استيقظ المغاربة ذات صباح من صباحات مارس 2020، لم يكن صباحا عاديا ككل الصباحات، كان مفعما بمشاعر فريدة، مشاعر امتزج فيها الخوف من الفيروس القاتل والسعادة أو الدهشة والاستغراب من حقائق يكتشفونها لأول مرة. اكتشف المغاربة وأنا منهم أن البون شاسع بين القول والفعل، وأن الكثير من الناس، وخصوصا الساسة يقولون ما لا يفعلون، ومن الساسة من ظلوا لعقود يعبرون كلاما عن حبهم للوطن، فاختفوا إلى الأبد من كل الواجهات حينما احتجنا للفعل وحين ناداهم الوطن. اكتشفنا أن حجم الشر ناذر إلا في بعض القلوب. اكتشفنا أن الوطنية عملة ناذرة لا تملأ إلا القلوب الصادقة، وهي القلوب التي بقيت ثابتة على الموقف والمبدأ مهما كانت الظروف. اكتشفنا أن أعمدة الوطن هم أبناؤه البررة ممن أمعنوا في التشمير عن سواعدهم عندما احتاجهم الوطن: رجال مال وأعمال جادت خزائنهم على خزينة الوطن. مسؤولون وسلطات ورجال أمن ودرك وجيش يتخذون القرار تلو القرار ويسهرون الليالي ويجوبون الأزقة والدروب والدواوير لإبلاغ حقيقة كورونا إلى البسطاء من الناس ودعوتهم للحيطة والإسهام بأضعف الإيمان، عدم مبارحة منازلهم، لحفظ صحة ذويهم وأحبتهم وجيرانهم ومشاركيهم الحي والدوار والوطن. طواقم طبية وتمريضية تضحي بحقها في الحياة لنحيا، فتسهر على صحة المرضى وتبذل قصارى جهدها لتوعية من يتهددهم المرض. نساء ورجال تربية وتعليم يواصلون التضحية من أجل أبناء المغاربة، أيا كانت الظروف والإمكانات. تجار وحرفيون ومهنيون وموظفون لا يمكن أن تتوقف آلاتهم حتى لا يتوقف الوطن، يواصلون ضمان العيش لأبناء الوطن دون أدنى طمع في الربح من مآسي الوطن. آباء وأمهات يسهرون على حفظ حق أبنائهم في السلامة والحياة ويسهرون على تنفيذ التعليمات حرفا حرفا. بسطاء وفقراء وسكان مناطق فقيرة رفعوا شظف العيش في وجه كورونا وقدموا على مصلحتهم مصلحة الوطن. لهؤلاء، ولغيرهم كثير ممن لم تسعفني ذاكرتي في ذكرهم، أنحني تقديرا، وليصدقني القارئ الكريم إن أخبرته أن لحظات كثيرة شاهدت فيها مشاهد لرجال سلطة ورجال أمن ودرك وجيش يوظفون مستويات رائعة في الخطاب لكسب قلوب الناس والقرب منهم وتوعيتهم وشكر فئات من فئاتهم على ما يبذلونه، جعلتني أقف على حقيقة أن بالمغرب رجالا نساء همهم الوطن، يبكون لبكاء الوطن ويئنون لآهات الوطن، ويحبون الخير للوطن. في الجانب المظلم من المشهد، نماذج لا تربطهم أي صلة بالوطن، مستلبون، يؤمنون بهويات غير هويات الوطن، ويحلمون بمصائر لا صلة لها بالوطن، منهم من ركب صهوة الدين حتى غير وضعه الاعتباري وملأ خزائنه وحلق لحيته واختفى، وعندما احتاجه الوطن ما وجد إليه سبيلا؛ ومنهم من يواصل ركوب صهوة الخرافة لبعض الكسب ولو أدى به ذلك للعب بأمن وسلامة المواطنين والوطن. إن جائحة كورونا فتحت أعيننا على جزء كبير من الحقيقة، حقيقة أن اللحم إيلا خناز تايهزوه ماليه كما نقول بالأمازيغية، وأن من هبوا لنداء الوطن هم أبناء الوطن الأقحاح، أيا كانت طبيعة وحجم تلك الاستجابة، وأن من دفنوا رؤوسهم في الرمل لا أظن أن لهم صلة بالوطن. إن أولي الأمر منا مدعوون بعد الفاصل، وبعد أن نعود، إلى وقفة تأمل في ما سلف، فمغرب اليوم بحاجة إلى كل القلوب والضمائر التي تئن لأنين الوطن، بحاجة إلى مؤسسات الوطن التي احتضنت آهات أبناء الوطن، فما نفعت الآلاف من مساجدنا وزوايانا وأضرحة أوليائنا في رد ولو جزء يسير من المصاب، وهي دعوة لا يجب أن تفسر مرة أخرى من قبل المغرضين تبعا لأهوائهم، بل بالعقل، فآلاف المساجد المزركشة المنمقة المزوقة وقفت عاجزة اليوم عن تلبية ولو جزء بسيط من حاجيات المواطن والوطن، وهي المناسبة لإيلاء كل قطاع الأهمية الحقيقية التي يستحق، تبعا لدوره في المجتمع، فقبول صلاة المؤمن ليس مشروطا بحجم ونوعية المسجد وأثاثه، ولكن صحته وعقله وأمنه وقضاءه وعيشه بحاجة إلى مستشفيات ومدارس ومعاهد وجامعات ومحاكم وطرق وبنيات تزود بالماء الشروب والكهرباء ومحاكم ومصانع ومعامل وحقول… وظروف عمل وحقوق إنسان وموظفين وعمال ومأجورين من الطراز العالمي ووفق المواصفات العالمية. إن الأمم التي قطعت مع التخلف، نجحت في ذلك، ليس بالوصاية على عقول الناس وقلوبهم، ليس بمراقبة عقائدهم، ليس بحرمانهم من حقوقهم جريا وراء أمن ملغوم مزعوم، ليس بالتنافس في بناء وتزويق المساجد والأضرحة والزوايا، ليس بنفي الفرد المواطن داخل الوطن، بل بثورات ثقافية انطلقت من إعادة الاعتبار للإنسان بوصفه مركز كل مشروع للتنمية، فمتعته بحقوقه كاملة كما هو متعارف عليها كونيا وفي صلبها حقوقه الثقافية واللغوية، والحق في العيش الكريم والتعليم والصحة والأمن بكل امتداداته، ورفعت من قيمته قاضيا ومعلما وطبيبا ومثقفا وجنديا وشرطيا ودركيا وأجيرا ومياوما وعاطلا، وضمنت له حقه في الحياة والصحة نشيطا وعاطلا، فأقلعت وأضحت قوى عالمية يحسب لها الحساب بين الأمم الرائدة. ولعل وقفة كورونا مناسبة للعودة إلى الذات، ومراجعة الحسابات من قبل الجميع تطلعا إلى القطع من قبل الجميع مع الذي كان، والتأسيس لبناء وطن يتسع لكل المغاربة ويضمن حقوق كل المغاربة بعيدا عن أي اعتبار للدين أو العرق أو الأصل أو الجهة أو الثقافة أو اللغة، وطن يضمن لمواطنيه أيا وحيثما كانوا حقوقهم كاملة بكل أبعادها، وطن تحظى فيه القطاعات الاجتماعية بالأولوية في توزيع الاعتمادات ومنها وفي صلبها الصحة والقضاء والتعليم والأمن بكل تلاوينه.