جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    أحمد الشرعي مدافعا عن نتنياهو: قرار المحكمة الجنائية سابقة خطيرة وتد خل في سيادة دولة إسرائيل الديمقراطية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الولوج إلى أسرار الجمالية والعمق الروحي للتصوير البلاغي -ج2


-4- الما بعد – حداثويون والبلاغة:
إن المابعد – حداثيون مثل ديريدا،فوكو،غريماس،باطاي، هيدجر،بارث،لاكان،لاكوف ... و آخرون، بسبب استعمالهم لغة نموذجية تحتوي على درجة عالية من التشبيه والاستعارة، يؤكدون أنه لا وجود لنص يعني فعلا ما يقوله أما التشكيليون والبنيويون التكوينيون قد يكونوا مقتنعين بأن هناك نماذجا من الإستعارات قد تتسلل إلى النص بشكل إيجابي لكنها تبقى استعارات مبتدعة من الصعب الإعتراف بها في سياق ثقافي أو شبه – ثقافي اعتاد نوعا معينا من الصياغات البلاغية الموروثة إلا أن تفرض الصور البلاغية الجديدة نفسها كأساطير جديدة.لكن تسليط الضوءعلى مظاهر المجاز هذه قد يساهم بشكل او آخر في شكل مفتاح سحري لتفكيك ألغاز النص السرية وتفكيك رموزه لتحديد هوية الواقع المفترض والذي تأخذه تلك البلاغة المخترعة بعين الاعتبار كلسان حال الرسالة التعبيرية المنشودة.إذن فجس نبض نوعية المجاز المراد استعماله حتما سيساعدنا لفهم الآليات المتحكمة في النص المكتوب لاستنباط البنية التحتية وتسليط الضوء على الإطار الموضوعاتي الأساسي . ويرى جاك ديريدا بأن دور التحليل السيميائي هو تحديد الإستعارة الأصلية /الجذر أو المجاز المسيطر بحيث أن الفلاسفة فيما مضى يشيرون إلى العقل أو الفكر باسم المجاز المؤسس على درجة حضور النور أو غيابه. واللغة اليومية حبلى بالتوليفات الفكرية المقترنة باستعارات بصرية مثل : لامع – مشع – كئيب – مظلم – الرؤية – الصفاء – الشفافية – البهاء – الإنعكاس...إلخ . و كما أكد عليه كل من كريس وفان ليوين بأن النظر مجازيا لا يعني استعمال العينين فقط و إنما بالإمكان تصور سيناريو آخر أكثر تجريدا فنفترض ان للدماغ عيونا خاصة جدا بقدرة بصرية ثاقبة لجدران مادية محسوسة،فتخترق حجب الغيب لتغوص في عالم ماوراء الفيزياء لتقتنص لنا معلومات مجردة تدخل في إطار التفكير المجرد والحقيقة الحدسية وهو مايسمى عادة ليس بالبصر و إنما بالبصيرة .ومن عندياتنا الإبداعية سنقول مثلا:{ .......سنلقي نظرة في الإشكال وبعد استيعاب ملامح وجهه والاستئناس بمنعطفاته ومنعرجاته سنكون حينذاك مستعدين لركوب تضاريسه الوعرة بكل إتقان وروح مغامرة مضمونة، حينذاك فقط سنكون قادرين على فتح باب الفهم على مصراعيه والدخول عبره برأس مرفوعة لأننا قد بدأنا مسبقا عملية السيطرةعلى زمام القضية المثيرة لبركان من القلق قابل للإنفجار في كل لحظة ،فارتأينا بعد ملاحظة عميقة بمنظارالتركيز الشديد أن ضوء الوضوح قد تم تسليطه مثل اللايزر على بؤرة التعقيد، فتبنينا بعد ذلك نظرة خاصة جدا حول المشكلة المطروحة وتقمصنا وجهة نظر حاسمة . لنحدد بعد ذلك بكل ثقة رؤيتنا المتميزة في اقتراح الحلول الممكنة انطلاقا من سياقنا الرؤيوي العام أي انطلاقا من الطريقة التي ننظر بها إلى العالم عوض عما نعرفه عنه أو كما نسمع عنه أو كما نتلمسه أو كما نشمه.......} من خلال هذا النص الذي تعمدنا فيه إلى تكثيف الصور البلاغية بشكل تتابعي للتأكيد على حضور فعل النظر الذهني في قضية ما سيجد القارئ أن إسقاط صفة النظر وملامح الوجه والد خول عبر الباب والتحكم في زمام القيادة كلها مظاهر وسلوكات بشرية في الأصل وليست سلوكات ذهنية اللهم إلا من باب التخييل والتوهم ،وبالتالي فإن عملية الأنسنة وتجسيد الطابع المجرد في مفهوم الإشكال والقضية التي تحتاج إلى تفكير ومجهود ذهني لحلها حاولنا حصرها في قالب جغرافي: منعرجات – منعطفات – تضاريس.. مع إسقاط الطابع البشري على أشياء مجردة متعلقة بها كمحاولة لإضفاء الطابع المادي على ما هو روحاني/غائب لتقريبه للأذهان وبالتالي فهو تسهيل لعملية التعليم والفهم للعقول البسيطة السطحية بشكل ربما أكثر متعة كما أرى،أما محاولة تجاوز المستوى الحواسي قصد معرفة العالم إنما يدل رغبة الإنسان المتسامية المتعالية عن مثل هكذا مستوى عوامي ليتم بواسطة نظر متميز وخاص جدا نابع عن بصيرة عقلية- وجدانية.إذن فالنظر من وجهة ذهنية أصبح نظرا بالعين المجازية وبالتالي فهو الوسيلة الأكثر فعالية للنفاذ إلى العمق الجوهري وقياس مصداقية ماهو حقيقي/واقعي أصيل وفصله عن ماهو وهمي حواسي ينتمي إلى عالم ظلال زائل بزوال شمسها المؤقتة. إن كثرة استعمال نفس العبارات المجازية وتكرارها بشكل لا يصيبها تغيير أو مس طفيف على معالمها حسب ميشيل فوكو تتحول إلى كلام مقدس مسلم به ويسميه البعض بالبلاغة الطبيعية. إن هذه الطريقة الجامدة في التصوير البلاغي إنما تحاول صياغة طريقة التفكير بشكل هيكلي جامد حتى يأتي الفارس المغوار ويقتحم حصن الهيكل القديم فيتخلص من تنينات الحراسة فينقذ أميرة اللغة من براثن البوار والإهتراء التدريجي ليبعث فيها نور الأمل في الإستمرار والإنتعاش من جديد.وذلك عبر دفع حصان تعبيره ليرسم خطوات الإنطلاق الصياغاتي فوق سندس البلاغة البهي بكل جمالية وجاذبية. والمهم في كل هذا هو إسقاط عناصر البهاء على الأميرة اللغة الراكبة بمعيته على حصان التعبير لتظل دوما عروسة في المستوى المطلوب والقادرة فعلا على استقطاب أكبر عدد من الأتباع والأنصار لتطوير البنية اللغوية المرشحة للموت حضاريا إذا لم يحدث تدافع وتنافس في تنويع الأساليب لصياغة المعاني المطروحة في الطريق كما قال الجاحظ ، ويبقى الرجل الشجاع والفارس المغامر هو ذلك الإنسان ذو الشخصية المتميزة برهافة إحساسه وذكائه اللغوي وفكره الغزير و حسه الجمالي الشديد الولع بخلق علاقات خيالية جديدة بين الكلمات تحمل مشروع رؤية مستقبلية و تتقن عزف الأوتار الوجدانية المناسبة في الوقت المناسب لدى المتلقي للصور البلاغية داخل نص يستهدف تبليغ رسالة مهمة. إن الشجاع الجرئ المساهم في تجديد خلايا اللغة الذابلة هو ذاك الذي يتجاوز هيكلها البلاغي القديم ليضفي عليها لمساته الفنية المواكبة للمستجدات العالمية بصور بلاغية صادمة تصفع كل من تجمد عقرب عشقه على موجة لغة البلاغة المهترئة التي انتهت صلاحية تأثيرها بسبب كثرة الإستهلاك لطاقتها وذبول بريق نضارتها، فتنتزع هذه المحاولات التمردية التجديدية إزار التقديس على الأدب الكلاسيكي والقوالب التقليدية التي يعتقد أنصارها أنها محتوية على بلاغة طبيعية مسلم بها و أنه ليس هناك أبدع مما كان، وتبقى القشرة الطبيعية في البلاغة المتبجح بها أنها ظاهرة طبيعية مجرد ظاهرة ثقافية مصطنعة يتحكم فيها الإبداع البشري داخل اللغة لا أقل ولا أكثر . وخير دليل على هذا هو أن التعابير الجديدة مع تقادم الزمن تفرض نفسها كأساطير وبالتالي يأتي عليها الدور ليتم تجاوزها بفضل السنة الإلاهية في التغيير والتجديد التي منحها لبني البشر كي ينفخ روح التجدد في الكون من جديد وحتى يستمر سحر البلاغة في الصدى الجمالي الرائع الذي تحدثه في النفس البشرية عندما يتقن الكاتب الفذ عملية العزف على نغمات الأوتار الحساسة للنفس البشرية كي يقنعها .
-5-الهجوم الرمزي للإبداع البلاغي على ضحالة الذهنيات المادية السطحية:
إن البلاغة في زخمها الإبداعي تشن هجوما رمزيا اضطراريا وغير مباشر على كل تعابير استنفذت طاقتها الجمالية بسبب تقادم الزمن واكتساح المستجدات للساحة التعبيرية فتصدم الذهنيات المادية السطحية المغرمة بمظاهر الظاهر الظواهري والراضح لقواعد الحواس المحسوسة عبر صفعها على قفاها والضحك على ذقنها لأنها تجهل تذوق عمقها الروحي وأبعادها المقا صدية. إن البلاغة الأصيلة تبدو كسيارة فاخرة متينة وجاهزة للإنطلاق بمحركها النفاث قصد تقليص مسافات البعد واختصار الطريق التعبيري لتزويد نص لغوي بطاقة الإستعارة الميتافيزيقية كي تتحول معانيه الماوراء – لغوية بسرعة صاروخية ومنعشة إلى أساطير مستحدثة تحفر في الذاكرة الثقافية المندهشة أمام الإبداع البلاغي الجديد الذي يعمل على توسيع رقعة الإستقطاب الإجتهادي على الصعيد اللغوي بفضل ترسيخ تذوق الجديد ورفع راية التحدي لمواجهة عنصر التعقيد المطروح من طرف إبداع فني ما ويخبئه التعبير المجازي في طياته والبلاغة من تحت جلبابها المنطوق والمسموع الذي اعتدنا عليه في الحياة اليومية. إن التصوير البلاغي المبتدع سيؤدي بنا إلى التورط في هوة المفاجأة،فتغدو في نهاية المطاف من العمق بمكان بحيث تستجمع الذات المتلقية العاشقة للصورة البليغة،كل إمكانياتها الوجدانية المتاحة للتوغل في قيمة الصورة التعبيرية المعنوية الجميلة بعد تضافر الجهود الإدراكية في صياغتها بإتقان فائق. فتطفو المتعة الوجدانية على السطح بعد تفكيك رموز اللغز التعبيري المقصود من وراء ه عرقلة عمالقة الغرور المعرفي و إزعاج العقليات الكسولة التي ترفض الإعتراف بالبعد الشعري الجميل للغة البلاغة علاوة على قدرة الأخيرة على القيام بوظيفة الإخبار والعلم لأنها تستنزف حسب الاعتقاد الخاطئ كل الطاقة المجهود ية في مواجهة البركان الرمزي الذي ينضج بالروحانية المعقدة اللامفهومة الملابسات. إن الاستعارة كمكون أساسي للنمط التعبيري الوجداني يجعل من عملية التحطيم البناء لكل تقليد لغوي و إزاحة المعتاد السطحي من التعابير عبر إشاعة جو الفوضى الخلاقة داخل الألفاظ كي يصبح السهل ممتنعا والواضح غامضا والبسيط ملتويا،لكنه رغم ذلك، فالكل يقوم بوظيفة خلق انسجام في عمق المستحيل للحفاظ على التماسك الداخلي أو بالأصح لتجاوز المعتاد نحو انسجام جمالي خارق.مهمته الأكثر أهمية هوصياغة لب الجمالية وجوهرها الروحي في قالب مكتوب،مقروء،مسموع،مرئي... وتطعيم طاقم نجاحه التبليغي بمهمة خارقة تعمل على تركيع المستحيل في قضية التواصل والتأثير من منطلق روحاني قادر على تفتيت الصخر كما هو الشأن في المضامين الاسطورية حيث يتم تصوير الموسيقى مثلا كأصوات ملائكية ساحرة تؤثر حتى في الصخر فيتفتت من شدة التأثر الساحر هذا إذا كنا بصدد تسليط الضوء على جانبها الإيجابي الممجد لأهمية الموسيقة في تهذيب الوجدان وصقل الروح وتجميل الفطرة الإنسانية مع استلهام الجماهير المقهورة بجذوة الوعي قصد تغيير الوضع المتردي. أما إذا كنا نريد العكس فإننا سنعمل على صياغة الحكاية الأسطورية المتطرقة إلى الموسيقى كموضوع في قالب يصب في سلبية الموسيقى كأصوات شيطانية نريد بواسطتها تخدير الجماهير وغسل الأدمغة وتمييع الأخلاق عبر صور بلاغية تدعم ذلك. بينما نجد أن لغة العقل والتي يلصقونها بالأسلوب الرقمي ،فهي تصمم الكون هندسيا حسب قول هيدغر انطلاقا من نقط محددة ومعادلات رياضية،وتلم شمل أبعاده لتضفي معايير تصفية دلالاته الجوهرية نحو الأفضل في إطار المنافسة العادلة للقيم الكونية ووفق اللعبة التعبيرية الراضخة لقواعد الإبداع اللامتناهي في مرونته. و إذا كان التشبيه واضح بلاغيا عبر استعمال كلمات: مثل – ك ، فإن الإستعارة توليفة مركبة معقدة لأنها مظلة لغوية يستظل بها عدد لا محدود من المعاني. وهنا يكمن جوهر البلاغة بأنها تعبير ذاتي الفهم وتجريب نوع من الأحاسيس والامور بلغة فهم وتجربة أخرى حسب رأي لاكوف. فمغزى الصورة البلاغية وفحواها المقصود في ذاته غالبا ما يتم إركابه مركبة شيء آخر و بالتالي فإن الإثنين تجمعهما صورة مشتركة تعني شيئا واحدا. فلو قلنا مثلا:الموت مدرسة مفيدة وجيدة ،سنجد أن القاسم المشترك بين الموت والمدرسة في هذه الصورة التعبيرية البلاغية هو التعليم/ التلقين/التربية/ الردع. هدفنا من وراء هكذا تصريح بلاغي هو محاولة التعريف بهوية الموت في إطاره التربوي الضابط لإيقاع الإندفاع الغرائزي وفرملته. و إذا قلنا بأن: - العين نافذة الروح – الغابة رئة العالم – الفن مرآة الواقع – الحاجة أم الإختراع – التجربة عجلة الحياة ...إلخ، فإن مجموعة من الصور الذهنية والتهيؤات التخيلية تتزاحم على إدراكنا وتتوافد على فكرنا فنحاول تفكيك ألغاز معانيها واختيار أنسب صورة للفهم و أقربها للسياق الذي جاءت فيه هذه العبارات التي تعتبر غاية في الجمالية والإيجاز والحكمة المقنعة والأشد تأثيرا لأنها شديدة الاختصار والتركيز.في بعض الأحيان تصبح هذه العبارات عند البعض من شدة الألفة كأنها مسلم بها وحقائق غير قابلة للنقاش،علما أنها مجرد انطباعات ذاتية قال بها شخص معين قابلة للمناقشة والحذف وليست حقيقة عقلية ثابتة ومقدسة لايمكن المساس بها. لهذا ومن خلال هذه الأمثلة نجد أن المجاز المرسل والإستعارة تعبر عن قيمة ذهنية مجردة باسم نموذج أو شيء أكثر تحديدا و حكم معروف لدى الجميع لكنه مصاغ في صورة أكثر إمتاعا. سأحاول أن آتي بمثال من عندياتي : - الماضي ورقة منكمشة أصبحت في طي النسيان والغد أسد مكشر في قاعة الإنتظار ينتظر الشجاع الذي سيفكك لغز شجاعته ويعثر على نقطة ضعفه أما الحاضر فهو نعمة مهداة وحجر جاهز ينتظر الجريء الذي سيستثمر قدراته لتحويله إلى ذهب عوض الإكتفاء بقذفه على رؤوس الناس فقط. كل هذه الأسطر الأربعة جاءت كاستبدال لجملة بسيطة هي : إن الماضي قد فات والمستقبل قادم آت، لكن الحاضر موجود وهو رهن الإشارت. قد يفضل بعض المستعجلين قرائيا،الجملة الأخيرة،ربما بسبب أسلوبها المباشر المقتصد لزمن الفهم والمقلص لمساحة الكتابة. ولربما أن المتريثين قرائيا،سيرتاحون نفسيا،أكثر لقراءة النموذج التعبيري الأول لأنه كثيف الدسم بمادة اللغة الذكية أو الذكاء اللغوي كما يسميها هوارد غاردنر في نظريته "الذكاءات المتعددة" . إن الربط بين المغزى المقصود بالمركبة التشبيهية غالبا ما يكون مؤسسا على علاقة لغوية غير عادية لأنه علينا القيام بوثبة خيالية للتأكيد على الإنسجام بين المشبه والمشبه به ونوعية المعنى الذي توحي به الإستعارة أو التعبير المجازي. والفضل يعود في ذلك إلى ذكاء المتذوق لها وعمق خياله وقدرته التجريدية على تحليل وموقعة العلاقات بين الألفاظ وما ترمز إليه دلالات محتملة. وعملية التشبيه الضمني للصورة بلاغية عالية المستوى قد يتمتع بدرجة التواء مكثف على الحد الذي نضيع بسببه في متاهة غموض معقد تجعلنا نتأرجح على حبل اللايقين والحسم في دلالة الرسالة المروم تبليغها. إذ لا يترك للفهم فرصة التقاط أنفاسه كي يمسك بالخيط المرشد إلى بوابة المعنى. إذن فالصور البلاغية ليست إشارات واضحة أو إحالات عادية تعتمد الحواس المباشرة و إنما هو تجريد ذهني و شحذ للوجدان والخيال كي نفهم فحوى ظاهرة ما كتجربة نفسية ممتعة.
-6- بلاغة الصورة المرئية:
فيما يخص بلاغة الصورة المرئية ،فإنها مسألة تهم إتقان الإشهار والإعلان في محاولة للمزاوجة بين الصورة المرئية بإيحاءات شتى تستمد شرعيتها من قائمة القيم الاجتماعية/ الثقافية/ الأخلاقية.فمثلما يعمد تجار العطور ومواد النظافة إلى المزاوجة بين عطرهم ووجه ممثلة حسناء مشهورة/ المزاوجة بين مستحضر حلاقة ولاعب كرة قدم مشهور. وقد يعمد بعض المناضلين الليبيراليين إلى وضع صورة عبد الكريم الخطابي على تمثال الحرية الأمريكي ليستبدلوه بوجه الأنثى فيصبح رمز الحرية ذكرا على مقياس مولاي موحند بعدما كانت أنثى فرنسية. و مادامت الحرية قيمة مجردة عامة لا نستطيع استنشاق عطرها ولا لمس ملامحها ولاتصنيف جنسها، فإن الغموض هو سيد الموقف فيما يخص الحسم في الجنس الذي تنتمي إليه الحرية وبالتالي فإن هذا الغموض حول هوية الحرية وشخصيتها الحقيقية هو الذي يفسح لنا الباب واسعا للتصرف بتلقائية واتخاذ القرار بكل مرونة لتخيل الحرية كما نشاء : ذكرأو أنثى / زاحفة أو مجنحة /قصيرة أو طويلة / سوداء أو بيضاء /مسلمة أو لاتينية. والتوصل إلى صورة بلاغية تشبيهية عن الحرية يعود فضله بالدرجة الأولى إلى خلفياتنا الثقافية والتكوينية وقدرتنا على تحويل خصائص الدال نحو المدلول في نهاية المطاف والعكس بالعكس . وبيت القصيد من هكذا علاقة تبادلية هو التراوح داخل سقف المعنى. إن بلاغة الصورة المرئية سلاح تأثيري صامت يتسلل إلى أعماق اللاشعور قصد دفن بعض الصور وإنعاش صورأخرى مدفونة الشيء الذي يدفعنا على القول أن عملية غسيل الدماغ عبر البلاغة المرئية مضمونة و أكيدة.
-7- أصناف التصوير البلاغي:
هناك أصناف عديدة من التصوير البلاغي الذي يسلط الضوء على أهم مفاهيمنا المعتادة، فقد نجد هناك استعارات جغرافية الطابع و المتعلقة بتنظيم الفضاء وعقلنته مثل: فوق/تحت، داخل/خارج ، أمام/ وراء ، مع/ بدون ،قريب /بعيد ، عميق/ضحل، مركزي/جانبي ، وقد نجد هناك استعارات وجودية الطابع تقترن دائما بالأنشطة والإنفعالات و الأفكار في وضعيات محددة مثل قولنا في عندياتنا : نتجول في حديقة الأفكار المثمرة - وضعت الحرب أثقالها - سلم التعب سلاحه فتنفس السلام الصعداء – أخذ وعاء الغضب يغلي على نار الإستياء فتحول إلى بركان منفجر يلقي حمم الإنتقام المرتجل. – اندلعت معركة الكلام المتعصب والنقاش البيزنطي لتنطلق صواريخ الشتائم بين الطرفين على طاولة المفاوضات التي تحولت إلى مأدبة مشادات، فتحطم بذلك آخر معاقل الصبر وقواعد الأعصاب الباردة. - تألق قمر وجهها بضياء غير معهود فتجاوزت بذلك مستوى الجاذبية لدى البدر الكامل عندما افتر ثغرها عن ابتسامة بريئة حبلى بالدلال العفوي. – ويبقى الزمن الأعمى قاتلا محترفا لكل مطامحنا المستقبلية التي فاتها قطار التحقق، لكنه مع ذلك يبقى معينه الإيجابي هو أحد مواردنا الرئيسية لتشكيل نسيج الصيرورة لتحريك عجلةالحياة نحو الأمام مع التدفؤ بلحظاته الحميمة قصد الإستمرار على قيد البقاء. والمهم في كل هذه الامثلة هو التجسيد المحسوس لوضعيات معينة وقيم مجردة لجعلها أكثر حياة و أوضح ملامحا. أما الجدير بالذكر والملاحظة أن القدرة على صياغة مثل هذه التوليفات قد يتغير من ثقافة إلى أخرى لأن العملية برمتها محكومة بالسياق اللغوي داخل بنية الشعور الجمعي و في إطار ثقافي تحكمه قواعد وجدانية هي القادرة فقط على الإجهاز على الحيوية أوعلى إحياء الميت بعدما كان دفن الطموح إجباريا وغير مرغوب فيه،مع ترك المجال مفعما بالحياة عبر عزف الأوتار الحساسة في اللحظات المناسبة بمجرد النطق بتشبيه/ مجاز/ /باستعارة/ بتورية /كناية ما مع وطء زر التأثير الوجداني على الذات المتلقية من خلال التفاعل مع العلاقات الجديدة على الصعيد التركيبي و الإنشائي للكلمات، والتي على الرغم من أنها مازالت تدور في نفس دائرة المعنى بحيث أن الفكرة العامة تظل هي هي عينها و ما يستجد فيها هو حلتها البلاغية التي عملت على تغيير العلاقات المألوفة بين الألفاظ لتنبثق عنها نوع من الغرائبية التي تثير العجب وبالكيفيةالتي صيغت فيها الرسالة المروم تبليغها. هناك صنف آخر من التعبير البلاغي ألا وهو الحامل للطابع الجسمي بحيث ان جيم باطيسطا لاحظ بأن أطراف الجسم فقط استغللناها أبشع استغلال لصياغة استعارات عديدة بواسطتها . كمثال كما يقول باطيسطا من عندياته: رأس الجبل أي قمته، رأس الفريق أي عميده وقائده، ظهر التل – بطن الوادي – عين الإبرة أي ثقبها- حوض النهر أي مصبه – فم البركان أي فتحته – شفة الكاس أي حافته – أرجل الدراجة لإيقافها وتثبيتها – لحية الذرة – لسان الحذاء أي حصيرته الداخلية،- حلق الوادي أي مضيقه – يدا الساعة أي عقاربها – قدم المرتفع أي قراره و عمقه- المال عصب الإقتصاد و شريانه،تبسم السماء أي أنها مشمسة – تجهم السماء وعبوسها أي أنها غائمة – دماء الكروم ودموع العنب أي الخمر- تقيؤ البحر للزبد – أحشاء الأرض و أمعائها أي جوفها و معادنها – يمشي الفقر على قدمين أي أنه أصبح ظاهرة واضحة المعالم وتمشي بين ظهرانينا – الأمواج تزأر – النسيم يهمس – جسد الإنشاء وجذعه أي وسطه وعرضه .......إلخ ومن خلال هذه التوليفات الباطيسطاتية المصاغة باختصار والتي ألفناها قد تتحول إلى امتدادات أسطورية لتعبيرات شاسعة وقد تتحول إلى حكايات وروايات مجازية allegorical fables فمجرد قول أن المعرفة سلطة قادرة savoir c est pouvoir أي أن العلم قد أركع الطبيعة كاستعارة مسيطرة في ثقافات علمانية ممجدة لقدرات العلم الخارقة وكراماته في العالم، وهي إنما تحاول من خلال هذه العبارات تكريس وعي إيديولوجي يصب في الإنقاص من شأن التفكير الديني مثلا و مدح التجربة الأمبيريقية للعقلانية الوضعية بشكل مبالغ فيه . هناك أصناف أخرى من البلاغة وهي التورية والكناية التي تعتبراستحضارا للكل عبر ربط معين يمثل جزءا ينتمي إلى ذلك الكل وهذا الجزء قد يمثل خصلة أو صفة معينة لها علاقة بالكل. أو ميول خاص، شيء له علاقة به من بعيد أو من قريب كالسبب والأثر المنبثق عنه. والكناية تعمل على جعل الشيء أكثر ملموسية عوض تجريده كمثال: ملكة بريطانيا أو مملكتها يتم تلخيصهما في التاج البريطاني،والمسرح يتحول بإذن الكناية إلى خشبة، والإعلاميون إلى صحافة، أصيب بالإحباط والفشل تتحول بلاغيا إلى: عاد بخفي حنين ، مجموعة من الناس إلى مجتمع ، مجموعة من المصالح والإدارات تتحول كنائيا إلى مؤسسة، الجيش الأمريكي دمر العراق و أفغانستان تتحول بقدرة البلاغة الكنائية إلى بوش أبادهما، وحينما نشير باصبع اتهام شخص واحد ليقوم مقام شبكة إجرامية واسعة، فإننا بذلك إنما نعبر عن موقف ذاتي مليء بالحسابات الشخصية مع تنزيه الجيش و أزلام الجرائم الحربية المساهمين في عملية التدمير الهمجية كونهم مجرد تابعين لتعليمات رأس الأفعى المدبر والجالس على رأس الهرم السلطوي للبانتاجون.إن لقمة الخبز قد تعني المحصول الزراعي والغذاء بصفة عامة وقد تعني المصروف والمدخول المالي. إن السيميوطيقا كعلم يهتم بدلالات اللغة تعلمنا أن الإشارات ليست بريئة لأنها تشيرإلى دلالات ذات شحنات ثقافية غير محايدة عكس ما كنا نتوقع و بالتالي فهي تدنس عقولنا حتى لا نذهب إلى الفهم مباشرة. لهذا يؤكد المهدي المنجرة بأن على العالم أن يمزج علمه بثقافته وهويته مادامت معلوماته ونظرياته تمر من قناة اللغة المنبثقة عن الذات في تعبيراتها البلاغية .و لا داعي للادعلء بالحياد والموضوعية .
خاتمة:إن ولوج ميدان البلاغة عملية ثقافية وتعد صنعة وموهبة لغوية لا يتقن لعبتها الهادفة في صياغة ألغاز رسائلية ممتعة سوى المحترف الذي تجول على تضاريس اللغة الوعرة والمغامرات الفكرية الفذة فعجنها مع ومضات رؤيته وبصمات شخصيته الفريدة. إن بداية مشوار الرحلة البلاغية تكون دائما مرفوقة بسحر الكلمات التي تتألق كلما انسجمت في علاقات خاصة وداخل سياق متميز يتجسد في الولوج الواعي عبر بابها الإبداعي الفني الذي يشبه الدخول الشجاع في حقل ألغام. ولا يستمتع من ألم انفجاراته سوى من كان يتمتع بحس المغامرة .فيتجرأ للولوج إلى عالم الأسرار الجمالية والعمق الروحي للتصوير البلاغي وهو يزيح العوائق التعبيرية المستهلكة ويحطم جدران اللغة المتقاعسة. ويساهم في الرفع من معنويات عملية إعمال الفكر والتفكير.
حكيم السكاكي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.