عشق لا نهائي للوطن قبل أكثر من أحد عشر قرنا خلت جادت قريحة الشاعر العباسي ابن الرومي بقصيدته العصماء التي طبّقت الآفاق، وهو يحن فيها إلى الوطن بروح حداثية بليغة تجاوزت إحداثيات الزمن والجغرافيا، وظلت حية راسخة بانسيابها الدلالي وتماسكها الجمالي، لأنها انبثقت من تجربة شعورية صادقة، لا تكلّف ولا تصنّع فيها، مما أهلها لأن تستمر ليس عبر التاريخ الفيزيائي فحسب، وإنما عبر التاريخ الوجودي كذلك، فيتقاسم معانيها ومشاعرها وقيمها الناسُ على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، ولعمري هذه هي روح الحداثة الشعرية والإبداعية التي تظل ساكنة في النص رغم قدمه وتقادمه. إن الوطن ليس حفنة تراب أو رسومات على ورق، وإنما قطعة من ذاتك وقلبك وذاكرتك لا تُجتزأ، وإن هي اجتُزئت.. ارتجت الذات، ووهن القلب، وانطمست الذاكرة، لذلك أدرك الشاعر بعمق وبحق أن الوطن ليس شيئا يباع، فمن يقدِمُ على هذه الفعلة الفظيعة، إنما هو محض خائن وخوّان! وأدرك الشاعر أيضا أن الوطن ليس ملكا إلا لذويه، ولا يمكن للغير أن يتملّكوه، وإن سعوا إلى ذلك بالحديد والنار فسوف يبوء مسعاهم بالفشل الذريع، ولنا في الحركة الإمبريالية عبرة وأيّ عبرة! لذلك، صدق الشاعر عندما جادت قريحته الجياشة؛ "ولي وطنٌ آليت ألاّ أبيعه /// وألّا أرى غيري له الدّهر مالكاً"، ولعل هذا هو ديدن كل وطني حقيقي، لا ينام ولا يصبح إلا على وطن، ويحمل معه همّ الوطن وأحلامه أينما حل وارتحل، ولا يسمح لأحد، كيفما كان، أن يلمس ولو ذرة من شرف الوطن وقدسيته. بل وإنه دوما على أهبة الاستعداد لأن يفدي الوطن بروحه ولسانه وقلمه وجسده، ولا يرضى أبدا لنفسه أن يتخلف عن تلبية نداء الوطن، الذي لا يردّ. إن قيمة الوطنية ليست مجرد شعارات يهتف بها الناس في مناسبات معينة، أو كلمات تُردد عند حلول الاستحقاقات الانتخابية، ثم تُنسى بعد ذلك في انتظار موعد انتخابي قادم! إنها شعور لازوردي يترسخ في أناك، وفي ضميرك، وفي بنية تفكيرك، إنها شعور ينتابك في أي لحظة، وأنت تأوي إلى النوم، وأنت تخط بالطبشور على السبورة، وأنت ترى علم بلد آخر، وأنت تشاهد مباراة كرة قدم، وأنت تبحث عن تذكرة سفر عبر الشبكة العنكبوتية لأسرتك ولأطفالك الذين ولدوا خارج أسوار الوطن، لتربطهم بالأصل وتعيدهم إلى الذات، وأنت تحكي قصة هجرتك الأليمة لأطفالك الغربيين بالولاة والتجنيس، فترى أن الوطن يكبر في عيونهم، كلما ترعرعوا وأدركوا معنى أن تكون مغربيا! هوية مغربية بصيغة الجمع إن كل وطني حقيقي يعتقد بجزم وبحزم أن عشق الوطن جزء لا يتجزأ من إيمانه، لذلك يحق له أن يفتخر بمغربيته التي عمت كل الآفاق، وما انفكت تحضر على كل بقعة من المعمورة وطئتها قدم مغربي، لا يعي بقيمة الوطن إلا عندما يمتطي صهوة الهجرة والنزوح، بل ومن أهم مزايا المهاجر المغربي أنه يميز بشكل محكم بين ولائه للوطن وبين الظروف الاستثنائية التي مر بها داخل الوطن، فالمعاناة لا ينبغي أن تحجب عنا حب الوطن والتضحية من أجله، بل يجب أن تجعلنا نتمسك أكثر بالوطن، الذي هو في مسيس الحاجة إلى كل أبنائه؛ رجالا ونساء، لأنه إذا أصر كل من قاسى من ظروف سياسية أو اقتصادية معينة على هجران الوطن، فهذا قد يفضي إلى إفلاس قيمة الوطنية، التي تفضي بدورها إلى إفلاس أو أزمة في الهوية. إن أزمة الهوية أمر لا يمكن جبره، ونجاح الإنسان مدين لتوازن في شخصيته الذي لا يقوم إلا من خلال اكتسابه لهوية محكمة البناء، واضحة المعالم ولا يتخللها أي شك أو تذبذب. وتتجلى قوة الهوية المغربية في تنوعها المثير، إذ يستحيل الحديث عن هوية أحادية البعد في النسيج الاجتماعي المغربي، فالمغاربة يتقاسمون روافد هوياتية متعددة، فالأمازيغي يشترك مع العربي في كونهما مسلمين، والأمازيغي والعربي واليهودي تجمعهم هوية مغربية واحدة وموحدة، وهلم جرا. وهكذا قد يسهم الإطار التعددي في تقوية تماسكنا الوجودي وتوحيد أهدافنا من العيش والتعايش في مجتمع واحد، يسع لجميع أبنائه، فنتخطى بذلك مفهوم الهويات الممزقة أو المتصارعة، ولعل وطنيتنا المغربية تشكل أهم عامل يوحد مشاعرنا، وإن اختلفت ألواننا وألسنتنا، بل وتشكل ذلك الإسمنت المسلح الذي يدعم ويجمع مغاربة الشتات، رغم انتثارهم وانتشارهم عبر القارات الخمس، فتراهم يلتئمون معا لإفطار رمضاني، أو لمشاهدة مباراة للمنتخب الوطني، أو لمتابعة حدث وطني، يصنعون كل ذلك رغم أن الوطن يبعد عنهم جغرافيا آلاف الكيلومترات، إلا أنه وجدانيا ووجوديا يسكن أرواحهم ويترسخ في أذهانهم. ثم إن النقد المؤسّس الذي قد يمارسه مثقفون وإعلاميون ومواطنون على بعض المواقف والإجراءات الرسمية أو الحكومية، لا ينبغي أن يُنظر إليه على أنه ضد الوطن، كما قد يتأوّل بعضُ الساسة والإعلاميين المؤدلجين، بل ينبثق ذلك النقد من ولاء حقيقي للوطن، ليس بالانفعال والطيش، وإنما بالتعقل والنظر الرزين. ويحضر هذا الجانب عند شريحة مهمة من مغاربة المهجر، الذين عادة ما يتأفّفون مما يحصل لهم أثناء قضاء عطلهم بالمغرب، فيتحسرون على وضعية بعض المؤسسات والمرافق العمومية، وهذا التأفف وذلك التحسر لا ينبغي أن يفسرا بشكل سلبي يقدم مغاربة العالم على أنهم ضد الوطن، في حين أن مثل ذلك النقد غالبا ما ينبع من عشق لامتناه للوطن، عندما يحلم ذلك المهاجر بأن يرى وطنه في أوج الازدهار والنمو، لذلك فهو ظاهريا يتأفف ويتحسر، غير أنه داخليا يحمل همّ الوطن ويؤمن بقضاياه. وإلا فلماذا يظل متمسكا بكل ما يمت بصلة الى وطنه ويجهد الأشهر الطوال ليحظى بعدئذ بزيارة الوطن، بل ويصرّ على أن يظل مغربيا في انتمائه، رغم أنه يحمل الجنسية الهولندية أو البلجيكية أو الفرنسية أو غيرها؟ لذلك، فإن المهاجر المغربي عندما يصرخ ملء شدقيه في وجه جمركي أو موظف عمومي أو ممرضة، لا يجب أن يفسر ذلك، قسرا وجورا، بأنه يكره الوطن أو يسيء إلى الدولة، وإنما على أن صرخته هي بمثابة رسالة معبرة وبليغة، تضع الإصبع على مكمن الجرح في مؤسساتنا العمومية، وتناشد الأوصياء على سياساتنا بأن يعملوا على تصحيح جملة من الاختلالات التي يعاني منها واقعنا المغربي، لا سيما وأن المهاجر عندما يصطدم بمشكلة ما، فإنه يفهم ذلك بالمعايير التي عهدها في بلد الإقامة، حيث يستقر ويعيش. لذا فإن النقد البناء ثقافة لا غنى عنها في المجتمعات المتقدمة والمتحضرة، حيث السياسيون والمسؤولون يسعون حثيثا الى تلقي مثل ذلك النقد والمقترحات قصد الرقي بخدماتهم للمجتمع، في حين يتخوف الكثير من مسؤولينا من ثقافة النقد التي عادة ما تعوّض بثقافة المجاملة والمداهنة، ولما يصطدمون بمواطن يحتج على وضع معين أو ينتقد إجراء جائرا، يرون فيه خطرا على استقرار المجتمع وعلى أمن الدولة! وهم لا يدركون أن المواطن الذي يمارس النقد المؤسّس هو المواطن الفاعل والإيجابي الذي ينبغي أن نسمع إليه باكتراث، ونأخذ اقتراحاته بعين الاعتبار، ونتقبل نقده بروح رياضية سمحة، إذا كنا حقا نريد أن نصحح مسارنا السياسي، ونرقى بمستوى أدائنا التنموي، أما المواطن المداهن فهو مواطن سالب لا طائل من ورائه، ولا جدوى من سكوته الذي هو علامة ليس على الرضى، وإنما على التواطؤ! بالنقد الذاتي البناء يمكن إذن أن نكتشف نواقصنا وعيوبنا، ونجدد وجهات نظرنا، ونرقى بخدماتنا ومصالحنا، فما أحوج وطننا الغالي إلى ذلك! وما تأفف أو تحسر أو احتجاج أو نقد شريحة من مواطني الداخل أو الخارج لبعض مؤسساتنا العمومية وسياساتنا الرسمية أو الحكومية إلا دليل آخر على أمل عميق يحذو المغاربة كلهم، لأن يروا الوطن مزهرا ومزدهرا؛ فهل ثمة حب أكبر من هذا؟! تاريخ يستحق أن يُفتخر به! إن الإنسان لا يكتشف قيمة الشيء إلا عندما يفتقده، وهذا ما يسري أيضا على الوطن الذي لا تدرك قيمته إلا عندما تغادره إلى مكان آخر، فيكبر أكثر في عيونك ووجدانك، ويصبح ما كان يبدو لك مساويء محاسن، وينقلب نقدك إطراء، وهجاؤك ثناء.. ولعل هذا هو حال العديد من مغاربة العالم الذين كلما توغلوا في الغربة والبعاد، ترسخ عشقهم للوطن، وتداعت بهم نسائم الحنين الى تلك المنازل التي شهدت ولادتهم، واحتضنتهم أطفالا وصبية، وهذا حب غريزي وأنطولوجي يتجذر في قرارة كل (مهاجر) مغربي، تراه يشد الرحال الى أرض آبائه وأجداده كل صيف وعيد ومناسبة، ويحلم بأن يكون له بيت تحت شمس المغرب، ولا يقبل بأن يتنازل ولو عن ذرة من هويته وتقاليده وعاداته، رغم أنه يتموقع في قلب الحداثة والعلمانية والعولمة. إن اكتشاف الوطن لا يقف عند عتبة المشاعر والغريزة، بل قد يتأتى أيضا عبر المعرفة المدرسية والإعلامية.. وأودّ أن أستحضر هنا موقفين ترسخا في ذاكرتي، أولهما قديم مضت عليه أكثر من عشر سنوات، عندما كنت في زيارة لمعرض المغرب الذي أقيم في مدينة أمستردام عام 2004 طوال أربعة أشهر، فاكتشفت لأول مرة في حياتي، وبوعي تام وعقلاني، تاريخ وطني من خلال مئات التحف والمنحوتات والمخطوطات، فوجدته عريقا مثل جذور النخلة؛ يمتد عبر أكثر من ثلاثين قرنا، وثريا بتنوعه الثقافي والإثني واللغوي والديني، وعندما تأملت السياق الهولندي الذي يعيش فيه عشرات الآلاف من أبناء جلدتي، وجدت أنه حقا لا قياس مع وجود الفارق، لأن تاريخ الأراضي المنخفضة لا يتجاوز بضعة قرون، ولم تشهد هولندا تنوعها الثقافي الحالي إلا مع انطلاق الهجرات العمالية الجديدة منذ منتصف القرن الماضي، وهذه المدة القصيرة لم تمكّن بعد قسما عظيما من المجتمع الهولندي من أن يتقبل بشكل عفوي، وبلا توجس أو ارتياب، ظاهرة التنوع الثقافي التي أضحت أمرا واقعا في بنيتها المجتمعية. وهكذا تخلل دواخلي استغراب غريب، لأنني لم أكتشف وطني إلا وأنا بعيد عنه، بل وبعد مضي مدة ليست بالقصيرة، فرغم أنني درست عشرات مقررات التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية، إلا أنني لم أتعرف على هذا الحضور التاريخي المشرق والتنوع الثقافي الثري لوطني إلا متأخرا، فزاد عشقي له أكثر! أما الموقف الثاني، فكنت فيه مدافعا عن وطني الذي لم أكتشف حقيقته إلا عندما حزمت حقيبتي ميمما شطر بلاد الضباب، فأحببت سماءه وترابه وشفقه القرمزي، وكنت طوال غربتي أنقب عن جذور تأخرنا الحضاري، رغم أننا نملك حضارة تضاهي غيرها من الحضارات، ونملك ماضيا بهيا يضرب في أعماق التاريخ، وشمسا مشرقة لا تغرب، وبحرا سخيا يمتد شرقا وجنوبا، وشعبا مضيافا لا ينضب كرمه، و... بينما كنّا أثناء السنة الجارية في المؤسسة التي أعمل فيها نُعدّ نشاطا ثقافيا حول الربيع العربي، إذ تمت صياغة ملف حول الموضوع يتكون من نصوص وصور وأفلام لعرضها في شكل دروس تقدم لطلبة الأقسام الثانوية الأخيرة، ويُتوج هذا النشاط بعرض مسرحي من أداء فنانين بلجيكيين وعرب محترفين، وكنت عضوا في لجنة مراجعة النصوص والصور، فاكتشفت عدم صحة بعض المعلومات والأرقام التي قمنا بتصحيحها، لكن الخلل الأكبر الذي لاحظته ولم أستمرئه! هو استعمال خريطة للعالم العربي يظهر فيها المغرب مفصولا عن صحرائه، فلم يرقني هذا الطمس التاريخي، ولم يكن أمامي الا أن أذود باستماتة عن وطني، وشرعت أشرح لزملائي الأساتذة أن الصحراء الغربية ليست دولة مستقلة، وغير موجودة إلا في خيال شرذمة من الانفصاليين والإرهابيين، وأنها جزء لا يتجزا من الدولة المغربية، لكن اكتشفت للأسف الشديد أنهم يسمعون هذه الحقيقة للوهلة الأولى، وأنهم يعتقدون دوما أن الصحراء الغربية دولة مستقلة في الواقع، وهكذا تم بعد أخذ ورد إقناع زملائي بهذه الحقيقة، فعدلوا عن فكرتهم، وتم توا استبدال الخريطة الأولى المبتورة بخريطة أخرى يظهر فيها وطني شامخا بصحرائه الممتدة على المحيط الأطلسي! وبفضل هذا الموقف اكتشف مجموعة من زملائي البلجيكيين لأول مرة حقيقة أن "الصحراء الغربية" المتوهمة مغربيةٌ؛ تاريخيا وجغرافيا ووجوديا، وسوف ينقلونها لا محالة الى عشرات التلاميذ والطلبة، ليس فقط الذين تابعوا دروس الربيع العربي، وإنما جميع التلاميذ سواء الذين يُدرسونهم الآن أم الذين سوف يدرسونهم في المستقبل. ***** هذه خواطر في عشق الوطن عنّت لي دوما، غير أني تركتها اللحظة تنساب على البياض، راسمةً صورة وطن شامخ بتاريخه وتنوعه وتضاريسه وسخائه، يحملها في قلبه كل مغربي يقاسمني حب هذا الوطن، الذي رغم أنه يعني مغرب الشمس، غير أنه يظل مشرقا في الذات والذاكرة والوجود!