1-درد شة بين المفكرين حول علاقة اللفظ بالمعنى: سنقوم أعزائي القراء بجولة متواضعة في رحاب الفكر العالمي حول إشكال اللغويات أرتأيت أن أستحضر عبر الذاكرة الإنطباعية بعض الآراء والأفكار في شكل ومضات خاطفة حول علاقة اللفظ بالمعنى لبعض المفكرين المسلمين القدامى والغربيين المحدثين. كي اختصر الطريق الطويل على القراء المهتمين بهذا المجال،ولقد اختلفت الرؤى بينهم باختلاف المنطلقات الملخصة في أربعة وهي: - المنظور الديني:يعتبر اللغة هبة ممنوحة من الله على شكل وحي للبشر -المنظور الطبيعي:نسبت أصل الكلام إلى تقليد أصوات الطبيعة -المنظور الفلسفي:أصل الكلام عقل الانسان المتمتع بفطرة خاصة زود بها جميع أفراد الجنس البشري -المنظور الأنثروبولوجي:أصل اللغة هو العلاقة الرمزية المتبادلة بين صدى المصدر الصوتي ومعناه أ-أسرار بلاغة اللفظ والمعنى في الفكر الغربي: ديسوسور:علاقة الكلمة بموضوعها في الواقع ليست علاقة عضوية توحدية لأنها اعتباطية عشوائية لعبت فيها الصدفة والابداع الذاتي للانسان القسط الأكبر في تبلورها. وكان منطلقه في تقييم اللغة نفسي سيكولوجي.يعتبر سوسور اللغة نظام إشارات وكل لغة تتجلى في إطار إجتماعي يحدد انتظام عملها،شبه أيضا علاقة الدال والمدلول في اللغة بوجهي ورقة،فكما أنه من المحال تصور ورقة بوجه واحد،كذلك من المحال الفصل بينهما. وقد تكون العلاقة بين اللفظ ومعناه تعاقبية تطورية عبر التاريخ كما قد تكون علاقة تزامنية سكونية فالنتين فولوشينوف:انتقد ديسوسور في كتابه {الماركسية وفلسفةاللغة }{1929 بخصوص تحليله السيكولوجي للغة كونه يحاول فرض نموذج مثالي ضمني على العلامات اللسنية في سياق وضعي تجريدي,و أكد الناقد الماركسي أن العلامة اللسنية ظاهرة من ظواهر العالم الخارجي وماهي إلا صيغة أخرى للأشياء المادية كتجسيد للمحسوس،وهذا التجسيد إما أن يكون صوتا،كتلة فيزيائية،لونا،حركة أو تشابها وبالتالي فكل علامة لسنية تحمل في طياتها خصائص العالم المادي على الرغم من اختباءها في عالمها الذهني جاك ديريدا: في متاهة الدال والمدلول و داخل فوضى الكتابي والشفوي،يرى ديريدا بان الشفافية والوضوح هو العنصر المسيطر على مبنى الدال في الوقت الذي يهيمن فيه عنصر الغموض على معنى المدلول،مما يعني استمرارسيناريو الصراع الملحمي لفرض الذات مواكبة مع الرغبة في إضفاء الطابع الطبيعي على الكلام كعملية سابقة على الكتابة التي تعتبر كفعل لغوي مصطنع خاضع لفبركة مقصودة في سياق ثقافي،يحتاج من القراء مجهودا تفكيكيا لإتاحة الفرصة للمقموع والمكبوت العودة من أضيق الأبواب ليتخبط في نسيج التداخل النصي ،مع إعطاء الأولوية للبعد المادي للكلمات.هذا البعد المادي الفريد الذي يتعنت و يجافي و يتحدى كل أحد يحاول نقله بخصائصه وهويته إلى لغة أخرى عبر عملية الترجمة.وفي عملية الترجمة يفرض كيان المعنى على حساب تهميش المبنى.ولا توجد أي دلالة خارج الاطار العام لبنية النص رولان بارث:إن الكاتب قديما يحاول دائمل الانطلاق من المعنى نحو المبنى اللفظي/من المدلول نحو الدال/من المضمون نحوالشكل/من الرسالة نحو البنية النصية/من الفكرة نحو الخطاب/من الشعور نحو التعبير....لكن ما يقرره بارث ويراه واجبا أن يكون هو التأسيس لعملية مقارعة الكلمات و إعادة صياغة المفردات مع ترك الحرية كاملة للمعنى ينساق تلقائيا ويهتم بأمر شؤونه جاستين ليويس: في الوقت الذي يحاول فيه باحثون نزع العلامات اللسنية من سياقها المادي أمثال كوارد،إيليس،سيلفيرمان و طورود{--1980-1977} يرى جاستين ليويس{1983}بأن العلامة اللسنية/المفردة التي تحيلنا على موضوع معين في الواقع/ ليس لديها أي وجود مادي بما أن المعنى يفيض بسلاسة عن الكلمات المنبثقة سلفا عن أشيلءها.إنه الدال فقط،أي الوحدة التي سبقت المعنى الذهني في الوجود هو الوحيد الذي يتمتع بكيان مادي بولطر:{1991}يرى بأن العلامة اللسنية أو الكلمة هي التي تبقى وسيلة أو مركبة ضرورية كي يركبها المعنى فينقاد التحليل السيميائي للمحلل كون أن أي منظومة إشارية تكون محمولة على ظهر وسيلة مادية معينة، لديها مبادئها البنيوية الخاصة بها والتي تخول لها القدرة على الانسجام مع الشيفرة الرمزية للمنظومة الإشارية/ السيميائية التي تنتمي إليها جاك لا كان: إن العقل يفرض درجة من الثبات على الفيض الحركي للتجربة الحيوية فيعتقلها في زنزانة اللاشعور مثلما يطوي ملموسيتها في اللغة أيضا.ويبقى اللاشعور هو معقل الكمال حيث لا نقصان،لا نسيان،ولا غياب.كل شيء يتمركز هناك بما فيها المشاعر نفسها حيث تسبح في واقعية بمذاق خاص. بينما الشعور فيبقى وهما سطحيا لأنه مقطوع الجذور وضحل الوجود مكتفيا بالتصنيف الثنائي للأشياء كلود ليفي شتروس:إن شخص المنطق لا يتقن الفصل بين ماهو واقعي و ما هو مجرد بخصوص المفهوم والمعنى في أغلب عملية التواصل.لكنه مقابل ذلك يتقن كيفية تصنيف نوعية الرسائل المرسلة:في أي خانة ومستوى يجب أن يضعها،تخفيضا لدرجة الفارق الفج بين معنى المدلول ومبنى اللفظ الدال على الشيء غريماس:لاحظ بان المعنى ماهو سوى عملية نقل وتحويل لمستوى تعبيري نحو آخر،مع نقل نموذج خطابي من لغة إلى أخرى.إذن فالمعنى هو تلك الامكانية الانسانية الفريدة في اختراق حجب الغموض المجرد والترميز العابر للمعتاد هيدجر:لخص المعنى في كونه أسطورة للوجود.متى تتم أسطرة شيء ما؟عندما يحفر حضوره في الذاكرة ويتوغل في اللاشعور فيمر من مرحلة المعاش الملموس نحو الغياب المجرد،ولشدة تأثيره في العقول يمسي أسطورة.فالخبز لم يصبح مقدسا عند بعض القبائل إلابسبب ندرة مادة القمح لديهم .فيصبح لذلك شيءا قيمة وشأن يضفي معنى رمزيا ومعنويا أعمق من الوجود المادي الضحل لذلك الشيء المتسم بالسطحية.لم يستطع الناس التواصل معه على الصعيد الرمزي الأسطوري بسبب هذا الحضور السطحي، لكن بعد غيابه مباشرة يتم منحه تأشيرة التحول إلى أسطورة,وقدرة الإنسان الترميزية تتجلى في قدرته تطبيع الأسطورة أي جعلها تبدو طبيعية وأسطرة الطبيعة أي إضفاء النكهة الثقافية على ما هو طبيعي لنفخ روح الاستئناس فيه وجعله يتفاعل مع الوجدان الجماعي ألفريد كورزيبسكي:{1950-1879}مؤسس علم المعاني العامة General semantics ،قال بأن الخريطة كنموذج تجريدي للكرة الأرضية ليست هي الكرة الأرضية كما هي معروفة في المحيط الفضائي/الجغرافي.مثلما أن الكلمة ليست هي الشيء ذاته،الكلمة ذات هوية غيبية روحية لا علاقة لها بالواقع وليس هناك عاقل في كامل وعيه يستطيع أن يتوجه بكل سذاجة نحو صورة بيتزا ليلحسها سيغموند فرويد:إن من لا يميز بين ثنائية اللفظ والمعنى ووحدة الشيء المعبر عن هذه الثنائية ولا يقدر على رسم الحدود بينهما كمثل ذلك الشخص المصاب بهذيان العظام وجنون انفصام الشخصية الذي لا يستطيع ان يفرق بين الواقع والخيال.إن الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات،ففعل النباح والعض يعبر عن ملامح الكلب ككائن حي واقعي أكثر من محتوى صورة كلب أو صوت كلمة كلب.كل من لايميز بين الصيغة الايجابية الأولى والصيغة السلبية الثانية فهو مجنون.لأنه لا يميز بين كلب واقعي محسوس وكلب خيالي وهمي.وقد نستعمل المعنى في السياق المعكوس أثناء تحليلنا لأحلامنا فتكون الاشارة بعد ذلك لمعاني لم تكن بالحسبان كمثال الحلم بالطيران قد يعني مجازا الحنين للرجوع إلى مرحلة الطفولة جان بياجي: في الوقت الذي ينحت فيه العلماء أسماءا لكل شيء معرفي/تقني يكتشفونه أو يخترعونه عبر اشتقاقت لغوية غريبة، يرى فيه الأطفال،حسب جان بياجي، أن لكل شيء في هذا العالم اسم يصدح في بوق الذبذبات الصوتية.كما يجد الأطفال صعوبة في فرز الأشياء ككينونة مادية مستقلة والمعاني التي تمثلها.هذا ما يسمى بالواقعية الاسمية للأطفال الصغار.قام باحثان:سيلفيا وكول ببحث ميداني عن عينة من الأطفال الصغار في ليبيريا.أكدا فيه بأن هؤلاء الصغار مقتنعين اقتناعا جازما بأن الأسماء أزلية و لا يمكن تغييرها بين عشية وضحاها كالشمس والقمرمثلا لأن الله أوحى بها سلفا فترسخت في الأذهان إلى الأبد وما على الانسان سوى ترديدها تلقائيا كونما أن تسول له نفسه تحدي الأمر الواقع بشتى المبررات.ولهذا فشلت تلك اللغات الإصطناعية التي حاول لايبنتز وديكارط اختراعها كاثرين بيلزي:BELSEY إن اللغة في نظرها وعاء لتمثلات الذهن لأشياء الواقع في جمهورية الفكر. بحيث أن أبعاد التفكير نفسها تبقى رمزية معنوية وتقتبس بعضا من ملامح الواقع و أصداءه. لهذا فاللغة واقع مكبوت مورست عليه أشكال القمع لمصلحة البحث عن المعنى داخل العقل كتجربة معاشة. لهذا تبقى الحقيقة رهينة ضمانتين:عالم الأشياء الصامتة و عالم الذات الناطقة.وحينما يتفاعل الصمت مع الصوت،فإن الدلالات المنطوقة لا تستطيع أن تخطئ دروب خريطتها في مرجعية العالم المادي. فالتلفاز معروف عنه أنه نافذة على العالم مثلما هو معروف عن العينين نافذة للروح على العالم المادي.واللغة هي أيضا قناة ناطقة باسم الذات الصامتة و مرآة عاكسة لمجريات الدماغ والقلب في تفاعلهما لارتداء حلة المعنى وإسباغها على وجود الذات بودرياردbodrillard: إن العلاقة بين اللفظ ومعناه الواقعي في نظره أصابتها التعرية بسبب تضخم الواقع بحيث أن العلامة اللغوية أخذت في إخفاء الواقع الجوهري الذي أخذ في الظهور على شاشة الإعلام التواصلي/المقروء والمسموع/في شكل أوهام خداعة.إذن فتقليد جهازنا الصوتي لنماذج الواقع الشيئي،إنما في الحقيقة أخذ يخفي ملامح الواقع ويصر على تغييب الحقيقة كي يعني بها أشياء ليست هي المقصودة في جوهرها كلود ليفي برول:لقد أكد عند دراسته للفكر البدائي ان الانسان البدائي يعتقد جازما بأن للكلمة مضمونا سحريا وفيضا روحيا ملهما.وما معنى الاسم الذي يجسده شيء ما سوى الجزء الباطني لذلك الشيء وهذا ما يفسر التأثيرالفعال للكلام الجميل في القلب، والخطاب الخلاب في أذن المستمع.و أيضا يتجلى هذا السحر في التجسدات المصغرة لأشياء الواقع مثلا:صورة منقوشة تخفي بالنسبة للبدائي أرواحا خفية/دمية تقوم مقام بشري مستهدف قادرة على عكس مايصيبها عليه مباشرة.ما يصيب الدمية من وخز وبزق وتمزيق يصيب ذلك الشخص المراد إذايته قولا وفعلا.باللعنة والابرة.وهنا تكمن سحر الكلمة وقدرتها الخارقة في نظر البدائي والطفل الصغير الذي يسب الباب ويضربها لأنها ساهمت في سقوطه،والمتدين يعتقد اعتقادا جازما بأن المفردات ليست مجرد تمثلات سطحية لأشياء معينة،و إنما هي أسماء أصيلة لهذه الأشياء ذاتها إذ علم الله آدم الأسماء كلها:الكائنات الجامدة والمخلوقات الحية.إذن فهي وحي إلاهي باستثناء بعض المنحوتات اللفظية المستحدثة المنبثقة عن ضرورة معرفية- إبداعية ب-أسرارجمالية اللغة في علم المعاني لدى المفكرين المسلمين القدامى: الجاحظ: في كتابه المعروف{البيان والتبيين} لم الجاحظ شتات معطياته المعرفية والانطباعية عن اللغة وعلومها بحيث تحدث عن طبيعة المعنى كشيء مجرد" قائم في صدور الناس و قلوبهم.تتصورها أذهانهم وتختلج في نفوسهم المتصلة بخواطرهم.فتنبثق عن فكرهم معاني مستورة خفية/بعيدة متوحشة/ محجوبة مكنونة" كأنها أشباح هلامية لا تستطيع الإمساك بها بشكل مطلق.والمعاني لدى الجاحظ "خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية وممتدة إلى غير ما نهاية.أما أسماء المعاني أي ألفاظها فمقصودة معدودة/محصلة محدودة". و قد وصل الجاحظ إلى الحد الذي استصغر فيه شأن المعاني في الظاهر بسبب وفرتها في الطرقات والواقع، مثلما تكثر سلعة معينة في أسواق معينة حيث تنخفض قيمتها بسبب عامل الوفرة في العرض وقلة الطلب.لكنه مقابل ذلك أكد أنه رغم توافر المعاني في كل اتجاه مثل تواجد الحجر والشجر والبشر فإن الذكي البارع في صناعة الإنشاء والتقاط جواهر الحكمة عبر التعبير اللغوي هو وحده الذي يجس نبض تواجد المعاني وصيدها بصنارة الصياغة في الوقت والمكان المناسبين،كان يقال بأن أبا حيان التوحيدي و ابن الهيثم كانا يحولان الحجر إلى ذهب بفضل إكسير كيميائي خارق اخترعاه,الكاتب الممتاز هو أيضا يحول نفايات الكلام المرمي على الهوامش إلى دررنفيسة من المعاني الساحرة وأفكار كريمة رائعة تنعش الوجدان بدماء التجدد. عبد القاهر الجرجاني: في كتابه{دلائل الإعجاز} نجد المعنى عنده" قد استقر على وجه معين يعتمد الاستقلال في كل باب منه.يتسلل في كل نمط من أنماط البلاغة في جانبها الجمالي المستمد من النقد والتذوق الفني للغة عوض التقعيد النحوي الجاف"،وهو تذوق يستظهر المبادئ الجمالية المعروفةكالانسجام/الاتساق، الدقة في الإختيار،الجودة في التأليف بين علاقات الألفاظ فيما بينها،وارتباط التركيبة النصية عامة بالمضمون في وحدة فنية متكاملة. فالصورة اللغوية الجامعة للفظ والمعنى لدى الجرجاني كالجسم و الآلة التي تنتظم في وظيفة محددة.يرى الجرجاني في النص بنظره الثاقب طبقة أولى من المعاني ثم طبقة ثانوية تكميلية غارقة في العمق يعززها فعل الكتابة" بالاصطفاء المعنوي البليغ".ويعززها أيضا فعل القراءة النقدية الفاحصة،موضحا مدى القدرة الابداعية للغة البشرية على الاستجابة الجمالية للأشكال الدافعة للكلمات والتعابير في التأثير والتحول الدلالي.إذ يجد أن التوهج البلاغي للمعنى يشكل لديه أساس البنية الفكرةالأساسية،وعناصرالتكوين الجمالي لدى المتلقي،لهذا نجد أنه ليس هناك معنى واحدا فقط و إنما هناك معنى المعنى،بحيث أن المتكلم يمتلك رؤية عقلية/وجدانية يدرك عبرهما ما لا يدرك بحواسه لإجتماع عناصر السياق الجمالي في تصوره قصد صياغتها ابن جني: معروف بكتابه{الخصائص} , تتقارب عنده" الألفاظ لتقارب المعاني" و" ما اختلاف النظم الشعري سوى اختلاف مظاهر المعنى في النفس".عمد ابن جني مثل ديسوسور إلى دراسة اللغة بشكل بنيوي وظيفي،وفي الوقت الذي اهتم فيه الجرجاني بدراسة اللغة على الصعيد التزامني السكوني أي جغرافيا،اهتم ابن جني بالجانب التعاقبي التطوري للغة أي تاريخيا،يعود الفضل لاتساق النظام اللغوي عند ابن جني إلى القياس،بحيث يجب على النظام اللغوي" أن يكون قائما على حاجة الناس إلى اللغة و على استعمالهم لها...فاللغة ملك الجميع". وبما أن اللغة كائن طبيعي ليس بوسع فرد أو أفراد معينين تصنع نظام لغوي يشذ عن القاعدة اللغوية العامة أو ابتكار لغة خارج نطاق المجتمع فقد أخفقت محاولات قام بها بعض الفلاسفة بخصوص إبداع لغات إصطناعية،كما أن هذا النظام اللغوي الطبيعي دائما في حاجة إلى المرونة لتلبية الحاجات المتزايدة من الألفاظ التي تفرضها ضرورات التطور الحضاري والتقني لدى المجتمعات الإنسانية. سراج الدين السكاكي: في كتابه"مفتاح العلوم" يؤكد السكاكي أن المعنى" ينبثق عن تتبع الخواص المميزة لتراكيب الكلام في تبليغ ما يفيد و تحقيق الإتصال عبر الإستحسان" وعنصر الإعجاب وغيره ليحتاط الكاتب/القارئ من الوقوع في الخطأ أثناء تطبيق فهمه لمقتضى حال الكلام،حتى لا تصير محض أصوات عجماء, إن" تبليغ المعنى مهنة البلغاء الفصحاء المالكين لعلم المعاني " لزمام صناعة الخطاب البليغ والمحسنات البديعية الهادفة والبيان. و إن الفهم السليم لصاحب الفطرة السليمة لا بد له و أن يميز بين كل من يريد التفنن في صياغة الكلام بشكل جمالي غرضه التأثير الوجداني البعيد المدى ،و بين" من يريد نفي الشك والقصد في الاخبار بوجه الاختصار".وعلم البيان يعني التركيز حول نفس الفكرة وتمديد في مساحة معانيها المتعددة لكن في قوالب أسلوبية مختلفة مع المبالغة في التحايل اللغوي لتوضيح المراد من تبليغه بتفصيل .إن النزعة الإنفصالية التفريقية لا تستطيع الفصل بين الروح والجسد،إذن فاللفظ والمعنى وجهان لعملة لغوية واحدة من الصعب الفصل بينهما بشكل اعتباطي.كما أنه تناول أسلوب التهكم في دراسته البلاغية القيمة في تحفته اليتيمة:مفتاح العلوم،بحيث أقامه على بنية التضاد و أدخله مدخل الاستعارة التي أسماها بالاستعارة التهكمية،حيث يقوم أسلوب التهكم مقام أذكى تهجم/حرب باردة.يحصل صدام مخطط له على استعارة أحد الضدين للآخر فيجتمعان مكرهين في عبارة واحدة،فينضمان معا في جهة التناسب وقد تجلى ذلك لدى السكاكي من خلال قولة :{إن فلانا تواترت عليه بشارات بقتله} بحيث أن قول{تواترت عليه البشارات} كطرف أول في الصياغة البلاغية المكتوبة وقوله{بقتله} كطرف ثاني في نفس الصياغة.و لا شك في أن اقتران هذين الطرفين المتعارضين في صياغة متحدة وتحت نفس سقف التوليفة الاستعارية،إنما يشكل البنية الأساسية للإستعارة التهكمية المراد بها السخرية الهادفة التي تستهدف نقدا لاذعا لشخص ما يراه قائل الاستعارة يستحق القتل مع الاستبشار والاحتفال ورضى الناس على حدث القتل والتخلص من هكذا جرثوم مضر بالمجتمع وجعلهم يفرحون بسبب إحتمال مغادرة هذا الشخص حقل الحياة غير مأسوف عليه البتة.ولمزيد من الشرح وتأمل هذا المثال التهكمي،سنجد أن الطرف الأول من العبارة التهكمية لا ينسجم في الأصل مع الطرف الثاني أي أن هناك مفارقة وتناقض واضح يدفعنا للتبسم بخبث والضحك الانتقامي.فالبشارات في دلالة لفظها تنسجم مع كل حدث مفرح يبعث على السرور،في حين كلمة القتل فإنها توحي مباشرة بالعنف والخوف الذي يبعث على الألم و الحزن.و كان من المفترض في الكلام العادي ونحن نروم توجيه ضربة انتقادية للشخص المستحق للقتل أن نقول:تهديدات القتل،وعيد بالقتل وتربص لأجل القتل،عرس جنائزي...إلخ عوض قول:بشارات القتل،الفرح بالدماء المسفوحة،يصفق الناس تصفيقات حارو ومشجعة للقاتل الذي قتل الشخص المذموم هذا. و القضية التعبيرية هنا قضية وجدانية مواقفية أكثر منها قضية إخبارية تقريرية.موقف ذاتي نفسي أكثر منه موقف موضوعي عقلي.إذن فالطرفان المتضادان في الصياغة ينتجان عبر تعارضهما طاقة وجدانية وعنفوانا تهجميا يقومان مقام التناسب/الفوضى الخلاقة في السياسة/التنافر المتناغم في التأليف الموسيقي حينما نعمد إلى تكسير خط المقام بمقام آخر لا صلة له به/ الانسجام داخل الاختلاف والتنوع في الشبكة السوسيو-ثقافية. وهكذا تقوم بنية التهكم في البلاغة على أساس هذا الاستبدال بطريقة الهدم والتشييد لأجل بناء علاقة جديدة بين الألفاظ والمعاني والعمل على تبادل الأدوار لكل طرف من الطرفين المتصادمين داخل نفس البنية القزويني:يرى بأن لفظ الخبر متماه في الفكر والحس لإيجاد علاقة بلاغية جمالية موحية أكثر منها علاقة مباشرة .إن جمالية العبارة لا تقاس بمقياس الصدق والكذب مادامت الذات تتميز بذوقها الخاص في تلمس حقائق الواقع ،إن الجملة تمتعنا جماليا وتحقق لدينا أكبر رصيد من الانتشاء الوجداني والذهني وتاملا فكريا قادرا بإيحاءاته على إعادة صياغة القلب الغافل عن الحق 2-محاولة تركيبية على ضوء معطيات الجولة الفكرية في اللغة : .تتصادم الأهداف والتبريرات لإختلاف النوايا والطرق في فرض الذات.والشعار المرفوع:لم لا يتصالح الجميع لأجل تواصل مثمر عوض فرض الذات في سبيل جزئيات لن تغنينا ملامحها التشرذمية عن تهميش الحقيقة الكلية الكاملة بصفة عامة وتشظية وحدة الكيان اللغوي كما هو؟ إن في الصورة لبعدا لغويا آخر صامتا لكنه أخطر بكثير،ولهذا ورغم سهولة ولوج القارئ لمغزى الصورة فإن كل من يتجرأ على ركوب سيارة مرسومة على ملصق كبير حتما سيتجشم إشكال اتهامه بالأبله أوالأحمق أوالساذج كالطفل الذي يريد دخول التلفازعبر زجاج الشاشة ليتجرع جرعة التواصل المستحيل ُثم المشاركة بدوره في إحدى حلقات الرسوم المتحركة أو برنامج أطفال. و إن مجرد التفكير والتصور بأن الفن التشكيلي يتم تذوقه باللسان وليس بالبصر يعتبر من قبيل الجهل.تحضرني قصة مضحكة لثنائي:الأول بائع يشوي اللحم وفي قبالته يقف زبون افتراضي جائع لا يملك المال، فأخذ يشم بخار الشواء حد الشبع فأراد الانصراف.لكن البائع طالبه بدفع ثمن ما شمه.أخذ الزبون بعض الدراهم من عند البائع وحركها جيدا في يديه كي تحدث رنينا،فأصبحت المعادلة متكافئة و المغزى:هو ان القيمة المجردة المدفوعة نقدا لا تتحقق إلا بحضور نوعية المادة المستهلكة.لقد أكل الزبون وهما إسمه بخار الشواء عبر عملية الشم وهي عملية كيميائية/غازية/روحية لاترى بالعين المجردة.ورنين النقود كصوت مسموع يوهمنا أو يذكرنا بوجود النقود فعلا.إذن فالرنين يدل على النقود والمقصود من الحكاية هو أن قيمة شيء مجرد ما لايتجاوز سقف ما هو مجرد نحو البعد المادي لهذا الشيء. وبلاغة الحكاية تتجلى في وجود عناصر متوازية بينها في شكل تقابلي تضادي:المجرد عكس المحسوس- البخار مقابل اللحم –الرنين مقابل النقود-الشم عوض الأكل-السماع عوض القبض الملموس للنقود-......إن اللغة تدفعنا في كل السياقات الإبداعية لصعود سلم التجريد،وتأخذنا في نزهة ميتالغوية/ميتافيزيقية.أي ما وراء الأسطر و الأحرف لتجاوزمظهرها السطحي مع ترك الطابع الفيزيائي للغة في المؤخرة،خصوصا إذا علمنا على ضوء البصريات الحديثة أن الأشياء المادية ذاتها ماهي سوى ذرات: إليكترونات وبروتونات يعكسها النظام العصبي للبصر وعدسة الإبصار في شكلها المقلوب مثلما تفعل الكاميرا،مما يعني أن الواقع يكون معكوسا مقلوبا في جهاز الاستقبال البصري فيتم تعديله من طرف الدماغ،فندرك صورة الشيء بعد ذلك في شكلها الحقيقي لكن بإيعاز من المبادرة الذهنية التصحيحية القبلية .إن السلوك المنطوق ليس هو الواقع.و الكلمة ليست هي الشيء مثلما أن إسم بوبي ليس بالضرورة يعني الكلب ذاته.في التعبير المجازي الفلسفي يقول الماديون بان هيجل يمشي على رأسه لأنه يجعل الروح سابقة على المادة.وهذا يبقى موقفا شخصي للماديين بعيدا عن المنطق والعلم.فهناك من العلماء حديثا من سيعتبر العكس.أي أن ماركس هو الذي يمشي على رأسه كونه جعل المادة سابقة عن الروح إن كانت الأخيرة موجودة أصلا في قاموسه،تستبد بنا حالات شاذة وسوية كلتاهما فتصطدم المواقف،وكل حالة تريد فرض ذاتها على الأخرى لتشرعن مصداقية وجودها و تستبد بنا بعد ذلك ضرورة التعبير عن المعاني المحلقة كضرورة روحية وجدانية قبل ان تكون أداتية نفعية.خصوصا إذا كانت نيتنا هو إصدار حكم عام أو موقف شخصي عن قضية معينة،أو تصعيد منحنى اللحظة الدرامية والرفع من رصيد السخرية النقدية،فنتسلق جبل الاستعارة و نصعد سلم المعاني كي يتحقق لدينا أكبر درجة من المتعة الجمالية ونتماهي مع أذكى وأبرع مستوى تواصلي قصد تبليغ الرسالة. إن بلاغة المجاز الغرض من استعمالها هو إضفاء طابع التعميم على حالة جزئية شاذة آيلة للزوال،وجعل خطلها عرضة للتهكم بسبب شذوذها واستحالة قبولها بين العقلاء مع تخليد معناها-على حد تعبير هيدجر- والعمل على ترسيخ الإنطباع الداخلي للذات المتلقية وفق الطابع الأسطوري المراد إسباغه على الظاهرة التي تتناولها المحاولة الكتابية/التعبيرية في عمق كينونة الظاهرة المتحدث عنها والتي تتم معالجتها بالتعبير اللغوي البلاغي.قد يكون عاديا ومختصرا ويكون التعبير باردا إن قلنا:{الفن الملتزم الهادف مفيد لإصلاح للمجتمع}،لكننا سنقفز قفزة بهلوانية على مستوى اللغة البسيطة و أمام مستمعين بسطاء قصد شحن بطارية الوجدان الفارغة لو قلنا مثلا :{إن الفن كوعاء يضم عناصر الإلتزام المواقفي ومشروعا أخلاقيا يسبح في نهر الجمال،كلما كان يتقن ركلات المعنى في مرمى الأهداف العامة،كلما صار كنزا وطنيا و ثروة تربوية وينبوعا إصلاحيا سيروي ظمأ أصحاب الطباع العرجاء الذين يعانون من الجفاف الوجداني}. سيكون التأثير فعالا على عدة مستويات.ومن خلال هذا التسامي اللغوي المتسربل بريش البلاغة الجميلة والمعنى الهادف،سنكون قد ألبسنا أجنحة الطيران لجسد التعبيراللغوي كي يتجاوز مستوى اللغةالمعتادة. سنكون بعيدين عن جمالية المعاني البلاغية لو قلنا باختصار وبدون دفء لغوي {سبب مضاربو البورصة أزمة اقتصادية في سوق المال العالمي مما أثر على وضعية الفقراء بشكل سلبي}...لكن لنعزف على أوتار النغمات البلاغية الجمالية ولنضف توابل علاقات جديدة للألفاظ تنزاح معها كل التوقعات لدى القارئ إذن تأمل معي الصياغة الجديدة:{إنخرط المضاربون الظلاميون في السوق السوداء, و تغلغل غول القلق في كهف انخفاض قيمة أسهم البورصة المنهارة،فتحجرت بذلك قلوبهم الجشعة بسبب هيمنة جيوش الفحم الحجري الأسود على منطقة الرحمة حيث تختنق الأخيرة ويصعد دخان القهقهة الشيطانية نحو القمة،فتتمزق الجيوب المعوزة بسبب ألم السغب والحرمان} في محتوى هذه الفقرة نريد ذم سوق المال العولمي المتوحش ،فاخترقنا بفضل هذا التعبير البلاغي المتعالي كل جدران البساطة التعبيرية لنسجل لحظات نقد ميتالغوية فهبت عليها نسمات الجمالية الميتافيزيقية التي تجاوزت السقف الفيزيائي للمعنى,وتداخلت طبقات المعاني عبر عملية الانزياح المتراكم والترميزالمكثف فأضحت الجملة/الفقرة بنية لغوية معقدة حلقت بعيدا في عالم النقر على مفاتيح التأثير الوجداني الكثر درامية،لكنها مع ذلك احترمت سياق علاقات عناصرها بفضل القاسم المشترك المتاح والذي هو موضوع الكلام أو الفكرة العامة أو مضمون الرسالة المراد توصيلها بشكل أكثر تأثيرا ويكون بذلك المعنى لاذعا أو هادئا,المهم في العملية برمتها هو التعليم والنقد مع الامتاع والمؤانسة حكيم السكاكي [email protected]