في الحياة جملة من التفاصيل تُكون النسق العام لقياس مدى جودة المعيش اليومي للمواطن، إنها تلك التفاصيل التي تبدوا لنا صغيرة جدا وتافهة جدا إلى درجة الأهمية القصوى (..) وتُشكل القدرة على التقاطها وتحليلها بنوع من الدهشة الطفولية التي تسمح برؤية المعتاد وطرح علامات إستفهام بلاحصر عن طبيعة ذلك التفصيل الذي نُهمله عادة بدعوى أن التفاصيل ليست مهمة وأن المهم كما اعتاد المغاربة في حكمتهم المشهورة ؛ المهم هو المشاركة. أي ليس المهم كُنه الأشياء وطبيعتها ومدى الخدمة الذي تقدمها للفرد والمجتمع بل الأهم هو المشاركة والإنغماس والتيهان داخل هذا النمط العام إلى درجة نسيان وإغفال مسألة مهمة، محورية و وجودية وهي: أنه يمكن أن يكون في الحياة ما هو أفضل من هذا (..)، وأننا كمواطنين نستحق أن نلمس بعض الأشياء على أنها من بديهيات المواطنة الكريمة التي تليق بإنسانية الإنسان في القرن الواحد والعشرين. ولأن الحياة تسرق من الناس زمنهم اليومي ولا تدع لهم فرصة للدهشة والإستغراب وطرح علامات الإستفهام على العديد من الأشياء اليومية التي تدخل عادة في إطار الخدمات العمومية غير المجانية إطلاقا و التي تُقدم لهم كل يوم، بينما يُمكن توفير الأفضل لو توفرت الإرادة لدى من بيدهم ذلك، ولأن الأمر على تلك الصورة دعونا نلتقط بعض التفاصيل التي قد يراها مسؤول ينظر إلى العالم من مكتبه المكيف على أنها لا تعدوا أن تكون تفاصيل "تافهة" لرحلة عادية، يمكن لأي منا أن يقوم بها كل يوم على متن حافلة عمومية، عسى أن يجعلنا ذلك نطرح بعض الأسئلة من قبيل؛ ألا نستحق أفضل من هذا ؟ لنتابع.. في يوم من أيام هذا الشهر الساخن والذي ينذر بقدوم شهر الصيف وقفت وسط الجموع التي تنتظر تحت أشعة الشمس الحارقة المرفوقة بهبوب عاصف لرياح الشركي، ينظرون بين الفينة والأخرى إلى الطريق حيث تمرق سيارات متنوعة في حركة دائبة لا تهدأ أبدا، في لحظة معينة تأهب الجميع كأنما ينتظرون أحدا أو يستعدون للهجوم على عدو ما، لكن فجأة عادوا إلى حالتهم الأولى من الترقب الحذر وقد أصبح كل واحد منهم يتسلى بشيئ ما لقتل الوقت، تحولت الأعين تدريجيا من مراقبة الطريق إلى التلصص على كلبين يقترفان نزوة خارج السياق تحت جدار إسود أسفله بسبب البول، نبح الكلب بشدة وهربا معا لايلويان على شيئ بعد أن استقر حجر في بطنه(..) تعالت الضحكات و اكتفى بعض الكبار بمداراة بسمة لاحت على وجوههم .. عاد الجمع من جديد إلى مراقبة صامتة للطريق إلى أن لاح شيئ ما، فانتفضوا جميعا ودبت فيهم الحركة والنشاط وهرعوا إلى محاذاة الطريق والتدافع: رجالا، شيوخا، نساءا وأطفالا. وأخيرا توقفت الحافلة فهجم الجميع نحو طوق النجاة الذي سينقذهم من هذا الحر اللافح، تجاوزتهم ببضع أمتار فاغتاظ بعض من في المقدمة إذ صار بعيدا عن الباب، وفرح من وجد نفسه أمام باب الحافلة مفتوحا فاندفع سريعا لعل وعسى أن يجد كرسيا فارغا أوعلى الأقل موقعا جيدا، إذ العرض محدود في حافلة البؤساء. امتدت أكثر من يد إلى الأعلى للصعود في نفس اللحظة امتدت بعض الأيدي إلى الأسفل بحثا عن الجيوب، تصاعد الرفس صرخت امرأة وانسحبت من السباق بعد أن أهينت (..) وتطايرت بعض اللعنات والشتائم، بينما تحركت الحافلة دون انتظار إغلاق بابها الخلفي الذي تكدس وراح من به يجهدون أنفسهم للولوج. أُغلق الباب أخيرا وصار الحال في الداخل أشبه بيوم القيامة حتى أن الجابي وجد صعوبة بالغة في تحصيل ثمن التذاكر والتنقل داخل الحافلة لأجل ذلك، راح ينادي: من لم "يقطع " تذكرته بعد؟ تلقى جوابا "ساخنا" فرده بأحسن منه؟؟ تعالت ضحكات ماجنة وعلقت عجوز متأففة :" قلة الحياء". يئس الجابي في تحصيل التذاكر بسبب الزحام، فعاد أدراجه ليقبع خلف كرسي السائق، وأنذر المتتسللين الذين يستغلون مثل هذه الفرص أن المراقب يتربص بهم في الطريق لكن بدون مبالاة، فلا أحد يكترث للمراقب هنا. صارت الحافلة تطوي الأرض طيا، من يراها في الخارج لن يعرف أن في الداخل عالما آخر، سرت همهمات "اللصوص.. اللصوص.."، سحب شاب هاتفه المحمول ووضعه في جيب داخلي، في نفس اللحظة تعالى صياح أحدهم بفقد حافظة نقوده ولعن أجداد من سرقوه، خرج صوت من مكان ما يطلب من السائق الذهاب إلى مركز الشرطة، لكن الحافلة توقفت فهبط منها أربعة رجال بين قوسين طبعا ابتلعهم زقاق جانبي، عادت الحافلة لمواصلة المسير، تعالت تعليقات مواسية للذي ضاعت محفظته، قال الشاب بعد أن أعاد هاتفه إلى محله السابق وهو يرمق فتاة راح يقترب منها "والله أولاد الحرام كثيرون هذه الأيام"، علق أحد الجالسين "لو طبقت أحكام الله مابقي عليها لص"، همهم ساخطا وبتر كلامه بعد أن تلاقت يدان خلسة في الزحام،وشتمت امرأة رجلا التصق بها فكادت تقع معركة لولا أن لُعن الشيطان وأخزي فعاد الهدوء . امتزجت الروائح داخل الحافلة مع الغبار المتسرب من الخارج، ومع تقدمها في الطريق بدأت فُرج تظهر بالموازاة مع تخلصها من أثقالها . أخيرا وصلت إلى اخر محطة ولم يبق فيها إلا بضعة رُكاب، تهالك الجابي على مقعدين من الإعياء وأخلد رأسه لغفوة قصيرة، فيما نزل السائق وقصد حائط مدرسة كُتب فيها "ممنوع البول غرامة 200 درهم" تبول وشتم العالم ثم قفل راجعا في رحلة العودة. ولنا عودة مع هذه التفاصيل التافهة.. إلى درجة الأهمية القصوى، نسيت أن أقول لكم المهم هو المشاركة، أليس كذلك؟