جريمة «حي البرانص» بطنجة، التي راح ضحيتها ثلاث نسوة بطريقة وحشية، ظلت عالقة في أذهان ساكنة المدينة بالرغم من مرور أزيد من سنة على وقوعها، وبالرغم من حدوث مجموعة أخرى من جرائم القتل الخطيرة خلال السنة التي ودعناها، فقد كان قاتل النساء من أخطر المجرمين، بعدما استطاع أن يحافظ على هدوئه لمدة 8 سنوات، ويعيش حياته بشكل عادي، وهو يحتفظ بسر جريمته الأولى، إلى أن استيقظ إجرامه من جديد، وعاد ليستعمل نفس السكين في شهر فبراير من سنة 2010، حين قام بذبح النساء الثلاث. لكن “الروح عزيزة عند الله”، كما يقال حيث كانت جريمته الثانية نهاية مشواره الإجرامي وبداية الطريق أمام المحققين لفك لغز الجريمة الأولى التي بقيت لسنوات مسجلة في أرشيف الشرطة القضائية ضد مجهول. سيرة الجاني كغيره من الشباب، انخرط «علاء الدين »، في رحلة البحث عن الذات، لرسم مسار مستقبله، بعد انقطاعه عن الدراسة في مستوى الباكالوريا، والتحاقه بمعهد التكوين المهني، حيث اختار تخصص النسيج، لكنه لم يكمل دراسته بهذا المعهد رغم تفوقه خلال السنة الأولى، بسبب تأثره بمرض الحساسية، ليلتحق بعد ذلك مباشرة بمعهد التكنولوجيا التطبيقية، الذي قضى به سنة من التعليم تخصص الكهرباء، قبل أن ينقطع عن متابعة تكوينه، بعد مرض والده، الذي أصيب بشلل نصفي، لينطلق في رحلة جديدة بحثا عن العمل، باعتباره الابن البكر، والذكر الوحيد بأسرته، المكونة من أبوين يعملان ممرضين بالصحة العمومية، وأختين تتابعان دراستهما. وقد اشتغل في البداية بأحد المطاعم بحي الادريسية، ثم عمل بمحل للأكلات الخفيفة بالقرب من الشاطئ، كما حصل على منصب شغل بمطعم «ماكدونالز»، قبل أن تتصل به إدارة شركة «مجابن المغرب» بالمنطقة الصناعية مغوغة، بعدما كان قد تقدم بطلب للحصول على وظيفة بها. التحق بهذه الشركة بواسطة عقد عمل قابل للتجديد، مقابل أجر شهري يتراوح ما بين 2500 و2800 درهم، يختلف حسب دورية النهار والليل. وظل يشتغل على هذا النحو لمدة سنتين، حيث يعمل لفترة محددة ويتوقف لفترة أخرى، آخرها كانت منذ شهر رمضان الأخير، إذ لم يستأنف عمله إلا مع بداية شهر يناير المنصرم. فكرة الإجرام هذا الشاب، الذي لم يكن يستهلك المخدرات، ولا يشرب الخمر، ولا يدخن السجائر، ويقطن مع باقي أفراد أسرته بشقة أنيقة بحي الأمل، اقتناها والداه عن طريق السلف البنكي، كان كتوما ومؤدبا، بشهادة مجموعة من أصدقائه في العمل، ويحرص على أداء صلواته، ولم يسبق له أن تشاجر مع أحد، باستثناء بعض الديون المترتبة عليه، التي كانت تضايقه، كمبلغ 5 آلاف درهم، الذي كان قد اقترضه من أحد أصدقائه ، ومبلغ 20 ألف درهم ، الذي استلفه من والدته لشراء سيارة ، لكنه بعد ذلك باعها دون أن يعيد لأمه نقودها ، هذه الأخيرة ظلت تطالبه بتسديد الدين الذي في ذمته ، بعدما لم تستوعب أين صرف المبلغ المالي، الذي حصل عليه من بيع سيارته، حيث حاول تبرير ذلك باشتراكه في تجربة الاتجار بالأثاث المستعمل، إلا أنها باءت بالفشل، لينتقل بعد ذلك في رحلة حياته بأفكار غريبة، ظلت تراوده ، طيلة فترة انقطاعه عن العمل. وحين فكر «علاء الدين» في السرقة ، لم يخطر بباله سوى المنزل ، الذي تقطنه الأسرة ، التي احتضنته منذ صغره ، واعتبرته واحدا منها ، بحكم علاقة الصداقة الوطيدة، التي تجمع بين والدته والسيدة ربة ذلك المنزل ، منذ سنة 1984، إذ كانا يقطنان بنفس الحي «لالة شافيا»، وهكذا تذكر أن السيدة السعدية، التي كان يناديها خالتي، سبق لها أن قالت له إنها ترغب في بيع بعض الأثاث القديم، بعدما سبق له أن قام بمثل هذه المهمة من قبل ، فما كان عليه إلا تحديد توقيت الزيارة بعد عثوره على مبرر لها. موعد التنفيذ يوم الثلاثاء 16 فبراير 2010 ، وبعد عودته من العمل عند حوالي الساعة الخامسة صباحا، كان يشتغل في الدورية الليلية، ظل متقلبا في فراشه ، دون أن يخلد للنوم، إلى غاية الساعة 11 قبل الزوال، ليغادر مسكنه عازما على تنفيذ خطته، التي اتضحت أولى معالمها الإجرامية، حين حمل معه حقيبة بها سكين كبير الحجم ، وكانت أول وجهته في طريقه نحو المنزل المستهدف ، متجر للعقاقير ، يقع بجوار مكان إقامته ، حيث اشترى منه قنينة ماء الصباغة “الدوليو”، قبل أن يواصل مشواره في اتجاه سوق «كاسبرطا» . وهناك كان سيقتني قبعة، لكنه اكتفى بشراء ثلاثة أقراص غنائية، الأول للمطربة السورية أصالة، والثاني يضم منوعات شعبية مغربية ، والثالث لموسيقى الراي ، وبعد ذلك قصد شباكا بنكيا ، للاطلاع على رصيده ، فوجده فارغا. طعنات الغدر حقيبة بها سكين و”طورنوفيس” و “لقاط” وزجاجة «الدوليو» وأقراص مدمجة “سيديات” لأغاني متنوعة، هذا ما كان بحوزة «علاء الدين» ، وهو في طريقه إلى «حي البرانص1»، ليسرق منزل “خالته” ، زوجة الجمركي، الذي يحمل رتبة عقيد بالإدارة الجهوية للجمارك، فهو لم يكن يفكر في القفز من السطح أو تسلق الجدران ليدخل من النوافذ ، بل اتبع مقولة، ادخلوا البيوت من أبوابها. وبمجرد وصوله رن جرس الباب ، وفتحت له ربة البيت ، التي رحبت به ، قبل أن تدخله إلى غرفة الجلوس بالطابق الأرضي بعدما قام بإزالة حذائه، حيث وجد برفقتها كل من ابنتها «هنيدة» وصديقتها «رشيدة» ، ورغم ذلك لم يقدم على تعديل خطته أو تأجيل موعد السرقة إلى وقت لاحق، وطلب من “خالته السعدية” أن تريه الأثاث، الذي كانت ترغب في عرضه للبيع ، فانتقلت معه إلى الطابق الثاني، وبينما كان يحاول قياس طول سرير النوم بيده، استأذنها لكي يحضر وحدة القياس من حقيبته، التي تركها عند مطلع الدرج، لكنه لم يكن يتوفر عليها، واستغل الفرصة فقط ليحمل معه السكين ، حيث باغتها بعد عودته بطعنة على مستوى بطنها، ثم صار يوجه لها طعنات أخرى عشوائية أمام مقاومتها له، وهي تطلب النجدة من ابنتها، هذه الأخيرة وفور صعودها إلى موقع الجريمة ، فاجأها بذبحها من عنقها وهي واقفة على قدميها، قبل أن ينتقل إلى الضحية الثالثة، التي حاولت الهرب ، لكنها لقت نفس المصير بعدما تلقت عدة طعنات من البطن والظهر أردتها قتيلة، ثم بعد ذلك عاد “السفاح”، إلى الضحية الأولى، التي كانت تحتضر ، وقام بذبحها ، كما فعل نفس الشيء بالنسبة للضحية الثالثة بالرغم من أنها كانت جثة هامدة، وهذا ما أكدته فيما بعد نتائج التشريح الطبي، حول قيام الجاني بذبح الضحيتين الأولى والثالثة بعد تلقيهما طعنات قاتلة، حيث استخدم طريقة الذبح ليتأكد من مفارقتهما الحياة قبل مغادرته مسرح جريمته. السرقة بعد المذبحة بعد كل هذه الوحشية في القتل، شرع الجاني في تفتيش غرفة النوم بالطابق الأول، ولم يعثر بدولاب الملابس، سوى على مبلغ 20 ألف درهم، وربما كان يعتقد أنه سيجد الكثير من المال، كما أنه تردد في سرقة جميع المجوهرات، واكتفى فقط بالبعض منها، عبارة عن (كوليي)، وقبل ذلك قام بغسل يديه الملطخة بدماء الضحايا، حين اكتشف أن يده اليسرى تنزف، ووضع عليها ضمادة عثر عليها بالمطبخ، بعدما أخفى سكينه بحقيبته، بالإضافة للمسروقات ، لينزل بعدها إلى الطابق الأرضي، ليعثر بالغرفة، التي كان الضحايا الثلاث يجلسن بها ، على حافظة أوراق وهاتف نقال ، قام بوضعهما بحقيبته ، وهو يتوجه نحو المطبخ ، حيث روى ظمأه بشربة ماء ، بعدما رواه بالدماء. وفي تلك اللحظة ، وبينما كان يستعد لختم “مذبحته” بصب “الدوليو” لإضرام النار في المنزل ، من أجل إخفاء أثره ، فاجأه جرس الباب بالرنين، ولحسن حظها ، أن بنت الضحية ربة البيت، لدى عودتها من المدرسة، لم تكن تتوفر على مفتاح الباب، وإلا كانت صادفت “السفاح”، الذي لمحها من خيال زجاج الباب، وما كان عليه إلا أن تسلل من المطبخ نحو المرآب، بالجهة الخلفية للمنزل، وقام بكسر باب الكراج (الريدو) من الداخل، وبعده بلحظات قليلة دخلت «فاطمة الزهراء» عبر نفس المكان، الذي خرج منه، حين لم تجبها أمها، لتكتشف هذه المجزرة المهولة في واضحة النهار. بعد الجريمة أول ما قام به الجاني بعد مغادرته مسرح جريمته، اتصل بطبيب، صديق الأسرة، وطلب منه أن ينقله إلى مستشفى محمد الخامس لتلقي العلاج، بدعوى أنه تعرض لاعتداء من طرف بعض الأشخاص قاموا بسرقته، وبعد ذلك اتصل بصديق له وحاول إقناعه بأن يخفي عنده السكين بعدما أخبره بأنه اشتبك مع أفراد عصابة، لكنه رفض، وتسلم منه الهاتف النقال فقط، كما منحه (جاكيط) رياضية، ارتداها بعد تخلصه من اللباس الملطخ بالدم بوادي العوامة، وفي طريقه إلى منزله تخلص أيضا من حافظة النقود والحلي وسط إحدى البالوعات بنفس الحي، فيما احتفظ بالسكين والنقود داخل حقيبته، التي تركها بمخدع هاتفي، قبل دخوله منزله، حيث اغتسل وغير ملابسه، وحين سأله والده عن إصابته، أخبره قصة اعتراض سبيله، فطلب منه «أبوه» أن لا يخبر والدته، لأنها متأثرة بما حدث لصديقتها السعدية. وبعد ذلك عاد لكي يأخذ السكين والنقود، ومعه صديقه الثاني، الذي أقنعه بأن يحتفظ له بمبلغ 14500 درهم ، إلى غاية إكماله مبلغ 20 ألف درهم، دين والدته، كما طلب منه الاحتفاظ بالسكين ، فيما ترك بجيبه مبلغ 5500 درهم ، وعاد إلى المنزل، ومنه توجه إلى عمله عند حوالي الساعة العاشرة ليلا، ليحكي لرؤسائه في العمل نفس الرواية حول أسباب إصابته في يده. الجرح يهزم القاتل في اليوم الموالي اتصل الجاني بصديقه ، الذي ترك عنده المال المسروق ، واستلم منه مبلغ 5 آلاف درهم ، سدد بها دينه ، فيما حول باقي المبلغ إلى العملة الأوروبية «ألف أورو»، ونقله إلى منزله. وظل الجاني غائبا عن الأنظار، إلى أن اضطر يوم الجنازة، بحكم الارتباط القوي، الذي يجمع أسرته بعائلات الضحايا، إلى حضور مراسيم الدفن، وتقديم التعازي، بعدما كان يحاول قدر ما أمكن الابتعاد عن محيط جريمته، كما كان يحرص على إخفاء يده المصابة، ويضع عليها قفازا لكي لا يثير الانتباه، ويتجنب كثرة التساؤلات حول طبيعة إصابته. لكن اللحظة التي كان يتخوف منها القاتل، لم يتأخر موعدها كثيرا، ففي اليوم الثالث بعد مواراة جثمان الضحايا الثرى، كان له لقاء مع عناصر الشرطة القضائية رفقة والدته، بعدما تم استدعاؤهما في إطار البحث العادي في ملابسات هذه القضية، الذي شمل عددا كبيرا من أقارب وأصدقاء الضحايا، وكان أول شيء انتبه له المحققون، وأثار شكوكهم، تلك الضمادة، التي كان يضعها على يده اليسرى، حيث ظهر عليه ارتباك واضح، وهو يجيب على تساؤلات رجال الأمن، قبل أن يستسلم، ويقرر الاعتراف، أثناء استعداد عناصر الشرطة العلمية إخضاعه لاختبار الحمض النووي، وأخذ عينة من دمه، لينتقل بعد ذلك معه المحققون إلى مسكنه حيث تم حجز مبلغ مالي (ألف أورو + 600 درهم)، كما تم الانتقال إلى منزل صديقه، الذي كان يحتفظ بأداة الجريمة، وإلى المكان الذي تخلص فيه من حافظة النقود، التي عثر عليها وبداخلها بطاقة تعريف ورخصة سياقة تخص الضحية الثالثة، كما تم العثور أيضا على الحلي. اكتشاف جريمة سابقة الجاني وبعد أن وجهت له النيابة العامة تهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد وارتكاب جناية السرقة والتنكيل بالجثث ومحاولة إضرام النار، أحيل على قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بطنجة، لكنه عاد من جديد، إلى مقر مصلحة الشرطة القضائية بولاية أمن طنجة، بعد صدور أمر باستقدامه من السجن المحلي موقع من طرف الوكيل العام ، عقب إشعار هذا الأخير بضرورة استجواب المتهم، حول علاقته بجريمة قتل، كانت قد شهدتها المدينة سنة 2002، وظلت مقيدة ضد مجهول. كان قد راح ضحيتها شاب ، عثر على جثته بمنطقة مجاورة لمجزرة البلدية ، بعد تلقيه طعنات قاتلة بالسكين، ختمها الفاعل بذبحه من عنقه . هذه “الذبحة”، أيقظت هذه القضية، التي ظلت غامضة لمدة ثمان سنوات، بعدما أثارت شكوك المحققين ، خاصة وأن الضحية والمتهم سبق لهما أن عملا معا، كما أن الشارع الطنجي، ظل يتحدث عنها القضية في الأيام الأخيرة، باعتبار أن القاسم المشترك بينها وبين جريمة «حي البرانص» هي عملية الذبح. وهكذا، وبعد مواجهته بمجموعة من المعطيات والأدلة، من قبل المحققين، اعترف بارتكابه هذه الجريمة ، حين كان مازال يتابع دراسته، وأنه ترصد لزميله في العمل، الذي كان يزاوله في فترة العطلة الصيفية، خلال مغادرتهما المطعم ليلا، وقام بطعنه ، بعدما لاذ زميلهما الثالث بالفرار، والدافع كما صرح بذلك للمحققين ، هو السرقة، حيث كان يعتقد أن الضحية كان يحمل معه مبلغا ماليا مهما، قبل أن تنتهي فصول جريمته النكراء، باستيلائه على مبلغ لا يتعدى ألف درهم وهاتف نقال، كان بحوزة الضحية. الإعدام لمرتكب “المذبحة” كان في البداية مجرد مطلب عفوي، رددته الجماهير الغفيرة، التي حضرت عملية إعادة تمثيل “مذبحة” «حي البرانص» بطنجة ، في شهر فبراير من السنة المنصرمة ، قبل أن يصبح حكما قضائيا نافذا في حق الجاني ، بعدما قضت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بهذه المدينة بإعدامه. المتهم «علاء الدين بن حمو» ، واجه أسئلة هيئة المحكمة بدم بارد ، كما كان حاله خلال استجوابه من قبل الضابطة القضائية، وأثناء إعادته تمثيل تفاصيل الطريقة، التي نفذ بها جريمته، داخل منزل عقيد بإدارة الجمارك، حين لم يتردد في ذبح ابنة هذا الأخير وزوجته وسيدة كانت تزورهما، دون أن يراعي علاقة الصداقة، التي كانت تجمع بين هذه الأسرة ووالدته، وكل هذا من أجل السرقة. وقد حاول الجاني ، 27 سنة ، إنكار ما جاء في تصريحاته السابقة، حين اعترف خلال جميع مراحل التحقيق بالتهم المنسوبة إليه، ونفى علاقته بها وهو في ضيافة رئيس غرفة الجنايات، الذي استمع إلى ملتمس النيابة العامة، وإلى مطالب دفاعه، حيث ترافع عنه محام من هيئة الدارالبيضاء، قبل أن يصدر حكم الإعدام في حقه.