تعد ظاهرة الطلاق من أكثر أنماط المشكلات الاجتماعية خطورة على البناء الاجتماعي، لارتباطها بأكثر النظم الاجتماعية تأثيرا في حياة الفرد والمجتمع بشكل عام، ألا وهي الأسرة، التي تشكل الخلية الإنسانية الأولى التي يتربى في كنفها الفرد. وعلى ضوء أهمية هذا الموضوع، جاء اختيارنا له لنتناوله في هذا البحث الذي سيقتصر على حيز جغرافي محدود و مجتمع محلي معين (منطقة الحسيمة)(1) كأنموذج يمكن إسقاطه على باقي المجتمعات المحلية متى توافرت القواسم المشتركة. وسنحاول من خلال هذا البحث تشخيص مشكلة الطلاق في سياقها المحلي بمنطقة الحسيمة، عبر رصد معدلاته للتعرف على واقعه، ثم استقراء تداعيات التحولات المجتمعية المعاصرة في هذه المنطقة على استقرار الأسرة، والبحث في مدى تأثير النسق القيمي المحلي والأعراف الاجتماعية والدينية على العلاقة الزوجية واستقرارها، في إطار مجتمعي محافظ يتمتع بمرجعية تقليدية إلى حد قريب، وذلك لرصد الأسباب الرئيسية والثانوية للطلاق، في سياق ثقافة المجتمع المحلي للمنطقة، و طبيعة مرحلة ما بعد الطلاق وتأثيرها على طرفي العلاقة الزوجية والأسرة والمجتمع برمته. واستعراض ما سبق ذكره سيتأتى بالإجابة عن الإشكالات التالية: ماهي وضعية الطلاق في منطقة الحسيمة وإلى أي منحى تتجه نسبه؟ ومدى تأثر قرار الطلاق بعملية اختيار الشريك وطبيعة المشكلات التي تمت مواجهتها؟ و ما علاقة المتغيرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في المنطقة بحدوث الطلاق؟ و ما طبيعة المشاكل والنتائج المترتبة على الطلاق بالنسبة إلى المطلقين وأطفالهم وأسره ومحيطهم المجتمعي؟ ما دور المجتمع والمؤسسات الرسمية في الحد من ظاهرة الطلاق في ضوء المتغيرات التي تفرض حضورها بقوة على الواقع المعاش ؟ * تطور نسبة الطلاق بمنطقة الحسيمة إن إيقاع الطلاق بالمغرب كان في أغلب الصيغ سلطة يملكها الرجل ويتصرف بموجبها بحق أحيانا وأحيانا كثيرة يتعسف في استعمالها ولا يراعي فيها سوى رغبته أو مصلحته الذاتية، إلى أن جاءت مدونة الأسرة فقننت صيغ الطلاق والتطليق، وأتاحت للمرأة امتلاك نفس ذلك الحق مما حد معنويا من جموح الرجل في استعمال ما تفرد به من سلطة التحكم في مسار الحياة الزوجية، وقيدته عمليا مطوقة إياه بشروط إيقاع الطلاق أو التطليق، أهمها حضور المرأة كطرف معني و مشارك في تحديد المسار من خلال المساطر المقترحة كالطلاق الاتفاقي ومسطرة الشقاق(2). هذه التعديلات الجديدة التي جاءت بها مدونة الأسرة لسنة 2004 كثّفت من السبل المؤدية إلى انحلال الرابطة الزوجية، وأمام محدودية فعالية مقتضيات الصلح كإجراء مسطري يرجى منه الحفاظ على تماسك الأسرة(3)، فإن عددا لا يُستهان به من عقود الزواج بالمغرب تنتهي بالانحلال، سواء بالطلاق أو التطليق. إقليمالحسيمة ليس استثناء من السياق العام لواقع الطلاق بالمغرب، حيث يعرف بدوره تناميا في نسبة انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق أو التطليق، منذ دخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ، مقارنة مع ما كان عليه الأمر في ظل مدونة الأحوال الشخصية، ولدراسة هذا الأمر سنتناول بالأرقام تطور نسبة الطلاق والتطليق في الجهة الشرقية لإقليمالحسيمة وكذا في الجهة الغربية. تطور نسبة الطلاق بالجهة الشرقية لإقليمالحسيمة على مستوى الجهة الشرقية لإقليمالحسيمة (دائرة آيث ورياغل)(4) ، يتَبيّن من خلال الإحصائيات الرسمية(5) أن عدد رسوم الطلاق عرفت ارتفاعاً ملحوظاً، منذ سنة 2004 إلى غاية سنة 2006، حيث انتقل العدد من 281 رسماُ خلال سنة 2004، إلى 340 رسماً في سنة 2006، لتبدأ بعد ذلك نسبة الرسوم بالانخفاض، حيث سُجّل تراجع ملحوظ في عددها منذ سنة 2007 إلى غاية سنة 2013، حيث تقلّص العدد من 300 حالة طلاق سنة 2007 إلى 166 سنة 2013، قبل أن يُعاود العدد الارتفاع من جديد خلال السنتين الأخيرتين، حيث بلغت عدد رسوم الطلاق سنة 2014، 230 رسماً، وفي سنة 2015 إرتفع العدد إلى 240 رسم طلاق. انطلاقا من الأرقام التي أوردناها، يتّضح أن منحى الطلاق بدائرة آيث ورياغل، يتخّذ منحا متذبذباً، حيث يرتفع تارة وينخفض تارة أخرى، إلا أن المُلاحظ أن الأرقام المُسجّلة متقاربة و نسبة التغيّر تظل طفيفة، سواء تعلق الأمر بالارتفاع أو الانخفاض، وهذا ما يُمكن توضيحه من خلال الجدول التالي: أما بخصوص أحكام التطليق(5)، فيُلاحظ انطلاقاً من الإحصائيات نفسها أن الأحكام الصادرة بالتطليق والمَبْنية على إحدى الأسباب المنصوص عليها في المادتين 94 و 98 من مدونة الأسرة، عرفت ارتفاعاً منذ دخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ، مُستمراً بتوالي السنوات، حيث انتقل عددها من 243 حكماً صادرة بالتطليق سنة 2004، إلى 354 حكماً سنة 2007، ثم إلى 414 حكماً سنة 2009، وفي سنة 2010 عرفت حالات التطليق تراجعاً ملحوظاً، حيث لم تتجاوز 238 حالة، وهو التراجع الذي لم يستمر طويلاً، حيث ارتفع العدد من جديد سنة 2011 ( 286 حالة)، واستمر في الارتفاع ليصل إلى 434 حكماً بالتطليق في سنة 2015. ويُشكّل الشقاق أبرز أسباب انحلال الرابطة الزوجية بالتطليق، حيث يحتل التطليق للشقاق نسبة مهمة جداً من مجموع أحكام التطليق المسُجّلة في دائرة نفوذ المحكمة الابتدائية للحسيمة، وسنقتصر هنا على رصد تغيّر نسبة حالات التطليق بدائرة آيث ورياغل، ما بين 2004 و2015، من خلال الجدول التالي: تطور نسبة الطلاق بالجهة الغربية لإقليمالحسيمة في الجهة الغربية للإقليم (دوائر: بني بوفراح و تارجيست و كتامة)(7)، يتضح من خلال إحصائيات رسمية(8) أن حالات الطلاق بالمنطقة غير مستقرة من الناحية العددية، حيث ترتفع أو تنخفض بنسب كبيرة، بين كل سنة وأخرى، فما بين سنة 2010 و 2014 مثلاً، لم تستقر حالات الطلاق في مستوى عددي متقارب، ففي سنة 2010 سُجّلت 82 حالة طلاق، ليرتفع العدد سنة 2011 إلى 200 حالة، وفي سنة 2013 انخفض العدد من جديد إلى 82 طلاقاً، ليُعاود الارتفاع بعد سنة إلى 160 حالة طلاق، وسَنوّضح تغيّر نِسب الطلاق بهذه المنطقة عبر الجدول التالي: وعلى غرار حالات الطلاق، عرفت حالات التطليق تذبذباً في الأرقام، حيث صدر سنة 2010، (85 حكماً بالتطليق)، ليرتفع العدد لأكثر من الضِعف سنة 2011 إلى 211 حكماً، وفي سنة 2012، تقلّص العدد من جديد إلى 141 حالة تطليق، ليُسجّل ارتفاعاً طفيفاً بعد ذلك حيث بلغ عدد أحكام التطليق 150 حكماً سنة 2013، ليُعاود الانخفاض مرة أخرى في سنة 2014 إلى 120 حكماً، كما يُوضّح الجدول التالي: انطلاقاً من البيانات الرقمية التي أوردناها، يتضح أن هناك تفاوتا في نسبة انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق أو التطليق، داخل تراب إقليمالحسيمة، إذ أن النسبة المُسجّلة في دائرة آيث ورياغل بالجهة الشرقية للإقليم تُفوق بكثير مجموع النسب المُسجّلة في ثلاث دوائر أخرى بالجهة الغربية (تارجيست و بني بوفراح و كتامة) رغم التقارب الكبير بين عدد السكان في الجهتين. كما كشفت الأرقام ذاتها عن نزوع الأزواج بالمنطقة نحو خيار التطليق، لإحدى الأسباب المنصوص عليها في مدونة الأسرة، أبرزها الشقاق، مما يعكس تغيّرا جذريا في سلوك الأزواج فيما يتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية. * أنواع الطلاق بإقليمالحسيمة إن ما يميز مدونة الأسرة توسيعها كثيرا من حالات الطلاق والتطليق، وإعطاؤها صلاحيات واسعة للقضاء من أجل مراقبة قضايا الطلاق والتطليق، وذلك من أجل خلق لحمة وتماسك بين الأسر المغربية، ومن أجل حمايتها من التشتت. كما وسّعت المدونة حق المرأة في طلب إنهاء العلاقة الزوجية بالاتفاق، من خلال الطلاق الاتفاقي(9) الذي يعتبر مقتضى جديدا لم يرد عليه النص في مدونة الأحوال الشخصية الملغاة، وذلك تحت مراقبة القضاء، وهذا مظهر من مظاهر المساواة بين الزوجين في ممارسة حق الطلاق، فإرادة الزوجين هي التي أبرمت عقد الزواج من خلال التوافق والتراضي، ومن ثم فما بنته إرادتان لا تهدمه إرادة واحدة(10). ومن شِق التطليق وسّعت المدونة حالاته وأسبابه ، حيث شملت بالإضافة إلى الحالات الخمس الواردة في نصوص مدونة الأحوال الشخصية الملغاة وهي: التطليق للضرر، ولعدم الإنفاق، ولعدم الإنفاق، وللعيب، وللإيلاء و الهجر، والتي عرفت بعض التعديلات بدورها، حالة التطليق بسبب الإخلال بإحدى الشروط التي تم الاتفاق عليها في عقد الزواج، وطلب إنهاء الرابطة الزوجية للشقاق(11). هذه الحالات والأسباب الجديدة التي جاءت بها مدونة الأسرة، لقيت إقبالاً كبيراً، خاصة الطلاق الاتفاقي الذي يُعتبر في الوقت الراهن من الطرق التي يسلكها عدد مهم من الأزواج الراغبين في إنهاء الرابطة الزوجية، الشيء الذي أسهم في تراجع الطلاق الخلعي بشكل كبير لصالح الطلاق الاتفاقي، كما يُعتبر أيضا التطليق بسبب الشقاق من الأسباب الرئيسية والهامة المُستحدثة في مدونة الأسرة، والذي يحتل الصدارة مقارنة مع الأسباب الأخرى لإنهاء الرابطة الزوجية. وهذا ما يقع بالفعل في إقليمالحسيمة، حيث يُسجّل الطلاق الاتفاقي أرقاماً كبيرة منذ السنة الأولى من العمل بمدونة الأسرة، في مقابل اضمحلال الطلاق الخلعي، الذي اختفى من خريطة إنهاء الرابطة الزوجية بإقليمالحسيمة. وبدوره يسجّل التطليق للشقاق أرقاماً هامة ترتفع كل سنة، حيث بلغت عدد الأحكام الصادرة بالتطليق عن المحكمة الابتدائية بالحسيمة في الفترة الممتدة بين (2004 و 2015)، 3904 حكماً، فيما بلغت الأحكام الصادرة عن القاضي المقيم بتارجيست في الفترة الممتدة بين (2010 و2014)، 645 حكماً، ليُشكّل بذلك سببا رئيسيا لإنهاء العلاقة الزوجية بالتطليق في منطقة الحسيمة. وزيادة عن الطلاق الاتفاقي والتطليق للشقاق، يعتبر التطليق للغيبة من السبل التي تسلكها عدد من الزوجات بالمنطقة للانفصال عن الزوج الغائب أو المسجون، حيث يحتل هذا النوع من التطليق المركز الثاني بعد التطليق للشقاق من حيث عدد الأحكام المُسجّلة بشأنه في الإقليم، فيما يُسجل التطليق للضرر أو لعدم الإنفاق أرقاماً متواضعة ومتقاربة، أما التطليق للعيب فلم تُسجّل منذ سنة 2004 إلى غاية 2015 إلا حالة واحدة، قضت بها المحكمة الابتدائية بالحسيمة سنة 2011، في الوقت الذي سُجّلت فيه حالتان لدى مركز القاضي المقيم بتارجيست لم يصدر بشأنها الحكم النهائي. أما التطليق بسبب إخلال الزوج بشرط من شروط عقد الزواج، أو بسبب الإيلاء والهجر، فلم تُسجّل بشأنها أي حالة في إقليمالحسيمة منذ دخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ. ولتوضيح خريطة الطلاق والتطليق بإقليمالحسيمة، سنستعين بالإحصائيات الرسمية للكشف عن الأنواع المُسجّلة بالمنطقة، ونسبة الإقبال عليها من خلال البيات الرقمية التالية: • أنواع الطلاق والتطليق المُسجّلة بالجهة الشرقية لإقليمالحسيمة في الفترة (2004 – 2015) وفق إحصائيات غير منشورة مصدرها قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية بالحسيمة. • أنواع الطلاق والتطليق المُسجّلة بالجهة الغربية لإقليمالحسيمة خلال الفترة (2010 – 2014). دليل الريف: خالد المسعودي المراجع: 1 - إقليمالحسيمة هو أحد الأقاليم المغربية الموجودة في شمال المملكة المغربية. ينتمي هذا الإقليم لجهة طنجةتطوانالحسيمة ويقع على الساحل المتوسطي، يبلغ عدد سكانه 339654 نسمة (إحصاء 2014) بينهم 236 أجنبي، ويضم أربعة دوائر تتوزع فيها خمس حواضر و31 جماعة قروية. 2 - بسيمة الحقاوي: أربع سنوات على إصلاح مدونة الأسرة، مقال منشور في جريدة التجديد، العدد 2570، السنة 2008. 3 - حسب الإحصائيات الصادرة عن وزارة العدل والحريات سنة 2014، الخاصة بحالات الصلح، فإن نسبة حالات الصلح في طلبات الإذن على الإشهاد بالطلاق، لم تتجاوز في أفضل الأحوال 27.81 بالمائة، وهي أعلى نسبة منذ دخول مدونة الأسرة حيز التنفيذ، وسجّلت سنة 2013. 4 - دائرة ايث ورياغل، تقع شرق إقليمالحسيمة، تضم أربع بلديات، و 16 جماعة قروية، ويبلغ عدد سكانها 200109) نسمة (إحصاء 2014)، أي أزيد من 50 بالمائة من مجموع سكان الإقليم، وهي تابعة لدائرة نفوذ المحكمة الابتدائية بالحسيمة. 5 - إحصائيات غير منشورة، مصدرها قسم قضاء الأسرة بالمحكمة الابتدائية بالحسيمة. 6 - يقصد بها جميع أحكام التطليق التي تصدرها المحكمة بناء على طلب الزوجة أو الزوج، وهي التي ترتكز على أحد الأسباب المنصوص عليها في المادتين 94 و 98 من مدونة الأسرة ويتعلق الأمر ب: الشقاق، إخلال الزوج بشرط من شروط عقد الزواج، الضرر، عدم الإنفاق، الغيبة، العيب، الإيلاء والهجر. 7 - دوائر بني بوفراح، تارجيست وكتامة تقع في الجهة الغربية لإقليمالحسيمة، تقع في نفوذها بلدية واحدة (في دائرة تارجيست)، و 19 جماعة قروية، ويبلغ مجموع سكان هذه الدوائر 199545 نسمة (إحصاء 2014)، وهي تابعة بالنسبة لقضايا شؤون الأسرة لدائرة نفوذ مركز القاضي المقيم بتارجيست. 8 - إحصائيات غير منشورة مصدرها مركز القاضي المقيم بتارجيست. 9 - المنصوص عليه في المادة 114 من مدونة الأسرة: "يمكن للزوجين أن يتفقا على مبدأ إنهاء العلاقة الزوجية دون شرط أو بشروط لا تتنافى مع أحكام هذه المدونة ولا تضر بمصالح الأطفال. عند وقوع هذا الاتفاق يقدم الطرفان أو أحدهما طلب التطليق للمحكمة مرفقا به للإذن يتوثيقه. تحاول المحكمة الإصلاح بينهما ما أمكن فإن تعذر الإصلاح أذنت بالإشهاد على الطلاق وتوثيقه". 10 - إدريس الفاخوري، انحلال الرابطة الزوجية، مطبعة الجسور، الطبعة الأولى 2012، ص 87. 11 - المنصوص عليه في المادة 94 من مدونة الأسرة: "إذا طلب الزوجان أو أحدهما من المحكمة حل نزاع بينهما يخاف منه الشقاق وجب عليها أن تقوم بكل المحاولات لإصلاح ذات البين طبقا لأحكام المادة 82 أعلاه".