* كريم بوخصاص يدخل ملف الصحراء المغربية اليوم منعرجا كبيرا يركبه المغرب وهو في حالة استنفار على ثلاث جبهات. وهي الجبهات التي يقوم هذا الملف بسبر أغوارها، ويرصد تفاصيل ما يجري فيها، خاصة وأن الملف يحظى باهتمام واسع في دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية.
«نخوض حربا ضروسا في ملف الصحراء قد لا يُرى منها شيء، لكنها على عدة جبهات». بهذه الكلمات لخص مصدر بالخارجية المغربية رفض الكشف عن اسمه، لحساسية منصبه، ما أسماه «منعرجا كبيرا» دخله نزاع الصحراء منذ تحرير المنطقة العازلة للكركرات وصدور القرار الأمريكي المعترف بمغربية الصحراء في نونبر ودجنبر الماضيين، قبل أن يضيف بحماسة المحاربين: «وكل الجبهات نحقق فيها تقدما كبيرا».
بغض النظر عما قد يبدو في حديث مصدرنا من حماسة زائدة، فإن مما لا خلاف عليه أن مملكة محمد السادس تُدبر أخطر منعطف في النزاع المفتعل حول الصحراء منذ وقف إطلاق النار سنة 1991، يتخذ شكل حرب قائمة على ثلاث جبهات رئيسية: سياسية ودبلوماسية وعسكرية.
وفيما تتجلى الجبهة السياسية في اجتماع مجلس الأمن المنعقد أمس الأربعاء في إطار المشاورات المبرمجة حول الصحراء، والذي سيطغى عليه «فشل تعيين» مبعوث جديد للأمين العام للأمم المتحدة للصحراء، بسبب رفض الجزائر والبوليساريو المقترحين الذين تقدم بهما «غوتيرس» على مدار الأشهر الثلاثة السابقة، فإن ملامح الجبهة الدبلوماسية تبرز مع التحركات المكثفة لبعثة المغرب في الأمم المتحدة لحشد الدعم في مجلس الأمن، والاتصالات المكوكية للخارجية المغربية مع أصدقاء المغرب، والتي من بين عناصرها «دبلوماسية القنصليات»، وسط تنسيق مستمر مع واشنطن، التي دعت أهم مراكز التفكير المؤثرة بها إلى الاستمرار في أجرأة قرار «مغربية الصحراء».
أما الجبهة العسكرية فهي الأخطر، لكن ينطبق عليها بتعبير مصدر عسكري – وصف «دخان بدون نار»، فأخبار القصف والعمليات العسكرية للبوليساريو مازالت تحتل الحيز الأكبر في تغطيات وكالة الأنباء الجزائرية، دون أن يوجد لها أثر في وكالات الأنباء الدولية التي تتبع مثل هذه الأخبار وتتحمس لها.
ولأجل تركيب صورة ما يحصل من مخاض غير مسبوق في ملف الصحراء، لابد من العودة إلى نقطة بداية تشكل المشهد الحالي.
السياسة والدبلوماسية
بدأت فصول المنعطف الجديد والحاسم قبل إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب «الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه»، وتحديدا في 13 نونبر 2020، عندما أطلق المغرب عملية عسكرية «نوعية» أثمرت تحرير معبر الكركرات حيث كانت عناصر من «البوليساريو» تعيق تدفق الحركة التجارية في المنطقة العازلة للكركرات لمدة ثلاث أسابيع (منذ 21 أكتوبر)، وذلك بوضع حزام أمني لتأمين حركة الأفراد والسلع.
وكان من نتائج هذه العملية الأمنية التي حظيت بدعم أصدقاء المغرب، وبضوء أخضر أمريكي، إعلان «البوليساريو» تحللها من اتفاق وقف إطلاق النار لسنة 1991، وانخراطها في مناوشات بين الفينة والأخرى شرق الجدار الرملي.
لم يمض إلا أسبوعان على هذه العملية العسكرية للقوات المسلحة الملكية، حتى جاء القرار الأمريكي القاضي بالاعتراف بمغربية الصحراء، ليزلزل سكان قصر المرادية وقادة الانفصاليين بتندوف، والذي استمر زخمه حتى الثامن من يناير بإعلان مساعد وزير الخارجية الأمريكي المكلف بشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر من العاصمة الجزائر أن «المفاوضات حول الصحراء يجب أن تكون في إطار الحكم الذاتي»، وأن «اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء هو قرار جدي وجريء وشجاع»، قبل أن تنطلق طائرة أسمى دبلوماسي أمريكي لشمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى العيون، ثم إلى الداخلة حيث زار رفقة وزير الخارجية المغربية ناصر بوريطة الموقع المحتمل لتشييد قنصلية واشنطن بقلب الصحراء.
خلال هذه الفترة كانت جولة أخرى يكسبها المغرب، برفع وتيرة افتتاح القنصليات بمدينتي العيونوالداخلة، بلغ عددها من نونبر إلى اليوم ست قنصليات ليرتفع إجمالي القنصليات 21 قنصلية عامة موزعة بين 11 في العيون و10 في الداخلة.
ثم جاء بيان «مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي» الذي طالب بإجراء مفاوضات مباشرة وصريحة بين المغرب وجبهة البوليساريو في مارس الماضي، ليعيد تركيز الصورة حول هذه المؤسسة التي لطالما كانت مبعث كل الشرور في الاتحاد الإفريقي، ويسائل دبلوماسية الرباط حول ما يمكن وصفه ب»الهزيمة غير المنتظرة».
الجبهة العسكرية.. الحزم !
بالتوازي مع الحرب السياسية والدبلوماسية، تدور حرب ميدانية على الأرض في جزء منها «بروباغندا». فالبوليسارو تتحدث منذ إعلان تحللها من اتفاق وقف إطلاق النار في أعقاب تحرير الجيش المغربي المنطقة العازلة للكركرات عما تسميه «عمليات عسكرية» ضد أهداف مغربية، فيما لا أثر لذلك على الأرض.
ومن خلال تتبع ما يصدر عن الجبهة الانفصالية، يظهر أن عدد «البيانات العسكرية» التي نشرتها حتى يوم الاثنين الماضي بلغ 159 بيانا، تتحدث عن عمليات في شرق الجدار الرملي وشماله، وتحديدا في خط التماس مع الجزائر، آخرها البيان الذي أعلن «تنفيذ هجمات جديدة ضد تخندقات الجيش المغربي بمنطقة سبخة تنوشاد بالمحبس مرتين متتاليتين (..) وبمنطقة أعظيم أم أجلود بأوسرد، ومنطقة اجبيلات الخظر بالكلتة». وقبل ذلك أعلنت مقتل أحد مسؤوليها العسكريين البارزين بغارة شنتها طائرة مسيرة مغربية من نوع «هارفانغ» الفرنسية، والذي كان يتولى مهمة «قائد سلاح الدرك في الجبهة».
وأمام حجم البيانات العسكرية للبوليساريو التي تُظهر كما لو الحرب مشتعلة في الصحراء، أكد مصدر عسكري مغربي في حديث مع «الأيام»، أنه لا أثر لحرب في المنطقة، وأن ما هو موجود في الواقع هو مناوشات للانفصاليين يتم الرد عليها بالحزم المطلوب، وأضاف أن كل ما ينشره الانفصاليون عن اختراقات وإصابات وخسائر في صفوف القوات المسلحة الملكية غير صحيح جملة وتفصيلا». وتابع موضحا: «معنويات أفراد الجيش مرتفعة للغاية ويقومون بدورهم على نحو جيد لتأمين الجدار الرملي بطوله».
وفي سياق هذه التوضيحات، اكتفى مصدرنا بالقول: «لا تعليق لدي على الموضوع»، حين سؤاله عن «حقيقة ما تعلنه البوليساريو من مقتل أحد قادتها في غارة جوية».
ومما يثير الانتباه في رواية «البوليساريو» التي لا تجد لها صدى في التغطيات الإعلامية خارج الجزائر، كما هو شأن الحروب في أي رقعة من العالم، أنها حريصة في بياناتها الأخيرة على ختمها بعبارة «هذا دليل وبرهان ساطع على أن الحرب في الصحراء موجودة ومستمرة ومستعرة»، مما يوحي أن كل ما تريده البوليساريو في الوقت الراهن هو التأكيد والبرهنة على وجود «حرب».
لكن بعيدا عن أجواء الدعاية التي يحاول الانفصاليون خلقها، تنخرط القوات المسلحة الملكية في تنفيذ مخطط استراتيجي يظهر أن الكركرات لم تكن إلا بداية له، فإضافة إلى الإغلاق النهائي لشريط الكركرات عن طريق تمديد الجدار الدفاعي إلى الحدود مع موريتانيا، تم الانتقال 1500 كلم شرقا إلى إقليم أسا الزاك لتمديد الجدار الدفاعي في أقرب نقطة مع الحدود الجزائرية وذلك في منطقة «تويزكي» الوعرة.
وبعد أن كانت البوليساريو تعلن بين الفينة والأخرى التسلل إلى هذه المنطقة وخصوصا في «الأبعاج» و»طارق بوهندة»، فإن انتهاء الجيش المغربي من توسعة الجدار بما يناهز الخمسين كلم في هذه المنطقة الاستراتيجية التي تعتبر الوحيدة التي لها حدود مع الجزائر ضمن المناطق المتنازع عليها وخصوصا المحبس، يجعل كل تحركات الانفصاليين مكشوفة أمام القوات المسلحة الملكية.
في ظل التطورات الجديدة، أسرّ مصدر مقرب من تدبير ملف الصحراء ل»الأيام»، أن أي مواجهات اليوم ستجعل لا محالة الجدار الرملي يتحرك للانتهاء من أسطورة المناطق المحررة التي تركها المغرب طواعية بعد وقف إطلاق النار في 1991، والتي استغلت من طرف الانفصاليين لإقامة شبه مدن ومنشآت أهمها في بئر لحلو وتيفاريتي، وأن القوات المسلحة الملكية لديها تعليمات صارمة للتعامل الحازم مع أي مغامرات للانفصاليين في أي رقعة من المنطقة العازلة.
الخلاصة، وفق مصدرنا، أن المملكة وإن كانت متشبثة بشكل راسخ باتفاق وقف إطلاق النار، كما عبر ذلك الملك محمد السادس للأمين العام للأمم المتحدة، فإن هذا الالتزام لا يتعارض مع الرد الصارم وفي إطار الدفاع الشرعي، على أي تهديد لأمن المملكة وطمأنينة مواطنيها.
توسيع الجدار الرملي.. الطريق لإغلاق المنافذ أمام الانفصاليين
في ظل المنعطف الجديد لملف الصحراء، أصبح تأمين كل الجبهات شرطا رئيسيا للانتصار في الحرب المندلعة، لذلك اختار المغرب توسيع الجدار الرملي أو «الجدار الدفاعي» بلغة العسكريين لحماية الصحراء من كل المنافذ. فبعد تشييد حزام أمني جديد في المنطقة العازلة للكركرات في نونبر الماضي لتأمين حركة تنقل الأشخاص والسلع إلى موريتانيا ومنها إلى بلدان غرب إفريقيا، اتجه المغرب الشهر الماضي (مارس) نحو تمديد الجدار الرملي بنحو خمسين كيلومترا في منطقة «تويزكي» الوعرة التابعة لإقليم أسا الزاك بجهة كلميم واد نون، حيث الحدود مع الجزائر.
وتكتسب جماعة «تويزكي» أهمية استراتيجية في مواجهة مسلحي البوليساريو لمرور الجدار الأمني من ترابها وقربها من جماعة المحبس، النقطة الوحيدة من المنطقة العازلة التي تملك حدودا مشتركة مع الجزائر، ويعني تحرك المغرب لتمديد الجدار بهذه المنطقة أن الأمر سيشمل أيضا الزاك ثم المحبس. وفي حال ما إذا أتم المغرب توسيع الجدار الأمني شرقا في هذه النقاط الثلاث، فإن ذلك يعني إغلاق المنافذ على عناصر البوليساريو بشكل تام ومنعها من إمكانية التسرب وراء الجدار بشكل نهائي.
وفي انتظار الانتهاء من إغلاق كل المنافذ أمام عناصر البوليساريو، يبقى «الجدار الرملي» أخطر سلاح نوعي يمتلكه المغرب لحماية أراضيه في الجنوب، ممتدا على طول 2500 كلم. وبفضله تمكنت القوات المسلحة الملكية من الرد على كل مناوشات البوليساريو في الأسابيع الأخيرة، على غرار ما حصل في العمليات العسكرية التي شنتها «البوليساريو» سنتي 1988 و1989، أهمها تلك التي قادها ما سمي «وزير دفاعها» لحبيب أيوب، وراح ضحيتها حوالي مائة عنصر انفصالي، والتي كانت آخر طلقة قبل الاتفاق الأممي بوقف إطلاق النار سنة 1991.
كما شكل هذا الجدار على امتداد الثلاثين عاما السابقة حصنا منيعا للوقاية من جميع الأخطار المحدقة بمنطقة الصحراء، بما فيها منع تنقل شبكات الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود، والاتجار بالبشر وتهريب المخدرات وغيرها، وقد استطاع أن يجعل الصحراء المغربية منطقة آمنة ضمن الصحراء الكبرى.
وحول البطاقة التقنية للجدار الرملي، فإن طوله يصل إلى 2500 كيلومتر وعرضه يتراوح بين 50 و100 متر، وعلوه بين 6 و12 مترا، ويمتد من منطقة «آسا الزاك» إلى الحدود الموريتانية، ويحرسه 135 ألف جندي يتوفرون على أحدث الوسائل العسكرية المتطورة، مثل أنظمة الإنذار المبكر، وتقنيات الردع الالتقائي لأي هجوم مفاجئ. كما تم نصب أنظمة مراقبة متطورة مثل رادار «راسوار»، فضلا عن البطاريات والراجمات والمدافع والصواريخ القصيرة والطويلة المدى، وزرع الألغام الأرضية المضادة للدبابات والدروع. ورغم السعي الحثيث من جانب الانفصاليين لإعاقة عمل المغرب بهذا السلاح النوعي، لم يسبق أن تعرض الجدار الرملي لأي انتقاد في أي تقرير أو توصية صادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، بل لم يتضمن أي مقرر لمجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة ما يفيد أن الجدار غير شرعي، بل تم اعتماده من طرف الأمم المتحدة باعتباره خطا يحدد مناطق الحظر العسكري الذي تضمنه الاتفاق العسكري لعام 1988 كجزء من مقترحات التسوية التي تم اعتمادها من قبل مجلس الأمن في القرار عدد 658 الصادر في 17 يونيو 1991.
ويعود تشييد المغرب لهذا السلاح الاستراتيجي بسواعد عسكرييه إلى الفترة ما بين 1980 و1987، عندما قضت ثلاثة فيالق عسكرية (أحد، والزلاقة، ولاراك) يتكون كل واحد منها من 20 ألف عنصر سبع سنوات كاملة في تشييد جدار أمني، بعد نجاح جدار شيد في البداية حول محور بوجدور السمارة بوكراع في دحر الانفصاليين، حيث جمع الملك الراحل الحسن الثاني كبار الضباط في اجتماع حاسم في أكادير، وتم تداول الفكرة التي بإمكانها إيقاف الهجمات العسكرية ل»البوليساريو»، ودفعها للتراجع إلى تندوف، وحينها نوقشت عدد من الاستراتيجيات الدفاعية، ومن ضمنها ما تم العمل به في بعض التجارب المشابهة، مثل جدار برليف في سيناء بمصر، الذي استعمل لإيقاف القوات الإسرائيلية، وخط ماجينو بفرنسا ثم خط موريس بالجزائر.
التوجه الأمريكي: تثبيت الاعتراف بمغربية الصحراء بهذا الثمن !
مرت أزيد من ثلاثة أشهر كاملة على تولي جو بايدن إدارة أقوى بلد في العالم، دون حصول أي تراجع في موقف واشنطن من «مغربية الصحراء» رغم تحركات اللوبي الداعم للجزائر و»البوليساريو» في الولايات المتحدة.
وفي الوقت الذي يخشى البعض تراجع «بايدن» عن قرار «ترامب» التاريخي، تشير معلومات جمعتها «الأيام» من أوراق صادرة عن ثلاثة مراكز تفكير أمريكية «نافذة» ومسؤولة عن صياغة السياسات في واشنطن، إلى التوجه العام الموضوع على طاولة البيت الأبيض للتعامل مع تركة ترامب في ما يخص نزاع الصحراء، والمتمثل في الحفاظ على «مغربية الصحراء» بثمن تؤديه الرباط، وهو دفعها لمزيد من الإصلاحات السياسية، مما ينبئ باشتداد الضغوط و»الإملاءات» على المغرب مستقبلا لأجل تحقيق إصلاحات يتخذ بعضها أبعادا حقوقية واقتصادية.
ويبدو أن اللوبي اليهودي الأكاديمي الداعم لاتفاقات التطبيع مع إسرائيل، والمسيطر على مراكز التفكير الأمريكية، يعمل كل ما بوسعه لإقناع الإدارة الأمريكية بالاستمرار في الاعتراف بمغربية الصحراء مقابل الضغط على المغرب للتقدم بإصلاحات سياسية.
ومن أهم مراكز التفكير الأمريكية التي تدفع في هذا الاتجاه: مركز كارنيجي للسلام الدولي (المقرب من الديمقراطيين) ومعهد الولايات المتحدة للسلام (أسسه الكونغرس سنة 1984 بهدف منع وحل النزاعات الدولية، ويديره عدد متساوٍ من المديرين الجمهوريين والديمقراطيين الذين يتم تعيينهم من قبل الرئيس الأمريكي ويوافق عليهم مجلس الشيوخ) ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (تأسس سنة 1985 من قبل لجنة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية المعروفة اختصارا ب»أيباك»). وهذه المراكز الثلاثة معروفة أنها العقل الذي يصوغ قرارات الحكم في واشنطن خاصة خلال إدارة الديمقراطيين للبلاد.
واللافت للانتباه، أن هذه المراكز الثلاثة ورغم كونها تنحاز إلى مواقف الانفصاليين كما يظهر من خلال الأسلوب الذي تستعمله عند الحديث عن نزاع الصحراء – فإنها لم تنته إلى الدعوة للتراجع عن الاعتراف بمغربية الصحراء، بل على العكس من ذلك، فقد حثت إدارة بايدن على أهمية وضرورة الاستمرار في الموقف الأمريكي الجديد، والاستثمار فيه.
أولوية الصحراء
أولى الأوراق التي ترجمت التوجه المذكور، «تقرير عمل شمال إفريقيا» الصادر بشكل مشترك عن مركز كارنيجي للسلام الدولي ومعهد الولايات المتحدة للسلام، في فبراير 2021، تحت عنوان: «استراتيجية جديدة لمشاركة الولايات المتحدة في شمال إفريقيا»، والذي تم تحريره بعد سبعة اجتماعات رسمية عقدتها لجنة عمل شمال إفريقيا في الفترة بين مارس 2019 ويناير 2020، تمحورت حول القضايا ذات الأهمية لشمال إفريقيا، بما في ذلك الأمن والإرهاب والنمو الاقتصادي والهجرة والصراعات الحالية والديمقراطية والحكم ودور أوروبا ومنافسة القوى العالمية.
وكان لافتا في هذه الورقة، وضع نزاع الصحراء في المرتبة الثانية في قائمة النزاعات المهددة للاستقرار في المنطقة، والتي يجب أن تحظى بأولوية واشنطن، وذلك بعد النزاع الليبي وقبل الحرب المحتملة بين مصر وإثيوبيا.
فيما انتهت الورقة إلى ضرورة الاستمرار في ترجمة الاعتراف بالسيادة المغربية على كامل أراضي الصحراء مقابل تحقيق المغرب إصلاحات سياسية، وحثت إدارة بايدن على أهمية العمل من أجل إزالة العوائق أمام التكامل بين المغرب والجزائر رغم ما لقرار مغربية الصحراء «من آثار في زيادة التوتر بين الجزائر والمغرب وإبطاء ذوبان الجليد بين الولايات المتحدة والجزائر، ودفع هذه الأخيرة إلى السعي إلى علاقة أقوى مع روسيا والصين».
كما خلصت إلى أن «منطقة شمال إفريقيا تاريخيا لم يتم تقديرها أو طغت عليها مخاوف سياسية»، وأن «من الآثار المترتبة عن هذا الإهمال دفع صناع السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية لزيادة اهتمامهم بالمنطقة»، وهو ما يعني عمليا أن المنطقة ستكون على رأس أولويات الإدارة الأمريكية، خصوصا بعدما أكدت الورقة أنها «تمثل مركزا للقوتين العظميين المنافستين واللتين تهددان النظام العالمي الديمقراطي وهما روسيا والصين»، على حد تعبيرها.
جدير بالذكر أن الورقة حررها كل من «توماس هيل» كبير مسؤولي البرامج في معهد الولايات المتحدة للسلام والذي يرأس مجموعة عمل شمال إفريقيا (عبارة عن تجمع خاص يتألف من أكثر من خمسين شخصا من الأكاديميين والمسؤولين الحكوميين الحاليين والسابقين)، وكان من 2013 إلى 2017 أحد كبار الموظفين المهنيين في لجنة مجلس النواب الأمريكي، فضلا عن اشتغاله كضابط للشؤون الخارجية في مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية لما يقرب من عشر سنوات. إلى جانب «سارة يركيس» وهي باحثة رئيسية في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، اشتغلت سابقا في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية، بالإضافة إلى محلل أبحاث جيوسياسي بهيئة الأركان المشتركة للخطط الاستراتيجية ومديرية السياسات في البنتاغون الأمريكي.
الإصلاحات وإسرائيل !
أما الورقة الثانية فصادرة عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في فبراير 2021، بعنوان: «اغتنام الفرص وتقوية التحالفات في شمال غرب إفريقيا»، والتي اعتبرت أن العلاقة الثنائية بين المغرب والولايات المتحدة هي الأكثر تقدما مقارنة مع الجزائر وتونس، يعكسها تسمية المغرب منذ عام 2004 باعتباره «حليفا رئيسيا من خارج الناتو» وتوقيع التجارة الحرة في عام 2006، واستفادة المغرب من مبلغ مليار دولار خلال العقد الماضي في إطار شراكة تحدي الألفية، فضلا عن تنامي التعاون الأمني منذ 2008 والتعاون العسكري الذي تجسده مناورات «الأسد الإفريقي». وأوضحت الحاجة إلى الاستمرار في مساعدة المغرب في البقاء قاعدة صلبة، داعية إدارة بايدن إلى «تأكيد الدعم لمغربية الصحراء ووساطة الأمم المتحدة في حل النزاع».
ولأن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى الذي أسسه «الأيباك» همه الأول والأخير الدفاع عن مصالح إسرائيل، فقد حث إدارة بايدن على ضرورة المضي في تأكيد قرار إدارة ترامب «لتأمين العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل ولإضفاء مصداقية على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. لكن الثمن الذي يراه المعهد للاستثمار في الاعتراف بمغربية الصحراء هو «تشجيع المغرب لتحقق إمكانات العلاقات مع إسرائيل عن طريق التحرك بأسرع ما يمكن لتأسيس السفارات وتبادل السفراء وتحقيق تعاون كامل في مجالات الاقتصاد والثقافة والتعليم والتكنولوجيا».
لكن ليس هذا هو الثمن الوحيد الذي تقترحه ورقة المعهد النافذ في واشنطن، بل أيضا دفع الرباط إلى مزيد من الإصلاحات السياسية من خلال البرهنة على فعالية الحكم الذاتي في منطقة الصحراء والحد من الدوافع المحتملة للاضطرابات الاجتماعية في جميع أنحاء المملكة، ومتابعة المشاورات الخاصة والصريحة مع الرباط في مجالين من مجالات الاهتمام: الفساد والقيود على حرية الصحافة، خاصة أن كلا المسألتين أججتا الاحتجاجات الاجتماعية في السنوات الأخيرة.
هكذا أصبحت تحركات البوليساريو «مكشوفة» في المنطقة العازلة
ما لا يعرفه كثيرون أن تحركات البوليساريو بالمنطقة العازلة أصبحت «مكشوفة» للقوات المسلحة الملكية سواء من الفضاء أو الأرض، بفضل التكنولوجيا المتطورة التي أصبحت تتوفر عليها في السنوات الأخيرة.
وفضلا عن الجدار الرملي المجهز بأنظمة الإنذار المبكر وتقنيات الردع، يستمد الجيش المغربي قوته اليوم في مواجهة تحركات ومناوشات الانفصاليين من قمري «محمد السادس أ و ب» الصناعيين الذين أطلقا على التوالي في 7 نونبر 2017 و20 نونبر 2018، واللذين لهما أدوار استخباراتية تتعلق بتعزيز قدرات المغرب في مراقبة شريطه الحدودي الشرقي والجنوبي.
ووفق المعلومات المتوصل إليها، مكن الاعتماد على تقنية الاستطلاع وجمع المعلومات عبر القمرين الصناعيين «محمد السادس أ» و»ب» من توفير قاعدة بيانات غنية للاستخبارات العسكرية خلال السنوات الثلاث الماضية، وجعل المغرب قادرا على تقديم معلومات موثقة عن الانتهاكات العسكرية في المنطقة العازلة إلى الأمم المتحدة، كما حصل في أبريل 2018 حين قدم صورا التقطها القمر الصناعي «محمد السادس أ» تظهر دخول 14 عنصرا من «البوليساريو» إلى منطقة المحبس التابعة لإقليم أسا الزاك التي تخضع لاتفاق وقف إطلاق النار، على دفعتين وقيامهم بنصب خيام وحفر خندق وإقامة سواتر بأكياس من الرمل، إضافة إلى رصد استعدادات للجبهة الانفصالية لنقل مقرات بعض منشآتها الإدارية والعسكرية من مخيمات تندوف في الجزائر إلى منطقتي بئر لحلو وتيفاريتي اللتين تقعان شرق الجدار الرملي الدفاعي للمغرب.
ويتوفر القمر الصناعي محمد السادس «ب» الذي يصل وزنه إلى 1108 كيلوغرامات عند إطلاقه، وعمره الافتراضي ما بين 5 و10 سنوات، على نظام متطور لتحديد المواقع، وبإمكانه بفضل التجهيزات التي يتوفر عليها، أن يستمد طاقته من الشمس، ويرسل مع القمر الصناعي «أ» ألف صورة في اليوم إلى فرق المركز الملكي للاستشعار الفضائي عن بعد، والمركز الملكي للدراسات والأبحاث الفضائية، فضلا عن قدرته على التقاط صور بحجم 70 سنتمترا.
ومما يزيد من قدرات وفعالية القمرين الصناعيين المغربيين أن إدارتهما منوطة بشكل كلي بمهندسين وتقنيين مغاربة خضعوا لتكوينات على أعلى مستوى في الخارج، وهو ما يجعل المعلومات الاستخباراتية المتوصل إليها في ملكية المملكة وحدها لا يشاركها فيها أحد. ويعمل القمران في كوكبة مثالية على نفس المدار ب180 درجة لكل منهما، وهدفهما توفير صور عالية الدقة للغاية في وقت قياسي مع سعة مراجعة يومية، بمعدل 8 إلى 10 مرات في اليوم فوق المحطة، ويتوفران على أحدث التكنولوجيات في مجال الرصد والتصوير، إضافة إلى تعزيز سيادة المملكة على المعلومات بعد أن كان يضطر في السابق إلى شرائها من دول وشركات.
وفضلا عن الفضاء، تستفيد القوات المسلحة الملكية من إمكانية تمشيط المنطقة العازلة من الجو القريب أيضا، وذلك من خلال طائرات «الدرون» الفرنسية من نوع «هارفانغ» (نسخة فرنسية من طائرات أيرون الإسرائيلية) التي يتوفر عليها، وتروج «البوليساريو» أنها استهدفت مجموعة من عناصرها أدت إلى مقتل قيادي عسكري بارز في صفوفها كان يتولى قيادة الدرك العسكري للجبهة الانفصالية.
وخلال الأشهر المقبلة، ستتعزز قدرات الجيش المغربي ب13 طائرة «درون» من نوع «بايراكتار TB2» من صنع شركة «بايكار» التابعة لسلاح الجو التركي، والتي عقدت صفقة بشأنها مؤخرا، وتتميز بقدرتها على حمل أوزان تصل إلى 150 كيلوغراما، إضافة إلى التحليق لمدة 24 ساعة كاملة دون توقف. كما أنها تتميز بمعدات المراقبة والرصد الليلي وضرب الأهداف بدقة عالية، وفق ما تعلنه الشركة التركية في موقعها الإلكتروني.
في السياق ذاته، يتوقع أن تتعزز هذه الصفقة مع الأتراك بأخرى من المحتمل أن يتم المصادقة عليها من طرف الكونغرس الأمريكي، خلال الأسابيع المقبلة، وتتعلق بأربع طائرات «درون» من طراز «إم كيو-9 بي سي غارديان» من صنع شركة «جنرال أتوميكس» المملوكة للقطاع الخاص، وذخائر موجهة بدقة من نوع «هيل فاير»، و»بيف واي»، و»جي دي أيه إم» من صنع شركات «لوكهيد مارتن» و»ريثيون» وبوينغ».
وفي حالة إقرار الصفقة سيكون المغرب ثالث بلد بعد تايوان والإمارات الذي سيتحصل على طائرة «إم كيو-9 بي سي» الفائقة ضمن أول تصدير للطائرات المسيرة منذ إعادة إدارة ترامب تفسير اتفاقية أسلحة تعود إلى حقبة الحرب الباردة بين 34 دولة للسماح لشركات الدفاع الأميركية ببيع المزيد من الطائرات المسيرة للحلفاء.
و»إم كيو-9 بي سي» هي طائرة بدون طيار كبيرة الحجم يبلغ وزنها نحو 5 أطنان تستطيع حمل صواريخ موجهة وقنابل بوزن 1.7 طن، ومصممة بغرض استخدامها أيضا كقاذفة للصواريخ، وتعمل على مدى 3000 كيلومتر. يستخدمها سلاح الطيران الأمريكي والبريطاني واستعملت في ضرب مواقع في أفغانستان، كما يعتقد أنها استخدمت في عملية اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني بمطار بغداد الدولي.
وبالنسبة لصواريخ جو أرض الموجهة «هيل فاير»، فيمكن إطلاقها من عدة منصات لإصابة أهداف مختلفة، حيث يمكن استخدامها من الجو عبر المروحيات أو من منصات برية وبحرية، ويتم التحكم فيها من خلال أنظمة تصويب بالرادار والأشعة فوق الحمراء، وتستعمل هذه الصواريخ في أمريكا على متن مروحية الأباتشي، ويمكن إطلاقها دون حاجة للتصويب الدقيق لتقصف الهدف دون أن تظهر للخصم.