «تلغيم» العالم بألغام موقوتة وأخرى غير موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة مثل ما يحصل في السودان حاليا.
ومن أجل تفويت الفرصة على الرهان العسكري، حاول الرئيس السابق دونالد ترامب فك تلك الألغام، بعدما خرج من أفغانستان ضدا على إرادة المجمع الصناعي العسكري، ونفس الأمر بالنسبة إلى العراق، فيما كان بصدد الخروج من سوريا.
بالنسبة إلى المغرب، فإن الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء لم يكن حبا في عيوننا، لكنه جاء في إطار رغبة ترامب في تفكيك لغم وضعته أمريكا في منطقة شمال إفريقيا منذ أيام فرانسيسكو فرانكو، وكان قابلا للانفجار في أية لحظة من خلال اندلاع حرب جزائرية مغربية تكون سوقا لتفريغ السلاح.
أفهم من جوابك أن الإعلان الأمريكي عن مغربية الصحراء هو في حد ذاته انتصار بغض النظر عما يمكن أن يتمخض عنه؟
إن خصوصية هذا الحدث التاريخي أنه جاء عشية خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، أي في غفلة من المجمع الصناعي العسكري الذي يبذل الجهد من أجل الإبقاء على لغم الصحراء للتحكم في منطقة غرب إفريقيا، والظاهر أن وكالة الاستخبارات الأمريكية باعتبارها العقل المدبر والمنفذ لاستراتيجية المجمع الصناعي العسكري لم تستسلم حتى الآن، وهي تُوَاصل الاشتغال من أجل الإبقاء على لغم الصحراء وتكريس وجود أمريكا في الخارج وتأثيرها في بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وإلى حد ما فرنسا وبلجيكا وهولندا.
ومن الأمثلة البارزة على حالة الارتباك الأمريكي هو الموقف مما يجري في فلسطين المحتلة، بعد تفجر الصراع لأول مرة بين المجمع الصناعي المدني المناهض لبنيامين نتنياهو والمجمع الصناعي العسكري الذي يرى في هذا الأخير أحد أدوات لعبه المهمة.
إن أهم عنصر مفسر للتناقضات الأمريكية في التعامل مع المغرب هو الصراع الأمريكي-الأمريكي الذي ظهرت انعكاساته في السنوات الأخيرة بشكل بارز في الخليج العربي، سواء من خلال الصراع بين قطر والسعودية أو السعودية وإيران، والذي يعني شيئا واحدا، وهو أن أمريكا هي قائدة العالم، فهي التي تؤسس الاستراتيجيات بينما تقف أغلب دول العالم في دائرة ردود الفعل، لذلك فإن المفتاح لفهم العالم يجب أن يمر دائما عبر فهم القواعد التي تحكم الوضع السياسي داخل أمريكا.
أما الدول الذكية فهي التي تملك إمكانية تأسيس استراتيجيات مقاوِمة، مثل الصينوروسيا اللتين تتلافيان تصعيد الحرب في أوكرانيا وتوسيعها، وتعملان على تأجيل الكثير من الأزمات في انتظار الانتخابات الأمريكية في 2024 والتي يرجح أن ينتصر فيها صوت العقل، أي المجمع الصناعي المدني، ولا شك أن المغرب سيكون من بين أكبر المستفيدين من ذلك.
إذن المغرب مطالب بالتعامل مع الولاياتالمتحدةالأمريكية بمنطق التريث إلى أن يعود ترامب أو من يشبهه إلى البيت الأبيض؟
المشكل في قضية الصحراء المغربية أن حسمها لا ينحصر في موقف واشنطن، بل في موقف فرنسا ودول أخرى، ومع الأسف فإن الموقف الفرنسي مازال متخلفا عن الأمريكي الترامبي، رغم وجود أمل في تغيير فرنسا لموقفها، على غرار ما فعلته إسبانيا وألمانيا، خاصة مع بروز مؤشرات عن بدء تزحزحها بعيدا عن الموقف الرسمي الأمريكي، كما حصل في قضية الدولار والموقف من الحرب الأوروبية ضد الصين، ولاشك أن الصراع الاجتماعي الجاري في فرنسا ضد جناحها اليميني المرتبط بوكالة الاستخبارات الأمريكية والمجمع الصناعي العسكري سيسهم في تغيير فرنسا موقفها في اتجاه المشروعية التاريخية والقانونية وحق الشعوب في تقرير المصير ووحدتها وليس تشجيع الانفصال.
هناك عنصر مهم ينبغي استحضاره في هذه المعادلة، وهو أن يهود أمريكا يقفون في صف المغرب، ونفس الموقف ينهجه أغلب يهود إسرائيل، وهو ما يمكن أن يكون عنصرا بنائيا في الموقف الأمريكي العاقل والراشد الذي اتخذه دونالد ترامب في الاعتراف بمغربية الصحراء.
لكل هذه الأسباب، أنا متفائل بالوصول إلى حل، خاصة مع اتجاه المجمع الصناعي المدني نحو الانتصار في الانتخابات الأمريكية المقبلة في 2024، والتحول الجاري في مواقف الأطراف الأخرى المؤثرة كروسياوالصين وما أنجزناه في الساحة الإفريقية، فضلا عن تماسك الجبهة الداخلية.
لطالما شكل ملف الصحراء أولوية في اتصالات المملكة مع واشنطن، كيف تتوقع شكل تعاطي المغرب مع هذا الملف اليوم؟
المؤكد أن تدبير المغرب لنزاع الصحراء يتسم بالسرية ويجري بعيدا عن الأضواء، خاصة أن الدبلوماسية السيادية هي من تتولاه بنفسها، وكما تعرف فإن هذا الملف يشرف عليه جلالة الملك مباشرة، ويجعله أولويته الأولى والثانية والثالثة، في حين يقتصر دور وزير الشؤون الخارجية والتعاون على نقل الرسائل مثل «ساعي البريد».
إن جلالة الملك منشغل يوميا بملف الصحراء، لكن إخراج أمريكا من تناقضاتها الداخلية دون حصول انفجار ليس بالأمر السهل، ومن شأن ذلك تأسيس نظام جديد أكثر عدلا وديمقراطية وسيادة للقانون، والذي سيكون في صالحنا، كونه سَيُخرج العالم من زمن الحروب التي تتوسل بها أمريكا لبيع السلاح.
هناك عنصر لا يقل أهمية ينبغي الوقوف عنده، وهو أن الدبلوماسية المغربية تؤدي بشكل جيد دائما بفضل المؤسسة الملكية والموقع الجغرافي والتاريخي والثقافي للمغرب وتماسك جبهته السياسية، وتجيد استغلال التناقضات العالمية لصالحها، على غرار مولاي الحسن الأول ومحمد الخامس، لذلك عندي يقين بأن المغرب سيربح في الزمن الراهن كما ربح في الزمن الماضي، لأنه يتوفر على مصادر معلومات وشبكة علاقات وضمانات تؤكد أن التوجه العام العالمي أو الأمريكي سيكون في الغالب لصالحه، ويقتعد موقعا ملائما قريبا من مقاعد الدول العظمى.