لاشك أن مرحلة جديدة من الصراعات الدولية ستبدا بين قطب يشهد تراجعا إقتصاديا و عسكريا و بين قطب صاعد سيزيح القوى التقليدية على الزعامة التي تبوأتها لقرون إن احتسبنا المرحلة الإستعمارية الأوروبية، قبل المرحلة الأمريكية، التي تزعمت خلالها هذه الأخيرة حربا باردة بين الكتلتين الشرقية والغرببة . إن التحالف الغربي لن يسلم بالأوضاع الجديدة بسهولة ،لكون النخب السياسية المتحكمة في زمام السلطة السياسية والإقتصادية فيه ستثري العقل السياسي الغربي لعقود قادمة وذلك كمخضرمين عاصروا مرحلة التفوق الغربي، وبالتالي لن يقبلوا التخلص من عقدة الهيمنة التي لازمت مجمل إستراتيجياتهم السياسية في علاقاتهم الدولية، وهو ما يفسر نزوعهم إلى فرض مزيد من العقوبات الإقتصادية على الصين و روسيا وإيران ودول أخرى، رغم الضرر الذي تلحقه هذه العقوبات بالإقتصاد العالمي نظرا للارتباط القوي لاقتصاديات هذه الدول ببعضها البعض. إن مستتبعات الصراع الحالي سترسم معالم حرب باردة جديدة، بخلفيات غير إيديولوجية ما دام أن العالم يعتمد نمط إقتصاد السوق، بل على خلفيات قيمية في العلاقات الدولية تميز ببن من يستند فيها على منطق التبعية الموروثة عن الفكر السياسي الإستعماري الذي تجسده الدول الغربية وأمريكا وتنتهجه مع مستعمراتها السابقة، وقوى عالمية صاعدة ليس لها تاريخ إستعماري، تخضع علاقاتها الدولية لثوابت مبدئية في السياسة والإقتصاد، وتعمل وفق مبدأ رابح رابح، مع احترام القرارات السيادية للحكومات والدول، وتعتمد في بناء شراكات إستراتيجية ثابتة وفق شعار "اتفاقيات دائمة لأصدقاء دائمين". وهي بذلك تدحض مقولة تشرشل القائلة ب "لا صديق دائم ولا عدو دائم ، بل مصالح دائمة " والتي تفرغ السياسة من بعدها القيمي الإنساني والأخلاقي. إن الحرب الباردة الجديدة إذن ستكون مختلفة سواء من حيث : - خلفياتها ومركز القوة فيها . ففي الوقت الذي كانت تسود فيه حرب إيديولوجية ووجودية بين معسكر إشتراكي و0خر رأسمالي، أصبحت بالنسبة للغرب بخلفيات مصلحية ضيقة تروم إلى إبقاء هيمنة إستعمارية سالبة لحقوق الشعوب و ناهبة لثرواتها، مما أدى إلى انكشافها بعد ان تحولت معظم الدول في العالم إلى الإقتصاد السياسي الليبرالي. - أو من حيث إنتقال ميزان القوى فيها من الغرب الأطلسي إلى الشرق الأسيوي الذي انتقل من الدبلوماسية المحايدة والهادئة إلى الدبلوماسية الهجومية المبنية أساسا على الترسانة الإقتصادية والعقوبات المتبادلة وليس العسكرية، رغم إبقاء هذه الأخيرة في موقع الإحتياط الردعي الذي تتكامل فيه الصينوروسيا. لكن قبل أن ينتقل ميزان القوى بشكل جلي إلى الشرق، فإن هذا الصراع سيتطور وفق مرحلتين أساسيتين : - مرحلة أولى سيتصاعد فيها الصراع بين مركزي القوة المتكافئين نسبيا مما سيبقي على مناطق النزاعات التقليدية الموروثة عن حقبة الصراعات الإيديولوجية . كما ستظهر مناطق نزاعات جديدة عبر العالم، دون إغفال إمكانية نشوب إحتكاكات عسكرية مباشرة محدودة بين القوى الأطلسية وبين القوى العسكرية الصينية والروسية في ما يمكن تسميته بحروب جس النبض guères ďintimidation كون الغرب الأطلسي وخاصة أمريكا سيوظف كل إمكانياته لعرقلة هذا التحول لموازين القوى في إتجاه الشرق. وهذه المرحلة ستمتد لعقدين أو أكثر، وذلك حتى يتبوأ الجيل الجديد من القيادات الغربية مقاليد السلطة وفق ظروف دولية مغايرة تخفف من إرث عقدة الهيمنة التاريخية التي كبلت الفكر السياسي الغربي وجعلته غير قادر على استيعاب التحولات الدولية . بعدها سيدخل العالم مرحلة جديدة من سماتها الإستقرار والسلم الدوليين، وستقوم بصياغتها قوى عالمية جديدة بمعية القوى التقليدية لكن بزعامة صينية . وستشهد المؤسسات الأممية خلالها تغييرات عميقة سواء على مستوى قوانينها أو على مستوى أعضائها الدائمين. لكن اذا كان الصراع الدولي يتمحور حول تنازع مراكز القوة فما هو موقع الدول النامية فيه؟ . أليس من نافلة القول إن علىها واجب بناء إستراتيجياتها على إيقاع هذه التحولات التي تؤشر على انتقال مركز القوة من الغرب إلى الشرق ؟. في هذا السياق سأتوقف عند دولتين جارتين تحتلان موقعا جيوسياسيا مهما في شمال إفريقيا والمدخل الغربي للبحر المتوسط. دولتان اتسمت علاقاتهما بالبرود والصراع لفترات متقطعة في الزمن، منذ الحصول على إستقلالهما السياسي، رغم الروابط الثقافية والدينية و التاريخية التي تربط شعبيهما، ورغم ما يمكن أن يشكل اقتصادهما من تكامل قد ينعكس إيجابا على نماء الشعبين، وذلك بدل من أن تبقى علاقاتهما متأثرة بصراعات الحرب الباردة الموروثة عن صراع الكتلتين الشرقية والغربية، وذلك بين نظامين مختلفين أحدهما ملكي تابع للغرب الأوروبي في المغرب وأخر جمهوري انطلق إشتراكيا تحرريا لينتهي إلى نظام وطني ليبرالي في الجزائر ، مع خاصية مشتركة تتمثل في تفشي الفساد و غياب الممارسة السياسية الديموقراطية في كلا البلدين، بالإضافة إلى ما يختزله البلدين من مشاكل حدودية ورثاها عن الإستعمار الفرنسي، وكذا - وهذا ما يثير حساسية دقيقة - إحتضان الجزائر لحركة إنفصالية في جهة الصحراء المغربية. إن النزاع ببن البلدين الجارين يبدو انه مرشح لمزيد من التصعيد في ظل الصراع الدولي الحالي ما لم يتحسس البلدين الأهمية القصوى لتصحيح هذه العلاقة بما يخدم مصلحة الشعبين الجارين، خاصة مع تزايد الإهتمام بهذه المنطقة ببن القوى المتصارعة عالميا، وهو ما يمكن أن يحمل مزيدا من المخاطر التي ستؤجج هذا النزاع في حالة ما كان إختيار علاقاتهما الدولية يتواجد على طرفي نقيض من هذا الصراع الدولي . كما أنه يمكن أن يشكل فرصة لحل جميع النزاعات وبناء وحدة إقتصادية وسياسية إن كان إختيار علاقاتهما الدولية منسجما مع التحولات الإستراتيجية في مراكز القوى الدولبة. في هذا السياق أقول أن المغرب، وتماشيا مع هذه التحولات عليه ألا يذعن لعلاقات التبعية الإستعماربة، خاصة وأن الغرب أصبح يعيش مرحلة الأفول لصالح قوى إقتصادية وسياسية عالمية جديدة ستحدد مصير العالم في المدى المتوسط. وعلبه فإن المغرب وجب عليه ان يترجم إستقلالية قراره السياسي عبر نهج سياسات متوازنة مع الإنفتاح على الصين من أجل ربط علاقات شراكة إستراتيحية دائمة، خاصة وأن هذه الأخيرة هي من يتنبأ بتصدره مركز القوة العالمي، وأن لا ينصاع للضغوطات الغربية، وأن لا ينخدع بالموقف الأمريكي الأخير والمتاخر من القضة الوطنية، والذي جاء كخطوة إستباقية من أجل قطع الطريق على المغرب بعد إنفتاحه على الصين ،واستمالته لصراع خاسر للغرب والمغرب إن ربط إرتهاناته به. هذا في الوقت الذي ندرك فيه أن ملف الصحراءالمتواجد باللجنة الأممية الرابعة، لن يحله هذا الإعتراف بقدر ما أن مفتاح حله داخلي وإقليمي يمر عبر مسارات أساسية في مقدمتها تفعيل الممارسة الديموقراطية والرفع من نسبة النمو الذي سينعكس إيجابا على جميع المغاربة. هذا بالاضافة الى فتح قنوات النقاش المباشر مع الجزائر للنظر بكل جرأة في المصالح الإقتصادية التي تعود بالمنغعة المشتركة للبلدين في أقاليمنا الجنوببة وعموم تراب البلدين. إن توجه الجزائر نحو الصين الذي أثار حفيظة فرنسا والإتحاد الأوروبي مؤخرا عبر شراكات إقتصادية إستراتيجية في إطار ما يسمى بالطريق والحزام، والتي شملت الكثير من القطاعات منها الطرق السيارة والسكك الحديدية و الموانىء و الطاقة و أخيرا معامل الحديد والصلب، والرفع من حجم مبادلاتهما التجارية التي بلغت أكثر من ستة مليار دولار، واحتضان الجزائر لأكبر جالية صينية في إفريقيا بلغت ما يقارب السبعين الف. هو إختيار إستراتيجي ذكي ينسجم مع التحولات الدولية و يعكس الى حد ما على إستقلالية القرار السياسي لديها. وبالتالي على الدولة المغرببة الإستفادة من هذه التحولات وتوجيه مسار علاقاتها الإستراتيجيىة بما يخدم مصلحته في التنمية عبر عقد شراكات دائمة مع الصين التي ستشكل مركز القوة الجديد في العالم بدل الرهان على الطرف الخاسر . وهو ما سيعزز اكثر من إمكانية حل مشكل الصحراء المغرببة بتحكيم الشريك الصيني المشترك لكلا البلدين عبر مشاريع إقتصادية مشتركة تعود بالمصلحة العامة على الشعبين. اما رهان المغرب على الغرب الاطلسي المنسحب من الساحة الدولية لصالح القوى الصاعدة الجديدة رغم ممانعته، فلن يكون لصالح المغرب إقتصاديا و ترابيا، وسيبقي النزاع بينهما وحول الصحراء مشتعلا.