مر على اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء حتى اليوم حوالي 28 شهرا، وهي مدة كافية لتقييم حجم الربح والخسارة من الموقف الأمريكي التاريخي الذي جاء في إطار اتفاق ثلاثي شمل تل أبيب أيضا.
للوهلة الأولى يظهر أن العلاقات بين الرباطوواشنطن في أفضل أحوالها، لكن ما خفي في هذه العلاقات يكشف عن وجود انزعاج مغربي، من تلكؤ أمريكي في تنفيذ ما تم الالتزام به تجاه المغرب، يجري تصريفُهُ في إطار خرجات إعلامية لمسؤول مغربي نافذ بين الفينة والأخرى. فما حقيقة الانزعاج المغربي؟ وأين تقف العلاقات بين البلدين؟
يوم 22 مارس 2023، وبينما كانت الصدمة بادية على متصفحي التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان لما تضمنه من انتقادات لاذعة للوضع الحقوقي في المملكة، نَزَعَ مسؤول نافذ بالمملكة الشريفة رِدَاءَ الرسمية، وارتدى سُترَةَ «مواطن مغربي» ليُدبج مقالا لم يخلُ من توجيه رسائل انتقادٍ إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. ورغم حرص هذا المسؤول على الحديث باسمه الشخصي، فإن موقعه في هرم الدولة كونه شخصية سامية، وصِفته الرسمية باعتباره المندوب العام لإدارة السجون، ومسؤوليته السابقة كونه أحد شيوخ تحديد الهوية في الصحراء، جعل كلامه يُصَنَّفُ على أنه «تعبير عن مزاجِ الدولة!»، خاصة أن التقاليد المرعية تمنع المسؤولين السامين من الخوض في علاقات المغرب الدولية إلا في سياق ما يُملى عليهم، وتُقَيِّدُ حركتهم إلا في نطاق ما يُرسَمُ لهم.
ورغم احتفاء الإعلام الرسمي بتضمن تقرير الخارجية الأمريكية الخاص بالمغرب للسنة الثالثة على التوالي صحراءه، وربط ذلك بتكريس مقاربة واشنطن في معالجة قضية الصحراء منذ اعتراف الإدارة الأمريكية السابقة بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، في دجنبر 2020، فإن خرجة المسؤول المغربي، وهو «محمد صالح التامك»، جاءت لتعكس نظرة المملكة لواشنطن بدون مساحيق تجميل، خاصة حين قال: «إن الخارجية الأمريكية أبدت تراجعا مفاجئا عن مواقفها الإيجابية التي ما فتئت تعبر عنها في السابق تجاه المملكة المغربية».
تكشف التجربة عن لجوء الدول إلى توجيه رسائل مشفرة إلى دول أخرى عندما يتعلق الأمر بأزمة أو سوء تفاهم، وتندرج خرجة «التامك» التي من المؤكد أنها كانت محور «برقية» من سفارة واشنطن إلى الخارجية الأمريكية في هذا الإطار، خصوصا أن الرجل ليس مواطنا عاديا حتى يتم التغاضي عما أراد قوله، فموقعه في الدولة يجعل حديثه تعبيرا عن انزعاج المملكة المغربية من صديقتها واشنطن، علما أنها ليست المرة الأولى التي خرج فيها ليقول شيئا باسم «مواطن مغربي»، فقد سبق أن فعل ذلك في منتصف 2021، وهو ما يفرض التعامل مع حديثه بمحمل الجد، خاصة أن المعلومات التي تتوفر عليها «الأيام» تؤكد أن التامك فضلا عن إدارته سجون المملكة فإنه يتولى تدبير ملفات تتعلق بالصحراء بأم الوزارات (الداخلية) التي ينتمي إليها. فما الذي تريد المملكة قوله لأمريكا تحديدا؟
تردد ورسائل !
في 10 دجنبر 2020، وعلى بعد أيام قليلة من مغادرته البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن توقيع إعلان يعترف بمغربية الصحراء، ويعتبر مقترح الحكم الذاتي «جادا وواقعيا والأساس الوحيد لحلٍ عادلٍ ودائمٍ لتحقيق السلام الدائم والازدهار». وبعد أقل من أسبوعين وقع تحت أنظار الملك محمد السادس الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، والذي تم بموجبه الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإسرائيل، والذي تم نشره بشكل رسمي على الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية الأمريكية في 18 ماي 2021، والذي اعتبر خطوة لافتة في اتجاه تأكيد عدم تراجع إدارة الرئيس جو بايدن عن الاتفاق.
لكن سريعا، ظهر تردد وعدم وضوح كافٍ في تعاطي واشنطن مع ملف الصحراء، كما ظهر في تقريري مجلس الأمن الدولي السابقين، وغياب قضية الصحراء عن لقاءات وزير الخارجية ناصر بوريطة بنظيره أنتوني بلينكن في أكثر من مناسبة، وبدا التوجس المغربي واضحا بعد نشر وكالة المغرب العربي انتقادات لأمريكا على لسان محمد صالح التامك بخصوص صمته إزاء تحركات الوليساريو والجزائر ب»غرض تعريض أمن الصحراء للخطر» في ماي 2021، قبل أن يعود نفس المسؤول الشهر الماضي (مارس 2023) للتعبير عن الغضب المغربي الواضح.
وعلى غرار المرة السابقة، لم يختر «التامك» توجيه رسائل خفيفة، بل اختار خطابا شديد اللهجة، بدأه بقوله إن «تقرير الخارجية الأمريكية لسنة 2022 لا يبشر بالخير»، واستمر بحديثه عن «تحيز أمريكا الصارخ لصالح أعداء الوحدة الترابية للمملكة، في وقت كانت الدبلوماسية الأمريكية تتوخى في ما مضى الموضوعية والحياد في تقاريرها حول المملكة»، وتواصل بقوله إن «تقرير الخارجية الأمريكية الأخير خيب آمال المملكة المغربية لما تضمنه من افتراءات ومغالطات»، قبل أن ينتقل للسرعة القصوى بحديثه الصريح عن ملف الصحراء من خلال القول: «تراجعت الولاياتالمتحدة بشكل غامض عن موقفها الإيجابي عقب إعلانها سيادة المغرب على صحرائه، حيث ذهبت وزارة الخارجية الأمريكية إلى حد اعتبار جبهة البوليساريو حركة تحرير، رغم علمها بأنشطتها الإرهابية ودعمها للإرهاب في منطقة الساحل جنوب الصحراء واحتجازها لمواطنين مغاربة صحراويين في مخيمات مذلة لا تراعي أدنى مبادئ حقوق الإنسان».
وتساءل صالح التامك: «هل لوزارة الخارجية الأمريكية ما يبرر هذه التناقضات الصارخة؟»، قبل أن يستفيض بالشرح: «بدلاً من اللجوء إلى دولة مؤسسات للحصول على المعلومات الضرورية حول وضعية حقوق الإنسان بالمغرب، يعتمد التقرير على مزاعم مجانبة للصواب يروجها أشخاص وأشباه منظمات غير حكومية يناصبون العداء للمملكة». وتابع في ما يشبه فتح باب الانقلاب على الصداقة مع واشنطن: «الآن فقط بدأنا نفهم لماذا صار بعض حلفاء الولاياتالمتحدة يديرون ظهورهم لها ونعي ما قامت به الولاياتالمتحدة في العراق، وما امتنعت عن القيام به في سوريا وكيف انسحبت من أفغانستان تجر أذيال الهزيمة، حيث يبدو أن الولاياتالمتحدة تنوي خذلان حليف تقليدي مخلص، فهل تدفع بذلك المغرب إلى أن يدير بدوره ظهره لها؟».
انزعاج وحذر !
العلاقات المغربية الأمريكية ضاربة بجذورها في التاريخ، فهي تعود إلى 20 دجنبر 1777، عندما أبلغ السلطان المغربي محمد بن عبد الله المسؤولين الأوروبيين سماحه للسفن الأمريكية بالدخول إلى الموانئ البحرية المغربية، مما يجعل المغرب أول دولة تعترف بالولاياتالمتحدة. لكن هذه العلاقات دخلت منعرجات عديدة مع تحول أمريكا إلى مركز العالم بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انخرطت المملكة في مواجهات ساخنة تكاد تكون يومية مع واشنطن لأجل الصحراء منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، كما يظهر من الوثائق الأمريكية التي رفعت عنها السرية مؤخرا.
ورغم الفارق الزمني بين البلدين، لا يكاد يتوقف الخط الهاتفي بين سفارة المملكة بواشنطن والخارجية المغربية والقصر الملكي بالرباط، حيث يتم توجيه التعليمات الملكية إلى الدبلوماسيين المغاربة للقيام بالمتعيّن دفاعا عن مصالح المغرب، خصوصا أن الكثير من الاتصالات المغربية الأمريكية لا تتخذ طابعا رسميا كما تؤكد وثائق أمريكية رسمية – وتجري بمنتهى السرية خاصة مع البنتاغون ومجلس الأمن القومي.
حاليا، من الصعب معرفة مضمون المحادثات بين الرباطوواشنطن، لكن المؤكد أنها تتمحور منذ يناير 2021 حول وفاء واشنطن بالتزاماتها تجاه المغرب، خاصة ما يتعلق بفتح القنصلية الأمريكية الموعودة في الداخلة والتي لم يظهر أي تطور بشأنها منذ الزيارة التاريخية التي قام بها مساعد وزير الخارجية الأمريكي المكلف بشؤون الشرق الأدنى السابق ديفيد شينكير في 9 يناير 2021 لكل من العيونوالداخلة لأول مرة، والتي انتهت بتدشين مبنى عصري يوجد في تقاطع شارعي ابن زيدون وسيناء على أساس أنه «المقر الذي قد يحتضن القنصلية».
بالنسبة إلى أمريكا، فإن افتتاح مقر دبلوماسي (سفارة أو قنصلية) في أي رقعة جغرافية في العالم هي عملية تخضع لإجراءات بيروقراطية تتداخل فيها مسؤوليات ثلاث وزارات وهي الخارجية والدفاع والخزينة، فضلا عن وكالة الاستخبارات التي لا ترفع أعلاما أمريكية فوق أي مبنى قبل إجراء مسح أمني للمنطقة التي يقع فيها، حيث تحرص أمريكا على ضمان أقصى درجات الأمان لمنشآتها حتى إن كانت فوق تراب أقرب حلفائها، لكن عدم حصول أي تطور بشأن القنصلية الموعودة بعد مرور أزيد من عامين يطرح أكثر من علامة استفهام، وقد فسره الكاتب والباحث عبد الصمد بلكبير في حوار مع «الأيام» برغبة «المجمع الصناعي العسكري» الأمريكي والذي تعبر عنه الاستخبارات والبانتاغون في الإبقاء على «لغم الصحراء» ضمن حقول الألغام التي زرعتها أمريكا في العالم للتحكم فيه.
حتى الآن، لم ينسف الرئيس الأمريكي جو بايدن قرار سلفه ترامب بشأن الاعتراف بمغربية الصحراء، كما كانت ترغب الجزائر، خاصة بعد تأكيد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في جلسة موافقة الكونغرس على تعيينه في منصبه، دعم الولاياتالمتحدة لاتفاقيات السلام بين إسرائيل ودول الجوار، وإعلانه أنها «ستبني عليها مستقبلا»، إضافة إلى عدم إبدائه أي تلكؤ علني في الموضوع خلال أكثر من خمسة لقاءات جمعته ببوريطة حتى اليوم، آخرها في 21 مارس الماضي بواشنطن، فضلا عن الاتصالات الهاتفية بينهما.
مع ذلك، ينشد المغرب مزيدا من تفعيل إدارة بايدن لقرار الاعتراف بمغربية الصحراء، ويعبر عن انزعاجه من تأخر أمريكي في اتخاذ بعض القرارات الميدانية. انزعاج ظهرت ملامحه في خرجتي «التامك»، خاصة ما يرتبط بالقنصلية وصفقة السلاح التي يريدها المغرب بقيمة مليار دولار، والتي سُجل تأخر في مصادقة الكونغرس الأمريكي عليها، رغم إخطاره بتفاصيلها منذ اليوم الموالي لإعلان ترامب «الاعتراف بمغربية الصحراء»، أي في 11 دجنبر 2020، وتشمل هذه الصفقة لأول مرة أسلحة لم تمض على دخولها الخدمة العسكرية في الجيش الأمريكي سوى سنوات قليلة، ويتعلق الأمر بأربع طائرات مسيرة من طراز «إم كيو-9بي سي غارديان»، وذخائر موجهة بدقة من نوع «هيل فاير»، و»بيف واي»، و»جي دي أيه إم». فهل التقطت واشنطن رسالة الرباط المنزعجة؟ سؤال يبقى بدون جواب اليوم، لكن الوقت كفيل بإظهار ملامحه.
السلاح الأمريكي .. صداع الرأس المزمن
رغم أن أمريكا أهم مصادر السلاح والعتاد العسكري بالنسبة للمملكة الشريفة، لكن تحصيل ذلك يسبقه باستمرار صداع رأس كبير، ولا أدل على ذلك التأخر المسجل في استكمال مسطرة مصادقة الكونغرس على صفقة سلاح ضخمة ونوعية، جاءت ضمن التزامات واشنطن في إطار الاتفاق الثلاثي. ورغم موافقة الخارجية الأمريكية قبل أسابيع قليلة على بيع المغرب صواريخ المدفعية «هيمارس» (راجمة صواريخ دخلت الخدمة فعليا في الجيش الأمريكي عام 2005، ويمكنها إطلاق صواريخ عدة دقيقة التوجيه في وقت متزامن)، فإن ذلك لا ينفي الطبيعة المعقدة لعملية بيع السلاح الأمريكي للرباط، والتي تكون محور محادثات ومفاوضات مطولة بين كبار مسؤولي البلدين تمتد لأشهر طويلة. وينتظر المغرب بفارغ الصبر بيعه أربع طائرات مسيرة من نوع «إم كيو 9 بي سي غارديان» من صنع شركة «جنرال أتوميكس» المملوكة للقطاع الخاص. وفي حالة حصول ذلك، سيصبح البلد الثالث بعد تايوان والإمارات الذي سيتحصل على هذه الطائرة المسيرة الفائقة القدرة ضمن أول تصدير لها منذ إعادة الإدارة الأمريكية تفسير اتفاقية أسلحة تعود إلى حقبة الحرب الباردة بين 34 دولة للسماح لشركات الدفاع الأمريكية ببيع المزيد من الطائرات المسيرة للحلفاء. وتتميز هذه الطائرة بحجمها الكبير، حيث يبلغ وزنها خمسة أطنان وتستطيع حمل صواريخ موجهة وقنابل بوزن 1.7 طن، ومصممة بهدف استخدامها كقاذفة للصواريخ تعمل على مدى 3000 كيلومترا، وهي عنصر رئيسي في سلاح الجو الأمريكي والبريطاني. وبفضل نظم الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع التي تمتاز بها، ستعزز هذه الطائرات بدون طيار قدرات المغرب في ما يتعلق بنزاع الصحراء. كما يمكن توظيفها في عدد كبير من المهام فوق المحيط، بفعل قدراتها البحرية، بما فيها المراقبة والمهام المسلحة واستخدام عوامات «سونوبويز» للكشف عن الغواصات وتتبعها.