خرجت ساكنة الريف عن بكرة أبيها مباشرة بعد مقتل الشهيد محسن فكري مطحونا في حاوية الأزبال، للمطالبة برفع العسكرة وتحقيق الحد الأدنى من شروط العيش الكريم، توفير الشغل وضمان حق التطبيب(بناء مستشفيات) والتمدرس (بناء مدارس ومعاهد وجامعة)، وإنهاء الحكرة والتهميش الممنهجين على الريف منذ مدة ليست بالقصيرة.. رافق خروج أهل الريف إلى الميدان(ساحة الشهداء بالحسيمة. ساحة عدنبي بامزورت. تماسينت. بوعياش..) نقاش كبير بين مختلف شرائح المجتمع المغربي، إعلاميين ومثقفين وفاعلين في السياسة وحتى العامة من الناس.. ولأن النقاش كان مفتوحا زمنيا ومكانيا وموضوعاتيا.. فإنه حمل في طياته الكثير من المغالطات والإتهامات الباطلة، بعضها مقصود بهدف تشويه سمعة الحراك والأخر ناتج عن عدم الإلمام بخلفيات الحراك ومطالبه..وغيرها من الأمور المحيطة به. ولعل المتتبع لمجريات الحراك منذ انطلاقه، سيستنتج- بما لا يدع مجالا للشك- أنه حراك شعبي ومستقل ومشروع، بدليل الإلتفات الجماهيري الواسع حوله، وعدم تدخل الفاعلين السياسيين فيه، وبالتالي استقلالية القرارات المتخذة، وكذا المطالب البسيطة والعادلة التي تم الإعلان عنها (أغلبها يندرج ضمن الحقوق المتجاوزة عند بعض دول العالم) إن إنخراط بعضهم (اعلاميين. فنانين. جمعويين. سياسيين..) في حملة مسعورة تقودها مخابرات المخزن لتشويه سمعة نشطاء الحراك بتلفيق تهم لا علاقة لها بمطالب الحراك من قبيل خدمة أجندة الجزائر والبوليساريو، وتلقي الدعم من الموساد الإسرائيلي، وتهديد أمن واستقرار الوطن.. لهي من الترهات والخزعبلات التي تجاوزها التاريخ، وواضح أن هذه الحملات تقام في إطار عقود عمل مخابراتية مؤدى عنها، كما أن الأنظمة الفاشية معروفة بهذه الخطط التي تحاول من خلالها عزل الحركات الإحتجاجية وإظهارها وكأنها من أعمال "الشيطان".. إن الفعل الإحتجاجي بالريف تأسس على مجموعة من الاعتبارات التي تجعل أمر إفشله يبقى مجرد حلم من أحلام المراهقين، فجغرافية الريف، بتضاريسها الوعرة وطبيعتها الخلابة وعزلة بعض مداشرها عن أجواء "الحداثة".. أمور لا يمكن لها إلا أن تنتج ذواتا لا تعرف للتراجع معنى وللخيانة طعما وللإستسلام ذوقا. كما أن الذاكرة الجماعية لأهل الريف مفعمة بصور الحكرة والتهميش الممنهجين من طرف المخزن، خصوصا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وهو الأمر الذي يغذي هذه الوحدة والإتحاد، لذلك لا أعتقد أنه باستطاعة المخزن التفريق بين الريفيين ولو استعمل جميع إمكانيته الإعلامية والقمعية وغيرهما. لا ننسى أيضا حرقة الريفيين وبسالتهم المعهودة وشجاعتهم المكشوفة في مواجهة المخاطر المحدقة بهم، ولعل مواجهة أجدادنا للإستعمار الأوربي خير دليل.. لقد لقن الريفيين للعالم دروسا في التنظيم، سواء خلال الحرب التحررية(1920-19277) أو خلال الحراك الاجتماعي الراهن. ورغم الأعداد الكبيرة من المتظاهرين إلا أن حكمة النشطاء وحسن تقديرهم للأوضاع دائما ما كانت في المستوى، رأينا كيف تضامن النشطاء فيما بينهم في الساحة، وكيف يتعاملون مع النساء والشيوخ والأطفال ممن استجابوا لنداء قيادة الحراك..لباقة في التعامل وليونة في التوجيه والإرشاد.. وهذه المشاهد هي التي جعلت العقلاء من مختلف بقاع العالم يعترفون بحنكة أهل الريف وسلمية احتجاجاتهم. أمام هذه المشاهد والمواقف الرجولية المعبر عنها علنية من طرف شباب الريف، لم يبقى للطرف الأخر في معادلة الصراع(المخزن) إلا مقاربة الفعل الاحتجاجي بالريف مقاربة عنفية قمعية بوليسية(اعتقالات, قمع الاحتجاجات، عسكرة المنطقة...) لعله ينجح في بتر القاعدة الجماهيرية -التي تستجيب لنداء الخروج للتظاهر بسرعة فائقة وقصوى- عن القيادة الرشيدة.. وهو الأمر الذي فشل فيه المخزن وزاد من تأجيج الأوضاع بالريف، بل وزاد حتى من شعبية الحراك وتمدده إلى خارج إقليمالحسيمة، وانقلب بذلك السحر عن الساحر. إن الهجمة الشرسة التي تقودها الأذرع الإعلامية للمخزن، تأتي في سياق فشل المقاربة القمعية، ومن أجل تضليل الرأي العام الوطني وعزله عن متابعة الأحداث بالريف خوفا من التضامن مع الريفيين والتأثر بديناميتهم النضالية... اليوم، واليوم فقط، علينا كساكنة الريف الإتحاد، في سبيل الريف، أو قل القضية الريفية. وذلك بمواصلة النضال والكفاح بعيدا عن الاتهامات والتخوينات المتبادلة، كما يجب التخلي ولو ظرفيا -في الوقت الراهن على الأقل- عن الأيديولوجيات والانتماءات السياسية كيفما كانت طبيعتها..لأن الريف أكير من هذه الإنتماءات وتلك المواقف المسيجة بأفكار التنظيمات والفصائل الجامعية.