يقول برنارد لويس Bernard Luis في كتابه « تنبؤات، مستقبل الشرق الأوسط : "بهذا (يقصد حملة نابوليون بونابارت لمصر) بدأت حقبة من التاريخ وصارت القوة بكل مسؤولياتها في المنطقة تخضع لقوة أخرى خارجها، ما أرسى قواعد العلاقات الدولية ووضعها في يد قوى من خارج الشرق الأوسط ورسم حدود الصراع والتنافس بين قوى أجنبية من خارج المنطقة". التوزيع الطائفي والاثني الأقلياتي في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا كحقيقة سوسيولوجية ثابتة هو حاليا ورقة استثمارية هائلة للاستعمار القادم تحت لبوس جديدة يتم استغلالها لأجل سايكس بيكو 2، على أساسها سيتم إعادة ترتيب خريطة المنطقة كلها و ذلك بعد تصفية الدول القومية القطرية المستحدثة إثر معاهدة سايس بيكو الأولى . سيناريو تفتيت البلدان القطرية لا يستثني أحدا من دول الشرق الأوسط و شمال إفريقيا بما في ذلك الدول التي تقليديا تحسب على الصف الغربي والتي ظلت إلى أمد غير بعيد أعمدة ثابتة لسياساته في المنطقة، فمن يستقرئ مخططات الاستهداف هذه على خلفية ارتباط المصالح الغربية ومن ورائها الصهيونية مع أحد قطبي الصراع المحتدم الآن في الشرق الأوسط من دون القطب الآخر فلا شك أن استقراءه المبتسر ينم عن جهل غير مسبوق لثوابت السياسة الغربية في المنطقة ! . فلا إيران و حلفائها من جانب و لا السعودية و رفقاؤها من جانب آخر هم خارج هذه المؤامرة الكبرى التي حيكت وحبكت خيوطها خيطا بعد خيط وفصلا بعد فصل من طرف القوى الاستعمارية الغربية، الثابت فيها هو مصالحها الآنية والاستراتيجية المتوافقة مع مصالح الكيان الصهيوني، طبعا مع الضوء الأخضر الروسي ا!. إلا أن الاختلاف الجوهري بين هذين المحورين هو أن محور إيران، سوريا و من ثم حزب الله هو الاصلب في مواجهته لمثل هذه المخططات المرسومة سلفا و بالتالي الأكثر حظوظا للحفاظ على كيانه على المديين، القريب و المتوسط لما راكمه من تجارب و خبرات مريرة على مر عقود و عقود من المقاومة و التصدي. بخلاف ذلك، فإن محور الحلفاء التقليديين المصطلح عليه زورا بالمحور السني، هو الآن محكوم بهشاشة خطيرة تتهدد مصيره و كينونته في المستقبل القريب، إذ أنه لا زال يراهن على توازنات مرحلة ما بعد الحرب الباردة وسقوط جدار برلين حين آلت الريادة للأمريكيين وحلفائهم، فخلال هذه المرحلة اضطلع فيها هذا المحور الذي كان ينعت "بالدول الصديقة أو المعتدلة" بدور المنفذ لسياسات الغرب بالمنطقة و ذلك عبر تطويق وتفكيك الدول الأخرى التي كانت تشكل عائقا و تحديا لسيرورة تنفيذ المشاريع الغربية والصهيونية التي تمثلت في كل من العراق، سوريا، ليبيا، الجزائر ثم إيران، إذ نجح جزئيا في تنفيذه في العراق بمساعدته "الخلفية" للعدوان الغربي و بعده إثر اندلاع الثورات العربية بالعمل على تسريع سقوط نظام القذافي ولكنه الآن بصدد الفشل في تحقيق مثل هذه الأدوار القذرة بكل من سوريا و مصر !. غير أن هذه الوكالة الإقليمية الخادمة للغرب وإسرائيل في المنطقة هي على مشارف انقضاء مهامها المرحلية و أخذت تفقد صلاحيتها لعاملين استراتيجيين، أولهما فقدان هذه الدول لصدارتها و أهميتها كمنتجي الطاقة عالميا وذلك برجوع إيران إلى السوق وبدء الولاياتالمتحدة باستعمال مخزونها و احتياطاتها الطاقية من النفط الصخري و ثانيهما ابتداء الغد التنازلي لتنزيل المشروع الاستعماري الثاني، الكبير للمنطقة، خطوطه العريضة هو تهيئة الشروط السياسية و الاجتماعية لانتقال متدرج للكيان الصهيوني من مستوى إسرائيل الدولة المنعزلة إلى مستوي الدولة الكبرى التي ستمارس هيمنتها كقوة عظمى في سياقها الإقليمي على كيانات إثنية و طائفية!. ، و ذلك كما قلت في مستهل هذه المقالة بتفتيت الدول القطرية إلى كيانات قزمية إما على أساس طائفي أو إثني، فمثلا السعودية يراد تفكيكها إلى ثلاث كيانات متناحرة على أقل تقدير، نجد، الطائف ثم الحجاز !. و الاردن ستمزق أطرافه الشرقية والجنوبية ليتبقى الكيان الغربي منه ملاذا لفلسطينيي الضفة الغربية التي ستبلعها إسرائيل و سيغدو بذلك بديلا واقعيا للدولة الفلسطينية. ثم مصر يخطط لها سيناريوها مماثلا، تشتيتها لثلاث دويلات، الجنوب المسيحي القبطي ثم الشرق الذي سيقضم قطاع غزة مع شبه جزيرة سيناء و جزء من الدلتا الشرقية ثم الوسط الذي سيحتمي به بقايا النظام المصري. لذلك كما أشرنا في البداية، من كان يرى اصطفاف الغرب مع "المحور العربي الصديق" دون آخرين في مرحلة ما من مراحل التشكل الجيوسياسي للمنطقة و التقلب الدائم للمصالح السياسية الاقليمية بين الاطراف المحلية بكونه اصطفافا كاملا و خيارا سياسيا استراتيجيا سيكون لا محالة قد أغفل -كما قلنا- مبادئ و أسس السياسات الثابتة التي اتبعها الغرب من موقع الهيمنة على السياقات الجيوسياسبة المختلفة التي طرأت و تطرأ على منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا، تلك السياسات التي لم تتغير و لم تحد قط عن أهدافها و غاياتها الجوهرية منذ بدء الفصول الأولى بما سمي آنئذ بعد الحرب الأولى باللعبة الكبرى بين كبار اللاعبين في النادي الاستعماري الغربي إثر انحسار النفوذ العثماني في المنطقة. بهذا نخلص إلى ما عبر عنه في مجاز يحاذي السخرية برنارد لويس في نفس الكتاب: "من وقت إلى آخر كان الممثلون في هذه الدراما يتغيرون والمخرجون يتناوبون والنصوص تعدل لكن المسرحية ظلت تعرض على المسرح ذاته بتغييرات طفيفة ".