هذا العنوان مستوحى من كتاب لمارسيل كوشي يحمل نفس العنوان بالفرنسية، يؤكد فيه أن الديمقراطية في الغرب أضحت سلوكا عاما ولم يعد لها منافس إلا نفسها، لكن الديمقراطية عندنا ليست إلا لفظة كباقي الألفاظ فارغة من المعنى، يقول جورج طرابيشي: "إني أنتمي إلى جيل الرهانات الخاسرة. فجيلنا راهن على القومية وعلى الثورة وعلى الاشتراكية -وهو يراهن اليوم على الديمقراطية- لا لقيم ذاتية في هذه المفاهيم، بل كمطايا إلى النهوض العربي وإلى تجاوز الفوات الحضاري، الجارح للنرجسية في عصر تقدم الأمم" [1]. فهذا الجيل راهن ففشل ويراهن ليفشل مرة أخرى لأن "استراتيجية البدائل" التي اتبعها أثبتت أن التّماس بين الفاعل والواقع لم يرق إلى الفعل المنهجي، فعنوان الكتاب يدعو إلى الردة عن نهضة أجهضها العقل المخضرم (ما قبل وما بعد الاستقلال) الذي انقسم على نفسه أشتاتا بدل الاشتغال على تبسيط المفهوم الذي هو "مجال عمل المثقف" لينطق من خلال وعي ناضج، دون التباس، بين الثلة العالمة والعامة، وهذا التبسيط لا يتأتى إلا بتحديد الأولويات. قد يعترض معترض فيقول: نحن لسنا بحاجة إلى الديمقراطية، لأن لنا شورانا؟ لا يمكن المزايدة على هذه المماحكة بقدر ما يجب التذكير بأن الشورى عندنا شأنها شأن الديمقراطية، مفهوم "فارغ" لأنه لم يُفعّل عبر التاريخ بسبب العض والجبر، ولهذا، أخذت تتناقص فعاليتها إثر موت النبي عليه السلام شيئا فشيئا. وما الديمقراطية المباشرة إلا رديفة الشورى، كما ألزم بها النبي عليه السلام نفسه. ولهذا السبب يتحتم تفعيل الديمقراطية في مجتمعاتنا، وبعد ذلك يجوز استبدال مفهوم بآخر. لكن السؤال الذي يلح علينا هو: ما الذي يعترض توغل الديمقراطية في سلوكياتنا، ويحول دون ولوجها الوعيَ. لا أجد جوابا على ذلك إلا عقبة الأيديولوجية، وحاجز المعرفة الناقصة. 1 ) كانت الأيديولوجية وما تزال إحدى العقبات التي يصعب تجاوزها أو التخفيف من حدتها في حياتنا الفكرية والسياسية، حيث لا يماري أحد - حزبا أو سياسيا أو جمعية أو (...) - في الادعاء بأنه يمارس الديمقراطية بكل أبعادها وغيره يعارضها، لأنه لا ينتمي إلى نفس الحزب أو لا يتبنى نفس العقيدة؛ لكن يتلاعب بالأيديولوجية العقلُ المتسلط الذي يمارس "السياسة"[2] لتخلفه عن المعرفة بطبعه، ويخاصم الثلة العالمة اللّامُنحازة لأنها تحرِجه، فهو يمتح من الطائفية ومن التدين تارة، ومن القومية أخرى والإثنية إن اقتضى الأمر لاعتناق السلطة أو الدُّب عن كرسيه. فقد أقر عقل كبير بامتعاضه من "السياسة" كزكي نجيب محمود بقوله: "إن العمل السياسي لا يصلح له إلا عقول تنقصها الرغبة في دقة التفكير" [3]. حقا تعتَبر التنافسية من سمات الحضارة التي تولّدت عن "الحداثة"[4] حيث يتبارى الناس لاعتلاء المناصب وتولي المهام الإدارية والسياسية وغيرها، ما دامت تستجيب للكفاءة والخبرة وبُعد النظر، وطبعا للأخلاق، لكنّ هذه التنافسية لا تخضع للمعايير الآنفة الذكر عندنا، و إ نما يُشكل الحظ عاملا أساسيا لاجتياز الاختبار مدعوما بالولاء اللامشروط، أما الأيديولوجية مهما كان رسوخها في نفوس معتنقيها لا تتجاوز عتبة الخِدمة، خدمة السيطرة المتوارية وراء "السياسة"، فكلما أخفقت (السيطرة) في "التزاماتها"، فضلا عن وعودها، ألهبت الأيديولوجيةَ للدفاع عن "المكتسبات" الثورية أو الدينية أو العرقية المستهدفة من قبل "الأعداء"، وهكذا لا يبرح القلم الأيديولوجي حظيرة السذاجة مهما علا شأنه. غير أن فئة لا تقبل بها، لاعتقادها بضدية الديمقراطية "للشريعة الإسلامية" بناء على أن الأولى تدّعي "حُكم الشعب نفسه بنفسه"، بينما تُطالب" الشريعة" بحكم الله تعالى. هذا خلط غير مبرر، و إنما يحسن التذكير بأن "الشريعة" ترادف "الحاكمية"[5] عند بعض المفكرين؛ و يتضح جليا أن المفهومين تم تعاورهما في الخطابات و الكتابات، دون التدقيق في معانيهما، أو تلمّسهما في واقع معيّن. فلو سلمنا بترادف الديمقراطية المباشرة للشورى، سيُرفع اللبس، وكذا لو أدركنا أن تدبير شؤون الدنيا راجع إلى الناس، سينبلج بعض الصواب بالفصل بين حكم الله تعالى و التدبير الدنيوي الذي أوكله إليهم. ومما زاد الأمر تعقيدا تصريحُ "الثائر" على الموروث -غثا أو سمينا- بِنيته العدائية له، فأضحت الديمقراطية منافسة للحاكمية في تصور لا يمُث للواقع بصلة بل هي منافسَة ذهنية فقط، يرجع أصلها لذلك "الجرح النرجسي" الذي أصاب "الأنتلجنتسيا العربية" بكل أطيافها فقُدم التراث قربانا لرأب هذا الجرح العميق بالدعوة إلى الرجوع للعروبة "الأصيلة" قبل الإسلام (الأرسوزي)، أو بتتبع خطوات "السلف الصالح" في مقابل "الخلف الطالح" (السلفية)، أو بانتقاء الاتجاه "التقدمي والنزعات المادية" في التراث (طيب تيزيني وحسين مروة)، أو بتغليب "العقل البرهاني" (الجابري)، أو بالانتصار "للعقل المؤيّد" (طه عبد الرحمن)، وكلها دعوات انتقائية لا تدرس التراث في كليته وفق مسار يتوقف عند التغيرات التي سجلها التاريخ إيجابا وسلبا، وإنما تنظر إلى السلف نظرتين متقابلتين: تقديسية لا مشروطة، أو ازدرائية لا حسن فيها، فقد اجتهد السلفُ أفرادُه و أجياله، وتنافسوا وأصلحوا وأفسدوا، وهذا حقهم الإنساني لا يجب أن نحرمهم منه، فكم بالحري دراستهم من خلال مواقعهم متجنبين الإسقاطات وأحكام القيمة التي تعرقل المعرفة. فقد زخر المعجم السياسي العربي، رغم ضحالته، بمفاهيم ك: السلطة، والشوكة، والغلبة، والملك، و"الخلافة" طبعا كمعيار تنسب إليه أشكال الحكم، لكن الشورى لم تكن تتعدى الاستئناس وليس الإلزام عند حكام العض والجبر، ناهيك عن "أهل الحل والعقد" وهم الأمراء والقواد والولاة الذين كانوا يصبون الزيت على النار بالحؤول دون تقارب الحاكم ومحكوميه، متوارين تحت لواء الإجماع (...) فبات الجميع خاضعا لمنهج أفلاطون في تعريفه السلطة، حيث كان خيرَ معبر عنها في تلك الأزمنة حتى أواخر القرن 19، بطرحه سؤال: من يحكم؟ مستندا إلى "الامتياز الطبيعي وحق المواطنة الأثينية للأثينيين فقط، التي يفسح المجال لحق التملك في نظريته للعدالة" [6]، وهو سؤال لم تُعد صياغته إلا مع "الحداثة" ب: كيف نحكم؟ 2) ومن هنا ننتقل إلى الجانب المعرفي للتساؤل حول ما إذا كانت الديمقراطية – الحالية- امتدادا لديمقراطية أثينا أو ديمقراطية بيركليس في ق5 قبل م، كما ساد الاعتقاد حتى نهاية ق19، حيث يمكن القول: إن الغرب بصفة عامة كان يبحث لنفسه عن أصول خاصة به تؤثل خصوصياته العرقية الآرية وامتيازه على باقي الأعراق بالعقلانية وبشمولية فلسفية، لكن أركيولوجيا المعرفة في ق20 دحضت كل ما سبق وأعادت أثينا إلى إحداثية التاريخ الذي وجدت فيه، فقد أصدر بيركليس مرسوما عام 451ق م يسمى بقانون "الممادنة الذي سحب الجنسية الأثينية عن كل ممادن غير مولود من أب وأم أثينيين. ومن جراء هذا المرسوم أسقطت الحقوق السياسية والمدنية عن الآلاف من الأثينيين، وتقلص عدد المواطنين من 60 ألف إلى 20 ألف، بل إلى 14040 أثينيا قحا حسب تقدير فلوطرخس الذي يضيف أن ما لا يقل عن 5 آلاف أثيني بيعوا بيع العبيد (لثبوت نغولتهم)" [7]؛ فأقل ما يقال عنها أنها: 1) عشائرية تستند إلى العرق الأثيني فقط. 2) وأنها مباشرة (ليس بالمعنى الروسوي الذي يعني انغراسها في السلوك العام في دولة متوسطة الحجم)، فلم تنتقل إلى المستوى التمثيلي 3) وأنها ديمقراطية أقلية أي أرستقراطية ذكورية، فنسبة ممارسيها من الممادنين أنفسهم لا تتجاوز 1/20. 4) وأنها مأجورة حيث يتقاضى الحاضرون أجورا ضخمة لحضورهم الاجتماعات. 5) وتوصم أيضا بالإمبريالية، لأن تكاليف الأجور تقتضي اجتياح المدن المحيطة بها لتغطيتها. 6) وكذلك هي ديمقراطية عنيفة من الداخل باستصدار قوانين – أغلبها- بالإعدام أو بالاستعباد لمن يعتدي على امتيازات الأرستقراطيين أو ادعاء الانتماء إلى العرق الأثيني[8]. وعليه لا تخرج ديمقراطية ق5 ق م عن الفهم القبلي العشائري الذي يتحكم في ذهنية التجمعات "البشرية" آنذاك (...) وما دامت الشرعية لا تستحَق إلا بالضدية، فقد رفض بعض الإسلاميين الديمقراطية، على مستوى المفهوم فضلا عن تفعيلها، لأنهم حاكموها من خلال سكونيتها الأثينية وعنجهيتها القومية و الإمبريالية في ق19؛ لكنّ غير الإسلاميين - من شتى الأطياف - يشيدون بالنموذج الأثيني ضدا على تاريخ الحكم في العالم العربي والإسلامي، وكأن الاستبداد ظاهرة محلية فقط، بينما كانت ترزح الإنسانية تحت نيره في كل العصور، وما هو إلا استجابة للنظام القبلي المغلق حيث يسود عرق دون غيره، وما تاريخ الحكم في الإسلام منذ الأمويين إلا تعبير عما هو سائد. وإن ما يجب تأكيده هو، مرور ديمقراطية "الحداثة" عبر مصافي التكرير التاريخي لتصبح أفضل نموذج للحكم على كثرة عيوبه، بدءا ب"النهضة"، والأنوار، والثورة الصناعية، وقوميات ق19، والإمبريالية، والاشتراكية كمنافس للرأسمالية، ثم كان للحربين الكونيتين الأثر البالغ في تسليح الديمقراطية ولو محليا – عند الغرب، وكذلك اليابان وكندا وأستراليا ومن في طريقهم – بسلاحين رادعين هما الإعلام واستقلال القضاء، مما قيد الإفراط في التسلط، ثم انبثق عنها المجتمع المدني مستقلا عن الدولة ومؤكدا فعاليتها (أي الديمقراطية) لأن قوته من قوتها، وأكد حضوره القوي حيث تغيب الدولة، لكن أعظم إنجازاتها هو تقليص الوصاية على "الدين" - وليس الدين بمعناه القرآني حصرا - لانغلاقها (الوصاية) على ما قاله السابقون، بل إن معرفة الوصي على "الدين" بالأخلاق لا تنفك عن الفهم القبلي، رغم تأصلها في الفطرة، وثانيا أضحى هذا الوصي - شأنه شأن الأيديولوجي - مصدرا لفتاوي يُطلِق فيها يد الغالب، ويُقيد مطلب المغلوب، يُمنّيه بجنات عدن؟؟؟ ومفهوم الوصاية يبقى مفتوحا، يتقمص شخص الطائفة، أو المذهب، أو الحاكم، أو المفتي. طبعا تواجه الديمقراطية نفسها - إذ هي ثورة سلمية متواصلة - هدفها الأساسي خلق التوازنات الاجتماعية من خلال نظام سياسي مشترك لا غالب فيه ولا مغلوب، بالتداول على الحكم، وعدم المتاجرة بالحقوق الاجتماعية (التعليم والصحة، وكل مقومات الحياة البيولوجية) وهي من شروط الاتفاق بين الأغنياء والفقراء في حدوده الدنيا؛ ثم ضمان الحريات وتقييد يد السلطة، ثم مراقبة تداول المال لأن حسن تدبيره يعني الاستمرارية؛ وهذا ما يعني بأن الديمقراطية تواجهه نفسها. ... 1] من النهضة إلى الردة ج. ط - ص. 8 - ط 2009. [2] تعتبر السياسة من أكبر ضحايا السيطرة، فهي تمارس البطش باسمها تحت مسميات القانون والأمن والنظام. [3] قصة عقل، دار الشروق، ص 54، ط2، 1988. [4] يمكن استبدال مفهوم الحداثة ب"التجديد" لو أفرغ من حمولته الطائفية والمذهبية والنرجسية. [5] يعتبر المودودي من أكبر متداولي مفهوم الحاكمية إن لم يكن الأول في القرن العشرين متبوعا بسيد قطب، بعد الخوارج الذين رفعوا شعار "لا حاكم إلا الله". [6] المجتمع المفتوح وأعداؤه، ص 99،123، كارل بوبر، ترجمة سيد نفادي، دار التنوير، ط، 1988. [7] نقد العقل العربي، نظرية العقل، ج. طرابيشي، دار الساقي، ط 4 ، ص 326. [8] نفس المرجع من ص: 327 إلى 332.