منذ ذلك الحراك الشعبي التاريخي الذي خرج فيه آلاف المواطنين خلف "حركة 20 فبراير"، منددين بالفساد والاستبداد ونهب ثروات البلاد، ومطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لم يعد هناك من شيء يرعب المغاربة بعدما تحطم جدار الصمت والخوف بداخلهم، واستطاعوا انتزاع مكاسب وإصلاحات عدة، تمثلت في إقرار دستور فاتح يوليوز 2011 وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة يوم 25 نونبر 2011. وبتوالي خيبات الأمل والشعور بالإحباط، جراء عدم الاستثمار الجيد لمقتضيات الدستور، وما أقدمت عليه أول حكومة يقودها عبد الإله ابن كيران، الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" ذي المرجعية الإسلامية، من خيارات فاشلة وقرارات موجعة، تجلت في تحرير أثمان المحروقات وإلغاء دعم عدد من المواد الاستهلاكية، دون اتخاذ تدابير مرافقة لتخفيف العبء عن المواطنين، فضلا عن الإجهاز على أهم المكتسبات: الإضراب والتقاعد والوظيفة العمومية... مما أدى إلى إضعاف القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وساهم في ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي، كان طبيعيا أن تتصاعد موجة الاحتجاجات، التي يعد من أقواها زخما وصخبا حراك الأساتذة المتدربين وأطباء الغد وحراك الريف... وها نحن اليوم أمام أكبر معركة شعبية يخوضها حوالي 70 ألف أستاذ متعاقد في قطاع التربية والتكوين، يطالبون عبر مسيراتهم السلمية بإسقاط قانون التعاقد والإدماج في الوظيفة العمومية، غير عابئين بما يتعرضون له من مضايقات أمنية وتهديدات إدارية. والتوظيف بالتعاقد ليس إجراء معزولا أو شكلا آخر من أشكال الارتجال الحكومي، ولا هو بقرار مؤقت أملته إكراهات عاجلة قصد تدارك النقص المهول في الموارد البشرية أمام تزايد أعداد المتقاعدين، ومواجهة غول الاكتظاظ بالأقسام، أو رغبة في الارتقاء بجودة التعلمات، بل هو حلقة من سلسلة قرارات مماثلة في مخطط جهنمي محبوك بدقة تحكمه اتفاقيات مبرمة مع أطراف خارجية، فرضت تبعاته على الشعب المغربي دون استشارته والأخذ برأيه. وبتسليط قليل من الضوء عليه، نجده يندرج في إطار التوصيات التي أقرها القائمون على وضع استراتيجيات النظام التعليمي ببلادنا. إذ في الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي ظهر عام 1999، جاء في المادة 135 المرتبطة بالتكوين الأساسي للمدرسين والمشرفين التربويين وتوظيفهم، أنه "... يتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعدا، بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية تدريجية، قابلة للتجديد على صعيد المؤسسات والأقاليم والجهات وفق القوانين الجاري بها العمل". وفي الفصل السادس مكرر من القانون رقم 05-50 المتعلق بالتشغيل بالعقدة، نقرأ: "يمكن للإدارات العمومية أن تشغل أعوانا بموجب عقود، وفق الشروط والكيفيات المحددة بمرسوم"، ويضيف الفصل ذاته أنه: "لا ينتج عن هذا التشغيل في أي حال من الأحوال حق الترسيم في أطر الإدارة". أما في المخطط الاستعجالي عام 2009 فقد جاء في الصفحة 49 ما يلي: "سوف تتم مراجعة أشكال التوظيف، إذ ستجرى على مستوى كل أكاديمية على حدة، وفق نظام تعاقدي على صعيد الجهة". وللتأكيد على أن السلطات ماضية في مخططها التصفوي بأناة، تنص الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 في المادة 59 على أنه "يتم بالتدريج اعتماد تدبير جهوي للكفاءات البشرية في انسجام مع النهج اللامتمركز لمنظومة التربية والتكوين وتوجهات الجهوية المتقدمة، مع تنويع أشكال توظيف مدرسي التعليم المدرسي ومكوني التكوين المهني، وذلك طبقا للمادة 135 من الميثاق الوطني للتربية والتكوين". وجدير بالذكر أن هذا القانون المثير للجدل سبق لمجلس المستشارين أن رفضه في سنة 2006، ليركن في رفوف الإدارة ريثما تتوفر التربة المناسبة. وهكذا بقي في الانتظار إلى حين قدوم حكومة ابن كيران، التي سارعت في يوليوز 2015 إلى تمرير ما سمي ب"المرسومين المشؤومين" القاضيين بفصل التكوين عن التوظيف، وتقليص منحة الأساتذة المتدربين إلى النصف (1200 درهم) خلال سنة التكوين. وعادت خلال يونيو 2016 للمصادقة على المرسوم الذي تحدد بمقتضاه شروط وكيفيات التشغيل، وفق عقود بالإدارات العمومية، طبقا لما ورد في القانون 05-50. إلى هنا يتضح جليا أننا إزاء ترسانة من التوصيات والقوانين الهادفة جميعها بشكل ممنهج إلى ضرب الوظيفة العمومية ونسف ركائز المدرسة الوطنية، وأن الدولة تسير صوب تكريس نظام التعاقد، قصد خفض كتلة الأجور حفاظا على التوازنات الماكرو اقتصادية، بعيدا عما يتم الترويج له من مغالطات حول تحقيق جودة التعلمات والتكوين الجيد للمتعاقدين. فكيف لهؤلاء "الأساتذة" الذين خضعوا لتكوينات هشة وسريعة، والمهددين بفسخ عقودهم عند أي "هفوة" ممكنة، أن يكونوا متحمسين للعطاء المثمر في قطاع يعتبر القاطرة الأساسية للتنمية؟ فالمتعاقدون يرفضون بشدة أن يكونوا جسرا للعبور في اتجاه إعادة هيكلة المنظومة التعليمية، والسعي الحثيث نحو تفعيل العمل بمشاريع المؤسسات، والانفتاح على مصادر أخرى للتمويل، وترتيبات متعددة تمهيدا لجعل دور الدولة ينحصر فقط في رسم الأهداف الكبرى. ويرفضون كذلك ما يحمله التعاقد من تهديد للاستقرار المهني والنفسي والاجتماعي، وتفكيك الأسرة التعليمية وتفييء المدرسين، والحرمان من الترسيم والترقية والإدماج... من أجل كل ذلك وغيره كثير، يصر المتعاقدون على مواصلة معركة الكرامة بكل صيغ النضال المشروعة، ورفض السيوف المسلطة على رقابهم وشرعنة التعاقد عبر توقيع ملحقات عقود "الإذعان". ويطالبون بقوة بإلغاء مرسوم "العار"، وإدماجهم في سلك التعليم بشكل يكفل لهم المساواة مع باقي موظفي الوزارة والحق في الاستقرار، وإنقاذ المدرسة العمومية مما تتعرض له من هجمة شرسة، وضمان حق المتعلمين في تعليم جيد وتكافؤ الفرص بين كافة أبناء الشعب.