تمهيد: نشر السيد فريد افقير نقدا موجزا لبعض الأفكار الواردة في مقالنا المنشور سابقا تحت عنوان : " داعش والجرائم ضد الإنسانية من زاوية أخرى ".(1) ومن أجل تفعيل الحوار سنحاول في هذا المقال توضيح بعض القضايا والإشكالات التي آثارها الناقد على شكل ملاحظات وأسئلة موجهة لنا بشكل مباشر. وفي مستهل حديثنا هذا نقف بداية عند بعض الملاحظات التمهيدية الضرورية في تصورنا لفهم أهداف وخلفية موقفنا من الموضوع، وفي إطار مسعاي لتفسير موقفي هذا سأثير عدة من الأسئلة والإشكالات أو دعوني أعيد موقفي بصيغة مغايرة، لعلها أكثر وضوحا . هذا أولا، وثانيا لفهم طبيعة ونوعية التعقيب/ النقد الذي قدمه السيد فريد. وبعد ذلك سنمر إلى تناول الموضوع على شكل ثلاث مقدمات فكرية نبسط من خلالها رؤيتنا في موضوع النقاش الدائر بيني وبين السيد فريد المشكور سلفا على مجهوده. ولكي نزيد الموقف وضوحا وبروزا سنسعى في هذا المقال - كما قلنا - تقديم بعض الملاحظات الأساسية حول الأفكار والأسئلة التي عرضها الناقد حتى لا يستمر الالتباس والغموض الذي لا يخدم أي طرف منا. كما لا يخدم القراء المهتمين بهذا الحوار الايجابي مهما تباعدت واختلفت وجهات نظرنا حول القضايا المطروحة للنقاش والتداول الحضاري. ففي هذه الحلقة سنكتفي بتقديم بعض الملاحظات التمهيدية العامة، بينما سنحاول في الحلقة الثانية والأخيرة مناقشة بعض التهم والقضايا التي أوردها الناقد. وفي انتظار ذلك سأترككم مع الملاحظات التمهيدية العامة، واليكم تفاصيلها كاملة. ملاحظات تمهيدية عامة: الملاحظة الأولى: هي أن الكاتب انتزع الموضوع من سياقه وأهدافه بشكل شبه كامل تقريبا ليقدم لنا مجموعة من التهم والأفكار والتأويلات التي لا علاقة لها بالحق والواقع. لقد مارس نوع من العجين اللغوي أن صح التعبير، حاول من خلاله أن يلبسه معاني ودلالات تتنافي مع مبادئ النقد الموضوعي النزيه والمحايد، وهو الأمر الذي أدى به إلى محاكمة المقال وليس نقده بطريقة علمية ونزيهة كما كان يفترض. لقد كان من المفروض على الأستاذ الناقد أن يقدم وجهة نظره بعيدا عن تحوير النقاش من جهة، ومنطق إصدار الأحكام الجاهزة من جهة ثانية. لكن للأسف لم يحصل شيء من هذا القبيل وفق قراءتنا وتصورنا لمفهوم النقد وأهدافه، كما سنوضح ذلك في ثنايا هذا المقال. وهي – الأحكام الجاهزة - شكل من أشكال الخلط والتحريف. ومن جهة أخرى يبدو أن الناقد اعتمد في نقده على منطق وقاعدة " حلال لنا وحرام عليكم " حيث اتهمني بالانتقائية والخلط والتناقض، بينما هو بنفسه مارس نفس الشيء إذا سمح لنا باستعمال منطقه وأسلوبه!! الملاحظة الثانية: هي أن الكاتب لم يتطرق للأسف في نقده للقضايا والإشكالات التي تناولناها في مقالنا الأنف بشكل علمي وموضوعي، حيث اكتفى بالرفض والنفي كما يحصل عادة مع الرافضين للأصوات المغايرة والحقائق التاريخية التي عادة ما تكون مؤلمة وقاسية عليهم، وهي : إن الإسلام وتاريخه ليس كله مشرقا وجميلا كما يتصوره البعض ، بل فيه أيضا ما يكفي من العنف والاضطهاد السياسي والفكري والعرقي والديني، وبالتالي فهو (= الإسلام وتاريخه) ليس دين المحبة والتسامح والسلام والعدل والحرية والمساواة بالمطلق كما يريد الناقد أهامنا . فإلى جانب الغزوات والسرايا التي قام بها المسلمون بحجة نشر الإسلام، سواء في عهد النبي أو بعده، عرف المسلمون حروبا داخلية دامية بسبب الصراعات السياسية من جهة، والصراعات المذهبية من جهة ثانية. هذه الحقيقة الموضوعية هي الوجه الآخر للإسلام والمسلمين كما قلنا في مقالنا الأنف ( ربما هذه الفكرة بالذات هي التي دفعت الكاتب إلى الرد على مقالنا )، خاصة أن الفقه الإسلامي أو على الأقل شريحة واسعة منه، يعتبر الإسلام دين ودولة، وهو الأمر الذي يطرح إشكاليات عويصة جدا في تناولنا للإسلام وتاريخه، حيث من الصعب جدا الفصل والتمييز بشكل دقيق بين أحكام وشرائع وتعاليم الدين والضروريات السياسية التي تخضع لموازين القوى ومنطق المصالح من جهة، وتطور المجتمع من جهة أخرى، خاصة بعد التوسع والامتداد الجغرافي، والثقافي، واللغوي ، والمعرفي، والبشري الذي عرفته الدولة الإسلامية.
في مقابل نفيه ورفضه لموقفنا حاول السيد فريد تبرير الجرائم التي ترتكبها داعش بقوله أنها " ليست من الدين " ، علما أن داعش تنفذ حرفيا ما يوجد في التراث الإسلامي، هذا بغض النظر عن موقفنا مما تقوم به داعش، فهل موقف الناقد هذا نابع من جهله للتراث الإسلامي المليء بصور وحكايات العنف والاضطهاد أم أنه يمارس النفاق الفكري؟ من هذا المنطلق نرى أن الجرائم التي ترتكبها داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية المماثلة تستمد شرعيتها من هذا التراث الموجود والمتداول – للأسف – بكثافة. نعتقد أنه كان من الأفضل للأستاذ فريد - منهجيا- أن يبحث قبل الرد/ الإجابة في المرجعية الفكرية والعقائدية والمذهبية لداعش ليعرف جيدا عن ماذا كنا نتحدث في مقالنا السابق، فربما لو قام بهذا الأمر لكان موقفه مغايرا لما أعلنه الآن !! لقد حاول السيد فريد نفي وجود أية علاقة بين جرائم داعش والإسلام دون أن يدرك أن منطقه هذا لا يلغي بالضرورة حقيقة الوقائع التي ذكرناها، أو التي سنذكرها فيما بعد، كما أنه لا ينفي أيضا موضوعية موقفنا وصحته رغم أنه حاول انتزاع هذه الصفة عن مقالنا دون أن يقدم لنا الحجج التي تؤكد صحة وصواب وجهة نظره وتحليله، باستثناء انتقائه لبعض الآيات والأحاديث التي وظفها خارج سياقها وإطارها العام كعادة كل الذين يحاولون تبرير ما لا يمكن تبريره في عصرنا الراهن المتميز بالانتشار المكثف للمعرفة بمفهومها الواسع ؛ وهي آيات وأحاديث لا علاقة لها بموضوعنا، كما أنها ليست موضع خلاف ونقاش، فعدم ذكرها وتناولها لا يعني بالضرورة أننا نجهلها أو نرفضها كما يعتقد ربما الكاتب، وبالتالي فعدم اقتناعه بموقفنا ليس دليلا على عدم موضوعيتنا. نعتقد أن الزميل فريد لم يدرك بعد أن منهجية/ أسلوب النفي والتبرير أصبحت غير مجدية ومقنعة في ظل تقدم وسائل الاتصال من جهة، وفي ظل تنامي الفكر العقلاني النقدي بين جماهير المسلمين من جهة ثانية. فهو (فريد) لا يستطيع إنكار حقيقة ساطعة مهما سعى إلى ذلك ؛ وهي أن الجرائم التي يرتكبها تنظيم داعش وأخواته أمثال : النصرة، القاعدة وبوكو حرام، وصوت الجهاد، وأنصار الشريعة، وعقبة بن نافع، أنصار المقدس، الهجرة والتكفير وغيرها من التنظيمات الإسلامية المتطرفة تستمد شرعيتها- وبشكل مكثف – من التراث الإسلامي، بل ومن النص الديني نفسه ( = القرآن وما يسمى بالسنة). وحينما نؤكد على هذه الفكرة فإننا نعلم جيدا أن هذه الحركات تعتبر نفسها حركات أصولية سلفية، ومرجعيتها الأساسية في فهم الإسلام هي كتابات ابن حنبل، وابن تيمية، و محمد عبد الوهاب، و أبو الأعلى المادودي وسيد قطب وغيرهم من أقطاب التشدد والتطرف الديني قديما وحديثا. ففي القرآن الكريم هناك عشرات الآيات التي تدعوا إلى قتل خصوم النبي ولو دون حرب،(2) هذا إلى جانب إباحته؛ أي: النص الديني، التهجير وسبي النساء .(3) وبعد كل هذا يأتي السيد فريد ويقول لنا أن ما يحدث باسم الدين ومن أجله ليس من الدين، ترى هل سنصدق القرآن و" السنة" أم سنصدق الكاتب؟ هل عندما تفرض داعش الجزية على مسيحيين الرقة انطلاقا من الآية 12 من سورة التوبة تخالف بذلك الإسلام أسي فريد أم أنها تطبق احد تعاليمه وأحكامه؟ وعندما تقوم أيضا بسبي النساء وبيعهن في الأسواق تخالف بذلك الإسلام أم أنها تطبق أمرا إلهيا كما هو في الآية التالية { .. إلا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم فانهم غير ملومين } ؟ نشير هنا أن داعش وفق العديد من التقارير الحقوقية - منها تقرير منظمة العفو الدولي - مارست الذبح، والتهجير، والسبي بشكل ممنهج ضد الفئات الغير المسلمة، بل حتى ضد الطوائف المسلمة الغير السنية. فقبل شهرين تقريبا ذكرت قناة العربية أن داعش سبت حولي 700 امرأة من طائفة الزيديين و هجرت المئات من الزيديين والمسيحيين، هذا فيما صرحت رئيسة لجنة الدفاع عن المرأة في البرلمان الكردي السيدة إيفار حسين أن داعش اختطفت أزيد من 500 امرأة. علاوة على ما سبق، نلاحظ أن ما تمارسه داعش لم يتجاوز حدود ما هو موجود في التراث الإسلامي. (4) ففي كتاب " السيرة النبوية والدعوة " الذي أصدره معهد الأئمة والخطباء بالسعودية نقرأ ما يلي " ما إن وضع الرسول (ص) وصحبه سلاحهم بعد موقعة الخندق حتى جاء جبريل عليه السلام وقت الظهر واخبره أن الملائكة لم تضع أسلحتها وأمر الرسول(ص) أن ينهض إلى بني قريظة فنادي الرسول: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " ( ص29 ). وبعد خمسة وعشرين يوما من الحصار استسلم اليهود وحكم فيهم سعد بن معاذ " الذي حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات، وهو أن يقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى النساء والذراري " .( ص 30 من نفس الكتاب) بعد هذا التوضيح الموجز نتساءل، هل يستطيع السيد فريد إنكار هذه الحقائق؟ وهل ما قام به النبي ليس من الدين أيضا ؟ وهل قتل كعب بن الأشعث (شاعر)وعصماء بنت مروان(شاعرة) وغيرهم من المعارضين بأمر من النبي حقيقة تاريخية أم لا؟ وهل يستطيع إنكار تهجير يهود بني النضير عن المدينة من قبل الرسول (ص) نفسه وليس من قبل محمود بلحاج؟ وهو النهج الذي سار عليه " خليفة" المسلمين عمر بن الخطاب أيضا حيث قام هو أيضا بتهجير اليهود والنصارى من المدنية؟(5) أليست هذه عنصرية منظمة وممنهجة ضد طائفة من سكان الدولة الإسلامية الأصليين أسي فريد ؟ وهل يمكن أيضا إنكار واقعة حرق كل من أياس بن الفجاءة وشجاع بن ورقاء من قبل أبي بكر؟ وإذا كانت هذه النماذج موجودة في تراثنا الإسلامي، بالإضافة إلى العديد من النصوص الدينية التي تحرض المسلمين على الجهاد في سبيل الله ( بمفهوم القتل وليس بالمفهوم المدني)، فلماذا نتهم داعش بابتعادها عن الإسلام " الحقيقي" ونقول أن ما تقوم به ليس من الدين؟ أما بخصوص سبى النساء فمن المؤكد وفق كتب التراث دائما ؛ وهي كتب سنية معتمدة، أن الرسول (ص) كانت له أربعة نساء من سبايا، ثلاثة من أصول يهودية وهن: صفية، وجويرية، وريحانة، وأخرى مسيحية وهي ماريا. (6) هذا ما يقوله التراث الإسلامي والسيرة النبوية بشكل واضح جدا وليس أنا من يقول هذا أسي فريد، وبالتالي إذا كان من الضروري أن تعاتبني فمن الأجدر لك أن تعاتب وتنتقد التراث الإسلامي وليس أنا. نعتقد جازمين أن السيد فريد يعرف هذه الأمور جيدا ( أو على الأقل جزاءا منها) غير أنه لا يملك الجرأة والشجاعة الفكرية الكافية لقول الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان، أو ربما له حسابات أخرى ( مذهبية وسياسية مثلا)، حيث تناول الموضوع بشكل محتشم جدا وبشكل انتقائي للغاية. واليكم كلامه الذي سيقودنا إلى متاهات لا نهاية لها إذا أخدنا به ، يقول: " ... قد شهد انحرافات خطيرة وظلما وجورا باسم الدين وقد كانت الخلفية الفكرية في معظم تلك المحطات دينية أسس لها " كهنة المعبد " سواء في شرعنة الاستبداد / الحكم لمن غلب – أو قومي( الأئمة من فريش) أو لغوي/ قداسة اللغة أو هيمنة على الشعوب تحت مسميات الجهاد/ الفتوحات، كل ذلك وغير ذلك قد تم باسم الدين.. ولكن ذالك ليس دينا .. " انتهي كلامه. تخامرني أسئلة كثيرة وانا اقرأ هذا الكلام الفضفاض والغير المتناسق، ومنها : إذا كان السيد فريد يقر بشكل واضح أن الخلفية الفكرية لمعظم الجرائم التي ارتبكت في التاريخ الإسلامي كانت دينية فكيف ينفي علاقة ذلك بالإسلام ؟ وهل الإسلام ينطقه البشر أم ينطق بنفسه أسي فريد ؟ ما هي المقاييس العلمية المعتمدة في استنتاج هذه النتيجة؟ أليس هناك تناقضا واضحا بين التحليل ونتيجة التحليل ( التحليل يؤكد والنتيجة تنفي!!) ؟ من جهة أخرى لا نعرف كيف يقول السيد فريد هذا الكلام " كل ذلك وغير ذلك قد تم باسم الدين ولكن ذالك ليس دينا " وهو يعلم علم اليقين أن التراث الإسلامي مليء بالوقائع والأحداث التي تشرع القتل والسبي والتهجير..الخ!!. هذه حقيقة موضوعية لا شك بشأنها، أما مسألة كيف نقرأ هذا التراث فهي مسألة أخرى ليس الآن محل بسطها ومناقشتها. على أية حال، لنتفق مؤقتا مع السيد فريد - من أجل السجال ليس إلا - ونقول أن ما تقوم به داعش ليس من الدين، لكن هذا الكلام يقودنا إلى إشكالات عويصة جدا، حيث أن الكلام يؤكد امرأ خطيرا للغاية، لا اعتقد أن صاحبه فكر فيه مليا، وهو أن الإسلام مازال لم يطبق إلى حد الآن عمليا على أرض الواقع حتى من قبل الرسول (ص) نفسه وخلفائه الأربعة وبالتالي : ما جدوى هذا الدين إذا كان مازال لم يطبق على أرض الواقع مند بروزه قبل أزيد عن 1400 سنة ؟ بل أنه يقودنا إلى مناقشة مشروعية النبي نفسه؟ نطرح هذه الأسئلة؛ أي: السؤالين السالفين، لكون أن ما تقوم به داعش الآن من الذبح وسبى النساء وتهجير الناس من بيوتها سبق أن عرفه التاريخ الإسلامي، بل وعرف أكثر مما تقوم به داعش الآن التي تعلن أنها تطبق شريعة الله ، ومن هنا يمكن القول أن ما تقوم به داعش لا يتنافي مع التراث الإسلامي إطلاقا. ولكن، السيد فريد ينفي بشكل قاطع أن يكون ذلك من الدين(=الإسلام) وهو الأمر الذي ينفي ضمنيا كل ما قام به النبي في هذا الجانب، وبالتالي فمصداقية النبي، بل والرسالة المحمدية كلها، يضعها الكاتب (=فريد) موضع البحث والنقد إذا كان ما يقوله هو الصحيح وليس ما نقوله نحن. وبعد هذا نتساءل إذا كان الأمر على نحو ما يقوله الكاتب فمتى سيطبق الإسلام؟ وكيف ؟ وهل ينفي الكاتب هذا الجزء من السيرة النبوية( القتل، التهجير والسبي)؟ بالإضافة إلى ما سبق، نظيف هنا فقرة أخرى من كلام السيد فريد حتى نعرف عن ماذا نتحدث بالضبط ، يقول : " نعم أن الثقافة والسلوك هو نتاج عوامل متعددة من تقاليد وأعراف وأوضاع اقتصادية وسياسية وحتى دينية ، كما أن الفهم الخاطئ للدين قد يؤدي إلى أنماط سلوكية شادة.. ولكن ما شأن الإسلام بكل ذلك إذ أن هذا الأخير يدعو الناس إلى قيم الخير دائما ..". وهل هناك من يقول بأن الإسلام لا يدعوا إلى الخير والحرية في عموميته وشموليته أسي فريد؟ وبناءا على كلام السيد فريد هل يمكن اعتبار سلوك النبي، سواء تجاه كعب بن الأشعث، ويهود بني قريظة وتهجيره يهود بني النضير ، وسبى النساء أثناء الغزوات والحروب تندرج ضمن أنماط سلوكية شادة وفق تعبير الكاتب ؟ بقيت نقطة واحدة قبل الانتقال إلى الملاحظة الثالثة ، وهي : أننا لا نقارن هنا أطلاقا بين أفعال وأعمال النبي وجرائم داعش، فالنبي ليس في مقام المقارنة نهائيا باعتباره لا ينطق عن الهوى، وبالتالي فهو فوق المقارنة والنقد، كما أننا نتفهم جيدا ما قام به النبي في المرحلة الأولى لظهور الإسلام وبناء الدولة الإسلامية ، هذا الأمر شيء وتشبث بعض المسلمين المعاصرين بأفعال وأعمال الرسول (ص) بحذافيرها ومحاولة تطبيقها الآن باعتبارها جزء من السنة شيء آخر. وعندما نقول هذا لا يعني أننا نطعن في سيرة النبي والعياذ بالله، وإنما نريد فقط أن نقول أن سياقات وظروف قيام النبي آنذاك بتلك الأعمال غير قائمة وموجودة الآن وبالتالي عدم التشبث بها لا يخرجنا من الإسلام ولا يعني بالضرورة أننا ضد الإسلام كما قد يعتقد البعض ربما. فعلى سبيل المثال إذا كان الرسول (ص) قد تزوج عائشة وهي في السادسة من عمرها ودخل بها وهي في التاسعة، (7) مسألة مفهومة في سياق ظروف تلك المرحلة، فإنني كمسلم أعيش في القرن الواحد والعشرين لا استطيع قبول هذه الفكرة واقف في صف المنادين بتزوج الصغيرات لكونها من سنة الرسول (ص) حسب تبريراتهم ( المغراوي مثلا)، وبعد ذلك يحدثوننا عن أخلاق ومكارم الإسلام!!، هل هناك الآن إنسان عاقل وسوي في العالم كله يستطيع أن يزوج ابنته في سن السادسة من عمرها ؟ أليست هذه جريمة من جرائم التي يرتكبها المسلمون في الوقت الراهن باسم السنة النبوية؟ قلنا أننا لا نقارن بين النبي و همجية داعش لكن طبيعة النقاش، والأمانة العلمية، تفرض علينا ذكر بعض نماذج العنف من التراث الإسلامي لعله يقتنع الأستاذ فريد بالفكرة القائلة بأن كل ما تقوم به داعش وجدت في تاريخ الإسلام بصرف النظر عن موقفنا الشخصي من هذا التراث، وفهمنا الخاص كذلك للدين. فالدواعش، وكل المسلمين، يعتبرن الرسول (ص) قدوتهم، وتأسيس الخلافة الإسلامية غايتهم. الم يقول المودودي مثلا " إن المقتضى الحقيقي للدين وهدف المؤمنين هو السعي لإقامة حكومة إسلامية في هذه الدنيا ". (8) هذا إلى جانب معرفتنا - ويعرف ذلك عيرنا أيضا ، أن العديد من الإسلاميين المتطرفين يتشبثون بحرفية النصوص التي تأمر بالقتل والذبح والسبي وكل من يخالف هذا التوجه يتهم بالكفر ومناهضة الإسلام والمسلمين، ونماذج من تاريخنا الإسلامي كثيرة جدا. الملاحظة الثالثة: هي أنني لا اكتب من أجل إرضاء جهات معينة، ولا من أجل إرضاء خواطر الناس/ القراء، وإنما اكتب من أجل التاريخ أن صح التعبير ؛ وهو الأمر الذي يجعلني لا أهادن في قول الحقيقة مهما كانت قاسية ومؤلمة أحيانا ، فالحقيقية الموضوعية فوق أي اعتبار بالنسبة لي ، حيث أن غايتنا من الكتابة هي المساهمة في إبراز الحقيقة ولو في إطارها النسبي طبعا، وبالتالي فإننا نتوخى المساهمة في تجديد الفكر الإسلامي وإشاعة ثقافة الحوار والبحث في التراث الإسلامي المليء بالفتاوى والتأويلات التي تعتمدها بعض الجهات الإسلامية المتطرفة في تبرير وشرعنة جرائمها ضد المخالفين لها في العقيدة والمذهب، وبالتالي فإنها تشكل أرضية خصبة للخطاب الإسلامي المتطرف في مشارق الأرض ومغاربها. وحينما نقول هذا الكلام فإننا ندرك جيدا كيف يتشبث البعض بحرفية النصوص التي تأمر بالقتل في سبيل سيادة الإسلام، ومنها الآيتين التاليتين { فقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} والآية { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}. علاوة على عشرات الآيات التي تؤكد أمر القتل، هناك أيضا ترسانة هائلة من الأحاديث " الصحيحة " التي يتشبث بها المتطرفين، ومنها مثلا الحديث القائل " .. بعثت بالسيف.. " ، " .. لقد جئتكم بالذبح.. " أو الحديث القائل " .. لقد أمرت أن أقاتل الناس .." وغيرها.(9) فإلى جانب هذه النصوص الواضحة والصريحة، نجد أن السيرة الذاتية لكل قادة ورموز الإسلام دون استثناء هي أيضا لا تخلو من مظاهر العنف والاضطهاد ضد المخالفين لهم في العقيدة؛ وهي – السيرة الذاتية - تعتبر المثال والقدوة بالنسبة لنا نحن المسلمين في تطبيقنا العملي للإسلام، وبالذات السيرة النبوية وخلفاء الراشدين المبررة وفق ظروف وطبيعة تلك المرحلة. الم يمارس النبي الاغتيال السياسي حيث اغتال عددا من خصومه امثال: كعب بن الأشعث، وأم قرفة، وعصماء بنت مروان، وخالد ابن سفيان الهذلي وآخرون؟ الم يقتل النبي يهود بني قريظة واهم أسرى؟ الم يعاقب النبي " العرانيين " ( نسبة إلى بلدتهم عرينة) بقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ؟ الم يأمر النبي بتهجير اليهود من المدينة بسبب خلفيتهم الدينية وهو الأمر الذي فعله عمر أيضا ، بل و مازال مستمرا إلى يومنا هذا في السعودية حيث لا يسمح في القانون السعودي لغير المسلمين بالإقامة الدائمة في البلد بسبب نفس الحجة؟ الم يخوض الخليفة الأول للمسلمين – أبي بكر الصديق – حربا مدمرة ضد " المرتدين " عن الإسلام ؟ نضع المرتدين بين قوسين وذلك لكون أن الموضوع فيه نقاش طويل وعريض. وفي هذا يقول الكاتب والمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز " ..ولعل أول – واهم – واقعة تاريخية عبرت عن ميلاد فكرة التكفير في الإسلام هي " حروب الردة" التي خاضها الخلفية أبو بكر الصديق في مطلع عهده " .(10) ثم يضيف نفس الكاتب " .. نعم، يمكن العودة بجذور فكرة التكفير إلى العهد النبوي: حيث كان النبي(ص) في صدام يومي مع الجاحدين برسالته من عرب مكة ويثرب، والحجاز وجوارها(= الكفار) .." (11) أما سياسة عثمان وعلي فهي حكاية أخرى إذا ما نظرنا إليها من زاوية نقدية وليس من زاوية تبريرية وتجميلية كما يفعل البعض.(12) وبعد كل هذه الوقائع الثابتة في التراث الإسلامي نتساءل: هل تتفق ممارسة المسلمين (انظر الوقائع التي ذكرناها ) مع القول بأن الحرية الدينية لغير المسلمين مكفولة في الإسلام؟ وعن أي عدل نتحدث عندما نعلم بهذه الوقائع أم أن للحكاية وجه آخر ؟ هل يستطيع السيد فريد إنكار التمييز القرآني الواضح بين الناس على أساس الدين ؟ وحتى لا نتهم بأمور نحن بعيدون عنها، نذكره بقول الله تعالى { ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم }. أليس هناك تباين وتناقض واضح جدا بين النظرية ( النص) والممارسة( التطبيق)؟ ومن المسؤول عن هذا النوع من السلوك المتجذر في سلوك المسلمين على أكثر من صعيد؟ المسلم يسرق ويزنى ويكذب ويشرب الخمر وووو ورغم ذالك يقول لك انه مسلم، بل وأكثر من هذا يقول لك أن الإسلام أفضل وأجمل دين في الكون!! هذا على مستوى المسلم العادي أم داعش وأمثالها فيذبحون الناس ويهدمون البيوت، وينتهكون إعراض الناس باسم تطبيق الشريعة، ويمارسون مختلف أنواع الفساد الأخلاقي والاجتماعي( جهاد النكاح مثلا) ويقولون أن الإسلام دين الرحمة والتسامح والمساواة !! في جميع الأحوال، نتمنى أن يجيب السيد فريد عن هذه الأسئلة بنعم أو لا فقط دون تفسير وتأويل شخصي له، بمعنى أدق أتمنى أن يجيب على السؤال التالي بشكل واضح ودون لف ودوران: هل الوقائع التي ذكرتها موجودة في التراث الإسلامي أم لا ؟ نطرح هذا السؤال حتى يعرف الجميع (= القراء) هل نحن موضوعين في كلامنا أم أننا نفتري على الإسلام كما يتهمنا البعض دون أن يتحققوا مما نكتب ونقول؟ قلنا نتمنى الإجابة بنعم أو لا فقط، لكون أن موضوع النقاش الآن يتعلق بصحة المعلومات والوقائع التاريخية التي نذكرها وليس بمدى صحتها و ضعفها أو كيف يفسرها الفقهاء، فهذا موضوع آخر يطول فيه النقاش ولا يهمنا بتاتا في سياقنا هذا. كما لا يفيدنا في شيء نهائيا، وذلك لكون أن جميع القضايا الإسلامية عليها اختلاف ابتدءا من كيفية الوضوء وإقامة الصلاة وصولا إلى مسألة دفن الميت، كما أن كل طائفة لها سنتها وتفسيرها الخاص للقرآن وللأحداث التاريخية التي رافقت انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. عندما نستعرض هذه المعطيات والوقائع التاريخية التي تؤكدها مختلف الكتب التاريخية والفقهية، وبالتالي لم نبتدعها نحن، فإننا نفعل ذالك من أجل تقديم الحجة والأسانيد القوية لما نقوله بخصوص وجود علاقة وطيدة بين التراث الإسلامي وما تقوم به داعش وفق التحليل المنصرم، ولا نفعل ذلك إطلاقا من أجل الإساءة والنيل من الإسلام كما يتهمنا الكاتب بشكل مباشر وغير مباشر. نستحضر هذه النصوص والوقائع التاريخية حتى لا يتزايد علينا احد بالقول هذا من الإسلام وهذا ليس من الإسلام. فالمنطق التبريري مرفوض علميا وأخلاقيا، فالإنسان ينفد فقط ما أمر به دينيا(القرآن والسنة) وبالتالي لا مناص من الاعتراف بهذه الحقيقة المؤلمة كمدخل لفهم واستيعاب صورة الإسلام بشكل كامل وشامل؛ أي: بكل ايجابياته وسلبياته باعتباره تسجد عمليا في الواقع التاريخي للمسلمين على مدار أزيد من 1400 سنة. أقول هذا وأنا على يقين أن عدد كبير من القراء سيصدمهم كلامي هذا، وعدد كبير منهم سيشتمني، والبعض الآخر سيكفرونني كالعادة طبعا ، لكن ماذا عسانا أن نفعل؟ فالحقيقة يجب البوح بها مهما كانت مؤلمة ومزعجة أحيانا. لهذا أقول: اتركوا الشتم والتكفير وتعالوا نفكر بهدوء ونتحاور بالعقل والحجة ، لكن قبل هذا أرجو منكم أن تبحثوا عن الحقيقة خارج قناعاتكم وتصوراتكم ومراجعكم وسوف ترون بعيونكم صحة ما نقوله ونطرحه هنا أو في مواقع أخرى. ابحثوا في الكتب التراثية بعقلية النقد وستكتشفون أن الجرائم التي ترتكبها داعش وتنظيمات إسلامية أخرى ليست غريبة عن تراثنا الإسلامي، وهي حقيقة من حقائق تاريخنا الدموي الذي مازلنا نفتخر به للأسف، حيث مازال هناك من المسلمين من يبكي على " ضياع " الأندلس علما أن تواجد المسلمين في هذه الأرض كان تواجدا استعماريا ليس إلا !! ومن المؤكد أن البعض سيحاول دحض كلامنا هذا بالاستشهاد ببعض الآيات والأحاديث الأخرى، تماما كما فعل الأستاذ فريد في رده: آيات وأحاديث تؤكد دون شك سماحة الإسلام ونبيه والمسلمين على العموم، وهي نصوص نعرفها ونقدرها، وبالتالي لا ننفيها ولا نجهلها، لكن قبل أن تشهروا هذه الآيات، و هذه الأحاديث، عليكم أن تعرفوا سياقاتها، فعلى سبيل المثال من الضروري معرفة هل هي آيات مكية أم مدنية؟ فالإسلام في العهد المكي يختلف كليا عن إسلام العهد المدني، سواء من ناحية طبيعة القرآن نفسه أو من ناحية الوضعية العامة للرسالة والمسلمين. ففي العهد المكي كان وضع المسلمين ضعيف ومشتت، كما كانوا يعانون من الاضطهاد القريشي، أما في العهد المدني فكانوا في وضع أفضل بكثير من الوضع السابق عنه، حيث كانوا يعيشون في الوحدة ( تأسيس الدولة) والقوة ( تنظيم الغزوات والسرايا؛ أي: أنهم تجاوزا مرحلة الدفاع عن النفس)، وبالتالي فالوضعية العامة تحولات من النقيض إلى النقيض . ذكر السيد فريد في معرض رده علينا بالآية التالية { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ولكنه ترك آيات قرآنية كثيرة لمجرد أنها لا تؤيد فكرته وموقفه، فهي تعرضت لخصوم النبي حيث تصفهم: بالكذب، وعدم الأمانة، وبالجهل، وبالكفر، وبالنفاق، وبالعمى، ، وبالمشركين، وبالسفهاء وغيرها من الأوصاف، بل هناك آيات وأحاديث تدعو بشكل واضح إلى تصفيتهم نهائيا – خصوم النبي والمسلمين - . ومن جانب آخر، نعتقد أنه من الضروري جدا معرفة طبيعة الآيات التي نستشهد بها في نقاشاتنا وحواراتنا، هل هي مدنية أم مكية؟ هذا أولا. ثانيا هل هي قبلية أم خلفية؟ كما أنه من الضروري معرفة هل هي من الآيات السببية أم إلا ؟ بمعنى آخر هل هناك سبب موضوعي لنزولها أم لا ؟ ثالثا يجب التمييز بين التطبيق العملي للإسلام أثناء الظروف والحالات العادية جدا؛ أي: أثناء الظروف والحالات التي لا يكون فيها الإسلام والمسلمون مهددون من طرف الآخر أوانهم في حالة حرب مثلا، وبين الحالة الاستثنائية؛ وهي الحالة التي يكون فيها المسلمون في الحرب. رابعا من الضروري معرفة هل الآيات التي نستشهد بها منسوخة أم لا؟ فعلى سبيل المثال هناك من ثقات مفسري القرآن من يرى أن سورة التوبة( هناك من يسميها سورة السيف) جبت آيات المسالمة والصفح والعفو وان القتل يتعين أن يلحق حتى بمن وقع أسيرا في أيدي المسلمين. (13) محمدو بلحاج/ لاهاي - هولندا بعض الهوامش: 1: المقال منشور في الموقع الالكتروني دليل الريف تحت عنوان " تعقيب على مقال" داعش والجرائم ضد الإنسانية لصحابه محمود بلحاج". 2: انظر على سبيل المثال الآية 12 من سورة الأنفال، والآية 4 من سورة محمد، والآية 5 من سورة التوبة/ السيف وغيرها من الآيات التي يزخر بها القرآن حول هذا الموضوع. 3: انظر الآية 50 من سورة الأحزاب، والآية 24 من سورة النساء وهناك أيضا آيات أخرى عديدة بالإضافة إلى الأحاديث 4: راجع مثلا: كتاب البخاري واحمد، والطبري، وابن كثير، وابن حزم، اوبن تيمية، والسيرة النبوية لابن إسحاق وابن هشام وغيرهم من الكتب الفقهية السنية. 5: في سياق الالتزام بسنة النبي طرد عمر بن الخطاب أهل الكتاب من بلاد العرب: طرد النصارى عن نجران واليهود عن خيبر/ انظر صفحة 104 من كتاب : تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية" من تأليف السيد عمر فروخ- منشورات دار العلم للملايين – الطبعة الأولى 6: انظر السيرة النبوية " وانك لعلى خلق عظيم " إعداد وإشراف الشيخ صفي الرحمان المباركفوري – الجزء الأول ، باب البيت النبوي صفحة 315 إلى 319 - . 7: انظر عائشة عبد الرحمان " نساء النبي " – الطبعة الثامنة ، دار المعارف ، ص75 -80. 8: إدريس الكنبوري " الإسلاميون بين الدين والسلطة : مكر التاريخ وتيه السياسة " منشورات طوب بريس الرباط – الطبعة الأولى 2013 – ص 125 9: الأحاديث ذكرها كل من البخاري واحمد وابن حبان والبيهقي وغيرهم، وللأمانة فالأحاديث هي موضع خلاف بين أهل العلم من الفقهاء والعلماء ، فهناك من يقر بها( أو ببعضها فقط ) وهناك من يرفضها أو يرفض بعضها. وهذا هو حال أهل العلم دائما في الكثير من الأمور، لكن بالنسبة لنا نحن هو أنها أحاديث موجودة في كتبنا التراثية وهذا ما يهمنا في المقال. 10: انظر كتاب " الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي " منشورات المركز الثقافي العربي – الطبعة الثانية 2008 – ص 96 و97 11: نفس المرجع بلقزيز ص -97 12 : انظر مثلا كتاب " خلفاء الرسول " للكاتب السعودي الدكتور خالد محمد خالد ، دار المقطم للنشر والتوزيع – القاهرة 13: انظر خليل عيد الكريم: " الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية : - منشورات دار مصر المحروسة – ص 54 – الجزء الأول الطبعة الأولى 2004