تتمة للبحث الذي تناولنا فيه ظاهرة الطلاق بمنطقة الحسيمة، وبعد ان استعرضنا في الجزء الأول منه، واقع الطلاق والتطليق بالمنطقة، وفي الجزء الثاني أسباب التفكك الأسري بالمنطقة نفسها، سنتطرق في هذا الجزء الثالث والأخير للحديث عن انعكاسات الطلاق على وضعية المطلقين النفسية والاجتماعية وكذا انعكاساته المجتمعية بصفة عامة بمنطقة الحسيمة، على أن نقدّم بعض الحلول والآليات الممكن تفعيلها في سبيل التقليل من نسب الطلاق ومن آثاره السلبية، مع الإشارة إلى المعيقات التي تحول أحيانا دون تفعليها او نجاحها. * الانعكاسات المجتمعية للطلاق بالحسيمة يتم الطلاق بين الزوجين بأكثر من طريقة فإمّا أن يكون من خلال قرار شخصي منفرد أو مُشترك، أو بطلب وضغط من الأهل... ومهما تكن الطريقة التي يتم بها فإن ما يترتب عليه من نتائج تنال من مختلف أبعاد الحياة الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وتنعكس مباشرة على أطراف علاقة المصاهرة المباشرين جميعهم .. الزوجين وأطفالهما وأسر والديهما وعلى بقية أفراد المجتمع الكبير بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وعلى هذا الأساس سنحاول رصد مجمل الانعكاسات التي تتولد عن الطلاق، سواء الاجتماعية والاقتصادية أو النفسية. الانعكاسات الاجتماعية و الاقتصادية للطلاق. لاشك أن الطلاق يترك بصمته وآثاره على مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمطلقين، حيث تغيرات وتحولات على مستوى وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، مما يعكس على حياتهم اليومية في مرحلة ما بعد الطلاق. والنتائج التي يحدثها الطلاق للأزواج والمجتمع بمنطقة الحسيمة، لا تنفصل ولا تختلف عن مجمل الانعكاسات التي تتولد عن هذا الانفصال بمختلف ربوع الوطن، مع بعض الفوارق البسيطة التي تفرضها خصوصيات المنطقة وبيئتها الاجتماعية والاقتصادية. - الانعكاسات الاجتماعية. تتجلى انعكاسات الطلاق السلبية من الناحية الاجتماعية في كسره لتسوية العلاقات الاجتماعية بين الأسر المتصاهرة وإحلاله القطيعة بين الأهل. فكما يتدخل الأهل في موضوع الزواج يتأثرون كذلك بالطلاق في حالة حدوثه، حيث تطالهم تداعياتهم، فتنشب بينهم صراعات قد تكون بادرة وقد تكون مادية، وهي تداعيات قد تتمدّد فتطال المحيط المجتمعي لطرفي الطلاق، وذلك راجع إلى طابع المنطقة الذي يتسم بالعشائرية، حيث يتحيّز أفراده للعلاقات القرابية في حالة بروز الخلاف بين الزوجين، مما يزيد من عدد ونوعية الأطراف المشتركة في الصراع، بحيث يظهر التضامن الميكانيكي بين أفراد الوحدة القرابية سواء على مستوى الأسرة أو العشيرة، الأمر الذي يُعزّز التوتر الاجتماعي على جانبي طرفي العلاقة الزوجية المُنحلّة. وعلى المستوى الأخلاقي ومن منظور الثقافة المحلية السائدة بمنطقة الحسيمة، تتأثّر المرأة أكثر من الرجل بسبب الطلاق، حيث يتخذ الجميع موقفاً ونظرة سلبية تجاه المرأة المطلقة بصورة خاصة، في حين يتسامح مع الرجل، إلى حدود تقييد حرية المرأة وشعور الأهل بالخشية والخوف عليها أكثر من الابنة غير المتزوجة، الأمر الذي تزداد معه فرض تعرض المطلقة للتحرش والإشاعات، غير أن الثمن الأكثر قسوة يدفعه الأطفال الذين يراوحون داخل إطار قطيعة زواجية بين الأب والأم توازيها علاقة اغترابية ومبتورة اجتماعياً بين أسر والديهما. وأيا كان مكان إقامة الأطفال بعد انفصال الوالدين، سواء كان مع الأم في بيت أهلها أو مع الأب، الذي قد يتزوج بأخرى التي بدورها لا تنظر لأبناء الزوجة السابقة، فهم دائماً عرضة للإهمال والإهانة، الشيء الذي قد يدفعهم إلى تبني سلوكيات سلبية يدفع ثمنها المجتمع برمته، ذلك أن معظم المشاكل التي يعانيها الأطفال هي في الأساس نتاج البناء الأسري الهش الذي كان يعيشون في كنفه. وفي هذا الشأن دلّت كثير من الأبحاث والدراسات أن فشل الأسرة في القيام بواجبها نحو تنشئة الطفل تنشئة اجتماعية سليمة ، يعتبر من أهم العوامل التي تؤدي إلى جنوحه أو تعرضه للجنوح فليس هناك طفل يولد ولديه ميل فطري إلى الإجرام ولكنه يكتسب ذلك من خلال التنشئة الاجتماعية الأسرية الأولى . فزواج كل من الوالدين بآخر وقسوة زوج الأم وزوجة الأب وسوء معاملتها للطفل ينتج عنه هروب الأبناء من الآباء إلى الشارع والانسياق وراء الانحراف بمصاحبتهم لأصدقاء السوء والوقوع في براثن المجرمين، وسلوك دروب الإجرام والطرق غير المشروعة للحصول على لقمة العيش، مما يؤثر سلباً على الصيرورة الطبيعية للمجتمع، على اعتبار أن انحراف الأحداث يعتبر من أخطر المشاكل الاجتماعية، وذلك أن الأمر يتعلق بطاقات بشرية ضاعت في مرحلة مبكرة من عمرها، وأصبحت تهدد أمن المجتمع وتعرض حياة أفراده وسلامتهم للخطر، فصارت بذلك معاول للهدم بدل أن تكون سواعد للبناء - الانعكاسات الاقتصادية. يترتب على الطلاق من ناحية الزوج هدر المال على الزواج السابق وتحمله دفع الحقوق المالية المستحقة للزوجة المطلقة، والنفقات المالية للأطفال، علاوة على كلفة زواجه من غيرها، خاصة في ظل ارتفاع أثمان المهور بشكل كبير، وهي ظاهرة فرضتها عادات وتقاليد المنطقة. أما المطلقة فتخسر ما كانت تتمتع به من "استقلالية" وإعالة مالية كانت من حقها ومن مسؤولية الزوج، الأمر الذي يضعها في موقع اقتصادي-اجتماعي متدن وتحت رحمة الشفقة والصدقة والبحث عن معونة اجتماعية أو رسمية حتى تتمكن من إعالة نفسها وأطفالها، خاصة في حالة تخلي أو عدم قدرة الأهل على إعالتها وأطفالها وامتناع الزوج أو عدم قدرته على الوفاء بالتزاماته المالية، الشيء الذي يجعل أحيانا المطلقة تحتار سبل غير مشروعة لكسب المال، أبرزها سبيل سوق الدعارة الذي ينتعش بالطلاق والتفكك الأسري ، وإن كان هذا السبيل نادر الاختيار من قبل المطلقات بإقليمالحسيمة، نتيجة طبيعة المنطقة المحافظة وعدم تخلي الأهل على ابنتهم المطلقة في أغلب الأحوال. وهكذا فإن المرأة المطلقة أو "ثَزّاتْشْ" باللفظ المحلي، أكثر الأطراف تضررا من الناحية الاقتصادية من وقوع الطلاق وعواقبه، حيث تجد نفسها أمام خيارين أحلاهما مر، فإما أن تعود إلى حضن أهلها فتصير عالة عليهم، أو تتموقع في موضع رب الأسرة من ناحية تحمل نفقات إعالة الأسرة، خاصة إذا كانت تعيل أطفالاً، وأمام شح فرص الشغل بالمنطقة وغياب ثقافة "المرأة العاملة"، تجد المطلقة نفسها مجبرة على خيار العودة إلى حضن الأهل، فيما يختار بعضهن هجرة المنطقة للبحث عن منافذ الكسب والهروب من النظرة المجتمعية القاسية. الانعكاسات النفسية للطلاق. تتحمل المرأة في ظل الثقافة المحلية مسؤولية الطلاق أكثر من الرجل، فمهما كان السبب، فالأمر محسوم فيه: خطأ من المرأة. وتعاني المرأة المطلقة من إحلالها اجتماعياً مكانة أدنى من غيرها من الفتيات غير المتزوجات وبقية النساء المتزوجات، حيث إن الثقافة المحلية لا تتيح للشخص الأعزب خطبة فتاة مطلقة وإن كانت صغيرة السن، خشية من انتقاد أفراد المجتمع وما سيلحق به من إحساس بالعيب الاجتماعي، وفي الوقت نفسه لا تجرؤ هي على البحث عن زوج لإدراكها للموقف الاجتماعي الذي يعرضها للإشاعات والعيب، وحتى إن أتيحت لها فرصة أخرى للزواج فسيكون الزوج في غالب الأحيان شخص متقدم في السن توفيت زوجته أو يرغب بالزواج من أخرى، فتتزوج تحت وقع معاناتها وخشيتها من تكرار زواج قد يكون مستقبله مجهولاً. وهكذا فالرؤية الثقافية المحلية تنظر إلى المطلقة وكأنها هي التي اقترفت الذنب، أما الرجل فيتزوج دون أن يواجه مثل ذلك النقد واللوم الاجتماعي الموجه للمرأة، مما يترتب عن هذه الرؤية الثقافية نتائج نفسية تعانيها المطلقة سواء في مواجهة نفسها أو في مواجهة المحيط الاجتماعي المحلي، إذ ينتابها الشعور بالوحدة والاضطراب والقلق والإحباط، وضعف الثقة بنفسها والندم عن الزواج السابق. وبدورهم يتعرض الأطفال لمضايقات ومشاكل حيثما وجدوا، حيث يؤثر طلاق أبويهما سلباً في علاقة الأبناء بأقرانهم وعلى شبكة علاقاتهم الاجتماعية، فيُنظر إليهم نظرة دونية من قبل المحيطين بهم. ولأن الأسرة هي المنبع الأول للطفل في مجال النمو النفسي والعقلي، والخلية الإنسانية الأولى التي يتربى في كنفها، فإن ما يخل بالسير الطبيعي لحياة الأسرة كالطلاق، يؤثر بلا شك على الأطفال، فلا يمكن تجاهل أهمية الأبوين في تربية وتنشئة الطفل الاجتماعية، فهو يتأثر تأثرا كبيرا بأمه وأبيه في سنواته الأولى، وهكذا فإن الطفل الذي ينفصل عن أبويه أو أحدهما يكون معرضا للاهتزاز والاضطراب والاختلال، وذلك عندما يجد نفسه في خضم عالم مشحون بالحقد والكراهية، مما يجعله عرضة للاضطرابات النفسية وعليه فإن للطلاق آثارا سلبية كثيرة على النمو النفسي للطفل، الشيء الذي يؤدي إلى اختلال نمو شخصيته وضعف الثقة بنفسه، فتسيطر عليه مشاعر القلق وانخفاض الطموح وقلة الرغبة في العمل والإنجاز، وضعف التحصيل الدراسي، إذ أن الطفل يؤدي ثمن فشل العلاقة الزوجية رغم كونه ليس الطرف المسؤول عن فشلها، فعلى الرغم من إقرار القانون لهم بحق الحضانة والنفقة إلا أن النصوص جردت من كل فعالية، فبات الطفل الضحية لا يتلقى في أغلب الحالات سوى مبالغ هزيلة جدا لا تكفي لسد الرمق، هذا بالإضافة إلى حرمانه من الرعاية والاستقرار والرقابة وتتبع دراسته. * المعيقات وآليات المعاجلة سنخصص هذا المبحث الأخير في موضوعنا هذا، للتطرق لبعض الآليات التي من خلالها يمكن إيجاد بعض الحلول النسبية لإشكال الطلاق المتفشي في المجتمع، وتداعياته السلبية على كل الأطراف المُتدخّلة، وقبل ذلك سنستعرض بعض المعيقات التي تعترض هذه المجهودات التي تصب في حل إشكاليات الطلاق . المعيقات. إن السبيل نحو الحد من تفشي الطلاق في منطقة الحسيمة، تشوبه مجموعة من المثبطات، التي تُعطّل آليات التقليل من سلبيات هذه الآفة التي تنخر المجتمع وتهدم تماسكه. ومن بين الصعوبات التي تحول دون الحد من الارتفاع الكبير للطلاق في إقليمالحسيمة، تعاطي مخدر الحشيش من طرف أبناء المنطقة، خاصة في الجهة الغربية للإقليم، نظرا لما تشهده هذه الأخيرة من زراعة للقنب الهندي، مما يجعل كل أسرة مهددة في استقرارها، نظرا للمخاطر الكثيرة التي تسببها هذه النبتة واستعمالاتها الخاطئة. كما أن ربط المعيشة بالقنب الهندي يهدد الأمن الأسري، فغالبا ما تنتظر هذه الأسر بيع المحصول من أجل صرفه على الضروريات وبعض الكماليات إن أمكن طيلة السنة، مما يربط استقرار هذه الأسر بالقنب الهندي، وخاصة تلك الأسر التي تتخذ هذه الزراعة مصدرا واحدا للدخل، في ظل ندرة الموارد والاستغناء التدريجي عن الزراعات الأخرى كالقمح والشعير والخضروات والفواكه وغيرها. زيادة على ذلك تشكل "الأمية" أو المستوى التعليمي-الثقافي المتدني للأزواج وكذا الطبيعة الانفعالية لأبناء المنطقة المُتّسمة بالعناد أو "ثغنانت" بالتعبير المحلي، عائقاً يحول دون الحفاظ على تماسك الأسرة، ويُعجّل بحدوث الطلاق في أحايين كثيرة، نتيجة التشبث المبالغ فيه بالرأي، الشيء الذي يُقّلل من فرص نجاح مسطرة الصلح التي تُباشرها الأجهزة المختصة. كما للثقافة الخاطئة التي تؤطر المجتمع المحلي دور في تقويض مهام مسطرة الصلح، حيث يعتبر اللجوء إلى المحكمة فتحا لباب عداوة لا يمكن أن تحدث بعده أية محاولة للصلح، إضافة إلى كون كثير من الأزواج المتقاضين لا يفهمون مسطرة الصلح فهما مؤسساتيا، حيث يعتبرونها إجراء شكليا يسبق الإذن بالطلاق. وللوضع الاقتصادي الهش للمنطقة، وتفشي البطالة في صفوف الشباب، دور بارز يُسهم في الحيلولة دون تخفيف نسب الطلاق المسُجلة، إذ أن أي اختلال في النشاط الاقتصادي للزوج يجعله في وضع هش يصعب تداركه، نتيجة شح فرص الشغل بالمنطقة، مما يؤثر بشكل مباشر عليه وعلى محيطه الأسري وعلاقته الزوجية، لاسيما إذا استحضرنا الطابع الاستهلاكي للمجتمع الحسيمي، حيث تعرف المنطقة تضخما سريعا في كلفة المعيشة آليات المعالجة. مما تقدم لاحظنا كيف أن الطلاق قد انتشر وتزايدت حدته في منطقة الحسيمة، وذلك نتيجة العديد من العوامل المتداخلة الأساسية منها والثانوية، ولمعاجلة هذه الآفة لابد من تجاوز الأسباب المؤدية إليها، عبر تكاثف جهود مختلف المتدخلين. وعليه فإن الآثار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المترتبة على الآفة لا يمكن التغلب عليها أو تجاوزها، إلا إذا تدخل المجتمع بأفراده ومؤسساته وهيئاته الاجتماعية والدينية والقانونية، والتزام الموضوعية في معالجة هذه المشكلة دون تسييس أو أدلجة. ومسؤولية معالجة آفة الطلاق التي تهدم أهم أركان المجتمع ، تقع في المقام الأول على الأفراد: أي الأزواج أو المقبلين على الزواج، عبر اتخاذ تدابير وقائية من الطلاق كالتريث في اختيار الشريك، على اعتبار أن التريث وعدم التسرع في اختيار شريك الحياة من ضرورات نجاح الزواج، مع مراعاة التقارب العمري والفكري والتجانس الثقافي والتركيز على توافر أكبر عدد ممكن من القواسم المشتركة بين الاثنين. كما يجب على الزوجين وبالأخص الزوج الاعتماد على الذات في مرحلة ما بعد الزواج، إذ أن كثيراً من المتزوجين يعتمدون على الأهل سواء من ناحية السكان أو المصاريف اليومية، الأمر الذي يبقيهم تحت سلطة الأهل ورهن متطلباتهم وشروطهم، مما يُضعف من شخصيتهم أمام زوجاتهم. كما يتعين على الزوجين التخلص من الدوغمائية عند الجلوس على مائدة الحوار الأسري، لأن الحوار هو علاقة إنسانية، أي هو تأثير الناس في الناس، ولهذا فينبغي أن يتوقع الزوجان من وراء الحوار أن يحدث تغير في آرائهما ومواقفهما، ولا يصح النظر إلى ذلك على أنه نوع من الهزيمة، ورحم الله الإمام الشافعي الذي كان يقول: "والله ما ناظرت أحداً إلا أحببت أن يظهر الحق على لساني أو على لسانه" . وعليه يجب على الزوجين التشبّع بثقافة الحوار الهادف واحترام الآخر، ولعل أفضل قدوة في هذا الشأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يستعمل أسلوب الحوار الهادف لإقناع الزوجة بالعدول على خطأ وقعت فيه، أو فكرة مسبقة حملتها وهي غير صحيحة. ولا شك أن إتباع مثل هذا الأسلوب داخل الأسرة له أثره الكبير في استقرارها وضمان مستقبلها، حيث يجعل الأسرة تتنسم نسائم الحرية، وهي تتبادل الآراء فيما بينها وتتحاور في كل مشكلة تعرض لكي تتجاوزها بالإضافة إلى الحوار يتعين على الزوجين التشبّع بقيم التفاني والإيثار والمحبة والكرم، باعتبارها القيم المرجعية التي تؤسَّس عليها الأسرة والتي تتنافى تماما مع الأنانية والفردانية، مع ضرورة اقتناع الزوجة بأن التفاني في خدمة زوجها ليس خضوعا ولا ضعفا، كما تصور ذلك بعض الأطروحات النسوانية التي تساهم في تقليص مساحة الإنسانية من الأسرة والمجتمع، وتدفع في نهاية المطاف المرأة إلى أن تتوقف عن أن تكون امرأة تقوم بدورها ووظيفتها في تعزيز قيم التضامن والتفاني والإخلاص. ويمكن للأهل كذلك المساهمة في معاجلة آفة الطلاق وتداعياته، عبر احترام خصوصية الزوجين، فعلى الرغم من أن الزواج ليس ارتباطا بين فردين فقط،، إلا أن هذا لا يعطي لأسرتي الزوجين الحق بالتدخل في شؤون أبنائهم، إذ أن تقبل أهل الزوجين للطرف الآخر ودورهم في رعاية الحياة الزوجية لأبنائهم في بادئ الأمر اجتماعياً واقتصادياً، لا يعني استمرارهم في التدخل بخصوصياتهم الزوجية بعد انفصالهما عن أسرتيهما. زيادة على ما ذُكر لا بد من تفعيل دور الثقافة الدينية والاجتماعية في مواجهة التوظيف السلبي لوسائل الاتصال الحديثة بما يحمله ذلك التوظيف من كلفة مادية وآثار اجتماعية سلبية، وذلك عبر مؤسسات وهيأت عمل أهلية، مدنية ورسمية تعزز الالتزام الثقافي الفكري والأيديولوجي والرمزي بقيم الثقافة الإسلامية ومبادئها في مواجهة ما تلحقه ثقافة العولمة من سلبيات وأضرار تمس واقع حياتنا. ومن جهة أخرى يجب معالجة قضايا الأسرة بعيداً عن الأدلجة والتسييس، فرغم الخلافات التي تعبر عنها المكونات الموجودة داخل المجتمع المدني، إذ أنه ليس مقبولا أن يتم الاستعمال السياسي لقضية المرأة من قبل بعض الجمعيات النسائية والذي يشكل -الاستعمال السياسي- خطرا حقيقيا على الأسرة واستقرارها، خاصة في ظل التحولات العالمية التي أحدثت انقلابا في وضعية الأسرة من السكن إلى اللااستقرار، ومن التضامن إلى الفردانية، من الأسرة التي تشكل نواة المجتمع إلى تأليه الفرد، هذا فضلا عن تغير أدوار كل من الرجل والمرأة، وبالتالي فإن أدلجة قضية الأسرة وتسييسها يزيد وضعها هشاشة، ولا يساهم في تقديم أي حل لها، كما أنها لا تستطيع أن تقاوم ولا أن تستمر في تشكيل نفسيات متوازنة أو قادرة على ضمان نقل القيم . كما يجب التوجه نحو دعم مراكز التوجيه والإرشاد الأسري لتقوم بدورها في درئ التصدعات التي تتعرض لها الأسرية وتقوية فضائها وتنمية قدراتها وتأهيلها للقيام بوظيفتها التربوية عبر إشاعة ثقافة أسرية هادفة وبناءة، وتعزيز البناء التعاقدي والأخلاقي للأسرة وتمتينه، مع إرشاد المقبلين على الزواج وتأهيلهم لإنشاء أسرة مستقرة . وبدورها يجب على المؤسسات الإعلامية وجمعيات المجتمع المدني العمل من خلال برامج وأنشطة تستهدف المتزوجين والمقبلين على الزواج، على نشر الوعي بأهمية التماسك والتعاضد الأسري وآثاره الإيجابية على الحياة النفسية الاجتماعية والاقتصادية للأفراد والمجتمع برمته، مع التحذير من مخاطر الطلاق واستبيانها مستفيدين بذلك من خبرات المطلقين لما لها من أهمية في المساعدة على تجنيب الأزواج من السقوط في خندق الطلاق. وعلى المستوى القانوني-القضائي تُجدر الإشارة إلى أن من بين أهم ما جاءت به مدونة الأسرة هو خلق قضاء أسري قائم بذاته، غير أنه تم الاكتفاء بخلق أقسام الأسرة تابعة للمحاكم الابتدائية وإنما قد توجد داخل المحاكم، وبذلك تنتفي فلسفة المشرع في خلق أقسام الأسرة، وبذلك حان الوقت لخلق محاكم أسرية، من أجل التفعيل المثمر لمسطرة الصلح والرفع من نسب نجاحها. وعليه نقترح إنشاء داخل محاكم الأسرة قسم التسوية المنازعات الأسرية يتكون من منتدب قضائي وهو بمثابة رئيس القسم ومن مساعد اجتماعي ومن مساعد نفسي ومن مساعد تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، يكون دوره هو القيام بالصلح ما بين الزوجين في مجال التطليق وباقي قضايا الأسرة، وبالتالي لا يمكن طرح النزاع أمام القضاء إلا بعد طرحه أمام قسم التسوية المنازعات الأسرية تحت طائلة البطلان، وإذا توصل هذا القسم بالصلح فيكتفي القضاء بالمصادقة عليه، أما في حالة فشل الصلح يعرض النزاع أمام القضاء مرفقا بتقرير قسم تسوية المنازعات الأسرية يستأنس به القضاء من أجل معرفة مكامن النزاع .
خاتمة: إن ما تقدم من عرض لمعضلة الطلاق، وما للمتغيرات الاجتماعية والثقافية من دور في تزايد نسبته لم يكن من باب الوصف، لكن للوقوف على حقيقة هذه المتغيرات وتحليل الكيفية التي تتفاعل فيها مع بعضها لتؤدي إلى إحداث الطلاق، إذ لا يوجد سبب بعينه يعمل على تعاظم حدته بقدر ما هو تضافر مشترك لمجموعة متشعبة ومتداخلة من المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية عملت مجتمعة على رفع نسبة الطلاق في منطقة الحسيمة ذات الثقافة الريفية المتأثرة بواقع حضري وعمولة مؤثرة. وقد توصلت هذه الدراسة البحثية من خلال المعاينات الميدانية والوصفية، إلى أن اتخاذ قرار الطلاق بالمنطقة محل البحث، يتأثر بالعملية التي يتم بها اختيار الشريك وبطبيعة المشكلات التي تواجه الأزواج بعد الاقتران، وأن الزواج وفق الثقافة المحلية ليس مجرد ارتباط بين فردين، وإنما بين عائلتين، وأن كثيرا من حالات الطلاق تحدث بسبب تدخل الأهل في حياة أبنائهم لعدم إدراكهم لخصوصية حياتهم الزوجية بعد انفصالهما عن الأسرة. كما تبيّن أن النسق القيمي في المجتمع وما يتضمنه من أفكار وقيم وعادات وتقاليد وثقافة عن الزواج، وطريقة اختيار الشريك والعلاقة بين الزوجين، والصفات والطبائع الخاصة لكليهما تؤثر سلباً أو إيجاباً في طبيعة سير العلاقة بينهما، وان الزواج في هذه المنطقة يستند إلى مجموعة من المعايير الاجتماعية والثقافية السائدة التي يشكل الخروج عليها مقدمات لخلل العلاقة الزوجية. كما للمتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية علاقة مباشرة في زعزعة أسس القيم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبناء الاجتماعي، اتجهت به نحو تبني قيم وسلوكيات تجاوزت العادات والتقاليد المتعارف عليها فابتعدت عن معايير التعامل الأخلاقي الديني والاجتماعي بفعل التأثر بوسائل الإعلام وتقنيات الاتصال الحديثة بكل ما تحمله من ثقافة قيمية جديدة، في مقابل تدني الحصانة الثقافية والعلمية وضعفها وتعاظم آلية التقليد والمحاكاة بفعل الانفتاح على واقع جديد فرضته العولمة. بخصوص الانعكاسات توصل البحث إلى أن الطلاق يترتب عليه مشاكل تلحق الضرر بالمطلقين وأبنائهم، حيث إن المرأة المطلقة تخسر استقلاليتها الاقتصادية السابقة في حيث تضاف إلى الرجل أعباء اقتصادية أخرى علاوة على خسارته لعبئ زواجه السابق. وعلى المستوى النفسي تعاني المرأة المطلقة من إحساس بالوحدة وعدم الثقة بالرجال والخشية من مواجهة المجتمع الذي ينظر إليها نظرة دونية، الشيء الذي قد يدفعها إلى مجموعة من الممارسات غير المشروعة. أما على المستوى الاجتماعي فإن النتائج السلبية ترمي بظلالها على العلاقة بين أهل المطلقين التي تسودها القطيعة. ويبقى الثمن الباهظ للطلاق يدفعه الأطفال الذين يتكبدون معاناة اجتماعية بصفتهم أبناء أسرة مفككة وفق الرؤية الاجتماعية السلبية، فضلا عما يلحق بهم من فقدان للتربية الأسرية والرعاية الاجتماعية والاقتصادية. وللحد أو التقليل من الآثار السلبية للطلاق أوصت الدراسة بضرورة تكاثف جهود جميع المتدخلين من أفراد ومؤسسات وهيئات دينية ومدنية و قانونية، وإيلاء الاهتمام الكافي بشؤون الأسرة من جميع جوانبها، وعدم توظيف قضايا الأسرة وبالأخص المرأة في الصراعات والتدافع السياسي.
المراجع المعتمدة: 1 - د محمود سليمان موسى، قانون الطفولة الجانحة و المعاملة الجنائية للأحداث ، الطبعة الأولى، 2002 ص 111، أوردته نورة البوشيلي، في مقال تحت عنوان:"الآثار الاجتماعية والتربوية للطلاق"، منشور بالموقع الإلكتروني: www.marocdroit.com، في 19 ماي 2013. 2 - فاطمة السليماني: إدراك الحدث الجانح للخبرات المؤلمة في الطفولة وعلاقتها بميله للجنوح، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في علم النفس الاجتماعي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، 1999، ص 2. 3 - حسب دراسة مستقلة ومعمقة أنجزتها المنظمة الإفريقية لمكافحة الإيدز حول الدعارة في المغرب، سنة 2008، فإن المطلقات يُشكّلن نحو 40 في المائة من العاملات في هذا الميدان. 4 - أورسولا كينغسميل، وراء باب الفناء .. الحياة اليومية للنساء الريفيات، ترجمة: عبد الله الجرموني، منشورات تيفراز ناريف، الطبعة الأولى 2010، ص53 5 - فاطمة الزهراء العزوزي، "الطفولة المشردة : مدينة فاس نموذجا "، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمكناس، الموسم الجامعي 2009 / 2010 ،ص 34 . 6 - د: جمال الخمار، الطلاق في منطقة الريف .. واقع وحلول، مقال منشور في الموقع الإلكتروني دليل الريف Dalil-Rif.Com ، بتاريخ 17/11/2015. 7 - حسب إحصائيات كشفت عنها المندوبية السامية للتخطيط ، يعرف إقليمالحسيمة ارتفاع مؤشر أثمان الاستهلاك بمتوسط سنوي قدره +1.9%، محتلا بذلك المرتبة الثانية على المستوى الوطني، بعد الدارالبيضاء، مما يجعله إحدى الأقاليم المغربية التي تعرف تضخما سريعا في كلفة المعيشة، وهو تضخم لا يتناسب مع تواضع النشاط الاقتصادي للمنطقة. 8 - د. عبد الكريم بكار، التواصل الأسري (كيف نحمي أسرنا من التفكك)، دار السلام للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2009، ص 82. 9- د: عبد السميع الأنيس، الأساليب النبوية في معالجة المشكلات الزوجية، منشورات دار ابن الجوازي، ص 103. 10- دة: رجاء ناجي مكاوي: قضايا الأسرة بين عدالة التشريع، وفرة التأويل، قصور المساطر، تباين التطبيق، سلسلة اعرف حقوقك، رقم 3، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، الجزء الثالث. 11 دة: سمية بنخلدون، الإرشاد الأسري بالمغرب: الحصيلة والآفاق، ورقة عمل منشورة في إطار مؤتمر الإرشاد الأسري، الكويت 4-6 مارس 2007. 12د: جمال الخمار، مرجع سابق.