في غضون كثرة الحديث عن الخيارات الاستراتيجية التي يتحجج بها بعض المسؤولين الحكوميين والإداريين المغاربة كذريعة لتبرير التوجهات اللاشعبية التي صارت تتسم بها السياسات العمومية خلال السنين الأخيرة، والتي أتت على مجموعة من المكتسبات الاجتماعية والحقوقية بالمغرب وتنذر بما هو أسوء، في هذا الغضون، يبدو لي أن الخيار الاستراتيجي الأوحد الذي صار واضحا الآن بما لا يدع مجالا للشك، هو التخطيط لسحق الطبقة المتوسطة-السفلى، التي تتشكل في غالبها من بسطاء أبناء الشعب المتفوقين الذين تمكنوا بفضل مجهوداتهم وكفاءتهم وقدراتهم الذاتية من تسلق المراتب الاجتماعية. فهذه الطبقة معروفة منذ الأزل بكونها مصدر قلق وإزعاج للسلطوية والاستبداد باصطفافها إلى جانب قضايا الشعب وتبنيها لمطالبه ودودها عن حقوقه، كما كان الأمر مع الحراك الاجتماعي الذي عرفه المغرب سنة 2011. فمنذ ذاك التاريخ، شرعت آلة السلطوية في البلاد وبواسطة حكومتين يمينيتين ذات توجه ليبرالي متوحش تخطط بشتى الطرق والوسائل لتنفيذ مجموعة من البرامج والخطط التي يمكن وصفها بالانتقامية من هذه الطبقة المزعجة. وهكذا شاهدنا كيف أنهم صاروا يسابقون الزمن من أجل تنزيل مجموعة من الإجراءات والتعديلات الإدارية والقانونية والمالية التي تصب جميعها في هذا الاتجاه، منها على سبيل المثال لا الحصر، ضرب صندوق المقاصة وتحرير الأسعار، رفع أسعار استهلاك الماء والكهرباء خاصة أشطر الاستهلاك التي تهم هذه الفئة، تعويم الدرهم، خطة إنقاذ صناديق التقاعد، التشغيل بالتعاقد، مراجعة قانون الوظيفة العمومية… وبالموازاة مع ذلك كله، لم يعد هناك، بعد حراك 2011، أي حديث عن الخيارات الاستراتيجية ذات البعد التنموي والاجتماعي لأنها استُنفِدت كليا خلال العقد الأول من الألفية الجديدة ضمن ما سمي بسياسة الأوراش الكبرى والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية والتي اعترفت الدولة بفشلها الذريع، وبالتالي يبدو أنه لم يعد لها ما تقدمه في هذا المجال. وفي ظل افتقاره للحلول الاقتصادية والسياسية للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية الخطيرة التي صارت تتخبط فيها البلاد، ارتأى المخزن وحلفاؤه من اليمين الحكومي المتطرف اللجوء إلى سياسات ذات بعد اضطهادي مباشر أو غير مباشر من أجل التحكم في التحولات الاجتماعية التي أصبحت تندر بانفجار كبير ووشيك. وهنا تقرر المضي في اتجاه محاصرة الطبقة الوسطى السفلى بغاية إشغالها وإضعافها والتقليص من حجمها ثم لما لا إبادتها كليا، لأنها تعتبر على مر العصور أهم قوة من قوى التغيير، لما تتميز به عموما من مستوى ثقافي محترم ودرجة وعي عالية ووضع مادي مريح نسبيا. فبتأمل بسيط لنموذج التشغيل بالتعاقد، مثلا، الذي تتشبث به الدولة باعتباره نمط توظيف يدخل ضمن خياراتها الاستراتيجية، يجعل المرء يفهم أن الهدف من ورائه ليس هو التحكم في كثلة الأجور ولا تنزيل ورش الجهوية الموسعة كما يزعمون، إذ صار من الصعب إقناع المواطنين بهذه المبررات في ظل إمكانات الولوج ومقارنة المعلومات والمعطيات التي تتيحها وسائل التواصل والإعلام المعاصرة؛ بل يبدو، في رأيي، أن الهدف الحقيقي من وراء هذا التوجه غير المحسوب العواقب هو منع خريجي الجامعات والمعاهد العليا من الالتحاق بالطبقة المتوسطة السفلى من باب الوظيفة العمومية، وبالتالي حرمانها (الطبقة الوسطى السفلى) من المنابع التي تغديها، في انتظار انقراضها لتبقى هناك فقط طبقة متوسطة إقطاعية معروفة بجبنها وولائها للإدارة والسلطة والرأسمال، والمتشكلة في الأساس من “حاشية” العائلات المتحكمة في ثروات الوطن وأصحاب الثروات المشبوهة والمستفيدين من الريع الاقتصادي… ولما كان قطاع التعليم يحوي أكبر نسبة من أبناء الشعب الذين استطاعوا كسر حاجز الفقر والتموقع داخل الطبقة الوسطى السفلى، كان التركيز عليه أكبر من أجل تنفيذ هذا المخطط الرامي إلى جعل الوظيفة مرادفا للهشاشة والفقر من خلال نظام التعاقد المشؤوم. من جهة أخرى، نجد أن النقاش حول النظام الجديد للوظيفة العمومية الذي هم بصدد إعداده كخياراستراتيجي أيضا يتضمن، ضمن ما يتضمنه، إشارة واضحة إلى التنصيص على قاعدة ربط الترقي والأجر بالمردودية، وهذا في نظري. مجرد حق يراد من ورائه باطل، من حيث ان إقرار هذه القاعدة ذات البعد اللبرالي الرأسمالي قد سيفتح الباب على مصارعيه من سن مساطر إدارية تقر التقهقر بدل الترقي داخل أسلاك الوظيفة العمومية وتقنن إمكانات خفض الأجور وتسريح الموظفين، وبالتالي، ضرب الاستقرار المادي والمهني والنفسي حتى لهؤلاء الذين يعتقدون أنهم نجوا الآن من ‘المقصلة” وجعلهم منشغلين بتكاليف الحياة اليومية وهموم الوظيفة والخوف من المستقبل عما سواهم. إن ما يحدث خلال السنين الأخيرة بالمغرب، يجعل المتتبع لتطورات الأمور يطرح عدة تساؤلات وتساوره عدة شكوك بخصوص السياسات العمومية ذات البعد اللبرالي المنتهجة من قبل الدولة، في بلد لا زال يصنف في ديل التصنيفات العالمية الخاصة بالتنمية البشرية ومعدلات الدخل الفردي وجودة الخدمات الاجتماعية وحرية التعبير والرأي… فحتى وإن سلمنا بأن هذا التوجه يندرج في إطار إملاءات خارجية لا مفر من تنفيذها بسبب إكراهات مالية ما، فلماذا لا تبد الدولة المغربية نفس الحماسة والاجتهاد في تنفيذ توصيات المؤسسات الدولية ذات صلة بإصلاحات سياسية عميقة وإرساء الديمقراطية واحترام حقوق الانسان؛ بالتوزيع العادل للثروات ومحاربة الفساد؛ بالقضاء على اقتصاد الريع والتصدي لتهريب الأموال نحو الخارج والتهرب الضريبي والعدالة الجبائية؛ بمعالجة إشكالات ضعف الحكامة والتدبير غير الرشيد للمرفق العام ؟! أم أن حل كل مشاكل البلاد لا يمر إلا عبر جيوب المواطن البسيط والموظف والمتقاعد وكل الفئات المستضعفة؟! فهل مقدر على الطبقتين الوسطى-السفلى والدنيا وحدهما تأدية التكلفة الباهظة للإصلاحات المزعومة، فيما تستفيد الطبقة العليا من امتيازات لا حصر لها وفي جميع الأحوال والظروف، كما حدث مع سياسة تحرير أسعار المحروقات؟ من جهة ثانية، إذا كانت مسألة سن بعض التشريعات الجديدة ترتبط بتنزيل ورش الجهوية الموسعة، لماذا لم تبد الدولة المغربية نفس الحماس في تنفيذ مخطط التوظيف بالتعاقد، أو التوظيف الجهوي كما يسمونه، في قطاعات مثل الداخلية والمالية والعدل؟! أم أن الجهوية لا تنطبق إلا على قطاع التعليم، الذي صار حقلا للتجارب ولو على حساب مصير ومستقبل أبناء الشعب المغربي والأجيال الصاعدة؟! إن منطق الخيارات الاستراتيجية لا يمكن فهمه ولا القبول به إلا في سياق رؤية إصلاحية واضحة، شاملة تلامس كل الأعطاب الحقيقية التي تعاني منها الدولة، بما فيها نظام الحكم، والنمط الانتخابي والمشهد السياسي، على أن يتصف بالتراتبية والتدرج والتوافق في تنفيد الإصلاحات. أما المخططات الجزئية التي تنفذ بانتقائية شديدة وتعسف مفرط والكثير من المزاجية فمن المستحيل ان تكون إصلاحية أو أن تحقق أي تغبير إيجابي يخدم الوطن والمواطنين؛ بل على النقيض من ذلك، لا يمكنها إلا أن تساهم في توسيع الفوارق الطبقية وتغدية الاحتقان والاضطرابات وجلب المفاسد، وما ضياع الزمن المدرسي بالشكل الذي نشاهده حاليا بسبب إضراب الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد والإضرابات التي دعت لها النقابات التعليمية الأكثر تمثيلية إلا نموذج مصغر لذلك، والذي تتحمل فيه الدولة كامل المسؤولية.