*الزاهيد مصطفى: أستاذ الفلسفة بسوق السبت “نعيش في وطن يطالبك فيه اللصوص بالتقدير والاحترام أو الصمت” م.الزاهيد إن الناس حينما فكروا في وضع حد لحالة العنف المفترضة في الطبيعة التي نظّر لها كل فلاسفة العقد الاجتماعي، كانت غايتهم الأساسية أن يقضوا على العنف الذي يمكن أن يلجأ إليه كل واحد مستخدما قوته الخاصة في الدفاع عن ممتلكاته، أو الثأر لنفسه وكبريائه وحماية بقائه، مقابل ضمانات حقيقية، قانونية وسياسية عبروا عنها في تأسيس تعاقد اجتماعي وسياسي، وهو ميثاق إرادي أملته مصالحهم المشتركة، وقد يكون هذا العقد في البداية خادما للواحد المتعالي/الملك أي الحاكم، لكن مفكري الأنوار الذين بلوروا لنا الأسس التعاقدية الصلبة للديمقراطية الليبرالية الحالية، فكروا في أن يكون التعاقد مسؤولية جماعية يتحملها ويشارك فيها الجميع، لأنها مبنية على احترام القوانين وطاعتها، وهي نفس القوانين والتعاقدات التي وضعوها هم بأنفسهم، لأنها تعبّر عنهم وتجسد إرادتهم العامة، لكن حينما يصبح هذا التعاقد لا يجسد إرادتهم، فمن الناحية الأخلاقية والسياسية بالخصوص، لا يعود ملزما لهم، لأن الأصل في العقد الاجتماعي المؤطر للدولة ومؤسساتها هو الإرادة الحرة لكل فرد في التعاقد وأن يساهم في صياغة بنود وشروط هذا العقد، وهي ذات الإرادة التي لايمكن أن تتم صناعتها أو وضعها في شروط وإكراهات وحتميات تكون فيها ملزمة بالاختيار بين العبودية أو البطالة، بل إن التعاقد السياسي والاجتماعي الحقيقي هو الذي يضع الإرادة الفردية بين متناقضين، ويجب أن يعكس مشروعين أحدهما يجسد الحرية والكرامة والعدالة بوصفها فضيلة أخلاقية وتطبيقا صارما وحادا للقانون على الجميع، بمن فيهم من سيدبرون الشأن العام، فهم لن يكونوا فوق القانون، بل خدّاما ومجسدين للإرادة العامة، التي تنعكس في القوانين التي لا تتغيى سوى خدمة المشترك ورفاهية الأفراد وتحقيق مواطنتهم، والمشروع الثاني: يعكس حالة أدنى يسعى الجميع لتجاوزها وهي حالة العنف والظلم والعبودية، والتي لا تكون فيها للمؤسات أي معنى، بل الدولة كلها تكون مجرد أداة في خدمة لصوص الله ومن يعطون لأنفسهم حقا في التجسيد الأمثل لمتعالي لا يجمعنا به أي مشترك سوى العادة والعرف، وخاصة قوى الإسلام السياسي المتاجرة بالدين ومن بينها حزب العدالة والتنمية. في هذا السياق يمكن القول أن التعاقد الحقيقي يكون بين الجميع، وشرطه الأساسي الحرية في الاختيار، مع ضمان أن تكون كل الخيارات ضامنة للكرامة، وأن تحمي وتضمن للأفراد جميعا شعورا بالأمان والسلام الذي ينشدونه، وذلك بتحقيق خيرهم الأسمى، أي سعادتهم، والتي لن تتحقق إلا بالشغل والمأكل والملبس والمشرب والحق في التفكير والتعبير. فالتعاقد يهدف إلى نقل الأفراد من حالة يشعرون فيها بالخوف، إلى حالة يصيرون فيها آمنين من بعضهم، ومن كل هواجسهم، لأنهم يعتبرون القوانين وكل هاكيل الدولة هي تعبير حر عن إرادتهم وأحلامهم، وتوجد فيها إمكانية لتحقيق طموحاتهم، وهو ما خرقته الدولة وخاصة الحكومة المدبرة للشأن العام اليوم في المغرب، لأن الحكومة التي تعاقدت بكل وقاحة أخلاقية ودناءة سياسية على التعاقد الحقيقي مع من تخدمهم وهو “المخزن والرأسمال العالمي والمافيا الفرنسية في المغرب”، فحولته من تعاقد حقيقي خادم للأفراد وحقوقهم المدنية، إلى تعاقد يسعى لتحويلهم إلى أدوات تستخدمهم كآلات صماء في العمل والعمالة الحقيرة، وهو ما يعني خرقا قبليا للشرط الأساسي لكل تعاقد، والذي يجب أن تكون غايته الأسمى حماية كرامة الأفراد ورفاهيتهم. إن التعاقد الحقيقي يجب أن يشعر كل فرد داخل الدولة بالأمان، وإن بدا للدولة ولخادم الإرادة العامة/الملك أنه لايشعر كل من يخدمهم بذلك، فوجب عليه التدخل بأسرع ما يمكن من أجل تغيير شروط التعاقد، حتى يشعر كل من يخدمهم على أنهم آمنين، لأن الدولة التي يجب أن يجسدها التعاقد الحقيقي ليست دولة يشعر فيها المواطنين بالخوف، وهو ما خرقته الحكومة في المغرب التي صارت مطالبة بتدخل حامي الإرادة العامة لفرض وصايته وممارسة صلاحياته الدستورية من أجل تجسيد دوره الحقيقي، لأن عدم فعل ذلك، يشعر الناس بأن هناك “تعاقد” على التعاقد السياسي والاجتماعي الحقيقي الذي من المفروض أن يجسد الإرادة العامة ويرسخها، وهو ما لا نشعر به اليوم في المغرب، فالدولة “تعاقدت” بكل هياكلها على التعاقد الحقيقي الذي يجب أن يمثل الجميع، لذلك صارت تعرض الجميع للخطر، ولأن الناس حينما لايشعرون بالأمان سيكون أمامهم حلاّن، ولتصلي الحكومة ليختار الناس الحل الأول، وهو العصيان المدني الذي بدأ يتبلور في المغرب اليوم، لأن الشعور بالذل والاحتقار لايمكن أن يقاوم إلا بالعنف الذي يبقى أقصى ما تتجاوزه أخلاقيات العصيان المدني، لذلك صار خادم الإرادة العامة مطالبا اليوم بالتعبير عن انحيازه، ويمكن أن نقول أن ما يجب القيام به يقتضي : * إعطاء الأمر بالتراجع عن التعاقد لأنه تبين أنه ليس تعاقدا يجسد ما يطمح له الجميع، بل يجسد فقط إرادة المهيمنين على الدولة داخليا وعالميا فقد “تعاقدوا جميعا” على التعاقد الحقيقي. * القيام بإجراءات تعيد الاعتبار للمكانة الرمزية للأستاذ باعتباره المنتج للقطائع القيمية والممؤسس للقيم المدنية، والمثل الاجتماعية التي ترسخ المشروع الاجتماعي الذي يسعى إليه كل المغاربة. لذلك سيكون كل دفاع عن “التعاقد” على التعاقد الحقيقي، هو نوع من الدفاع اللاأخلاقي والمقيت الذي لا يأخذ بعين الاعتبار المصلحة الإستراتيجية للدولة وكل مكوناتها، بل يأخذ مصالح مجموعة من الموظفين /التقنيين في العديد من المؤسسات العمومية -وهم انتهازيون بطبعهم- يعتبرون أن بدفاعهم عن “التعاقد” القائم اليوم ضدا على التعاقد الحقيقي، سيعطون رسائل للمتعاقدين/المهيمنين على الإرادة العامة بأنهم أكثر الخدام الأوفياء، والأجدر على تنزيل هذا “التعاقد”، لكنهم في نفس الوقت، ينسون أن التعاقد الحالي هو بمثابة مسخ فرانكشتاين الذي سيصير في الأخير قاتلا لصناعه أنفسهم، ومروعا للناس ولآمالهم وحرياتهم، صحيح أن حجج “المتعاقدين/المهيمنين” على التعاقد قد تكون مقنعة للعامة من الناس وبعيدي الشأن عن السياسة بفعل التدمير الاستراتيجي الذي تعرضت له السياسة في المغرب، لكنها مجرد تبريرات واهية تتأسس على قياس فاسد وعلى مجموعة من المغالطات التي يمكن توضيحها بعيدا عن التفاصيل القانونية التي تقتضي في جوهرها نقاشا عموميا، بل نقاشا حول الأصل في تأسيسها ومع من؟ ومن أجل من؟ ويمكن أن نعطي هنا نوضح التبريرات الفاسدة للحكومة: * تدعي الحكومة من خلال موظفيها ومؤسساتها وتصريحاتها الصحفية أن العقد شريعة المتعاقدين !، وأن الأساتذة قرؤوا، ووقعوا، ووافقوا بكامل إرادتهم عن ذلك، واليوم هم يخرقون ما تعاقدوا عليه، نرد ونقول لهم: لنفترض أن المغرب قطار يشبه القطار الجليدي في فيلم Snowpiercer الذي تمت صناعته بعد العصر الجليدي الذي جعل الحياة منعدمة على الأرض وصعبة جدا، وتم تقسيمه إلى مقطورات تقيم في أوله الطبقات الريعية والبرجوازية، وفي ذيله تعيش الطبقات الشعبية، التي توفر اليد العاملة التي تسهر على استمرارية المحرك المثالي لذلك القطار، فقد كانت الوجبة الوحيدة التي تمنح للموجودين في ذيل القطار تتكون من فضلات الذين يعيشون في مقدمة القطار، وذلك بعد أن تعالج كيميائيا، وتقدم على أنها نوع من الشكولاطة بشكل يومي، فهل كان بإمكان الذين يعيشون في ذيل القطار أن يطلبوا غير تلك الوجبة المفروضة عليهم؟، أكيد لا يمكنهم ذلك نظرا لغياب البديل و لأنها الخيار الوحيد، لكن الذين يقيمون في مقدمة القطار لم يكتفوا بفرض وجبة واحدة، بل كانوا يتدخلون لتعنيف الطبقات المتواجدة في ذيل القطار، وهو خلق شعورا بالاحتقان، أدى بالطبقات التي تعيش في مؤخرة القطار إلى تشكيل حركة اجتماعية/”تنسيقية وطنية”، قادت عصيانا مدنيا، صار مع العنف المتكرر للذين يوجدون في مقدمة القطار يعزز لدى الذين يوجدون في الخلف قيمة بقوتهم، وهو ما أدى بهم إلى إسقاط الطغيان حينما زحفوا على باقي المقطورات، بل صاروا يدركون أنهم بالمقارنة مع موارد القطار وما يأكله ويأخذه من هم في مقدمته، كانوا هم الفئة التي تعمل أكثر، وتستفيد أقل بينما تدفع ثمنا أكثر، لذلك فجروا القطار، وضحوا بكل شيء من أجل حياة جديدة أو الموت ،!، فكذلك الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد وكل المغاربة، فقد فرض عليهم التعاقد بدون خيارات متكافئة، قد يقول قائل مجادل: “كان بإمكانهم أن يرفضوا الأمر في البداية”، لكنه يتناسى بانتهازيته وسذاجته أن التخلي عن ذلك يقتضي أن تكون الفرص في الدولة متعددة، فالدولة لم تعد تقوم بدورها، وصارت الخيارات أمام خريجي الجامعات ومؤسسات التكوين المهني والتقني هو الوظيفة العمومية أو تحويلهم إلى عبيد في شركات الرأسمال الدولي في طنجة والقنيطرة والبيضاء…وشركات الأمن الخاص بأجور لا تحقق كرامتهم، بل فقط ترقيهم في سلم العبودية. * يحاجج “المتعاقدين علينا في الحكومة”على التعاقد الحقيقي، بأن المصلحة الوطنية العليا تملي على جميع الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد أن يتحلوا بالوطنية، بل وصل الأمر بالوزير المسؤول عن القطاع حسب ما نشرته مجموعة من المواقع أنه ادعى عدم تحليهم بالحس الوطني !!!، وهو ما نرد عليه بما يلي: عن أي وطنية تتحدث الدولة والحكومة خصوصا؟، إن كانت الوطنية تعني السخرة والإذلال وتحويل كل المواطنين إلى عمال في شروط غير قانونية تهين كرامتهم، ولا تشعرهم بالاستقرار، لأن الغاية التي جاء من أجلها العمل هي جعل كل فرد يحقق كرامته واستقلاليته وذاتيته، لكن حينما يصبح العمل لا يحقق للأفراد هذه الغايات التي هي جزء من التعاقد السياسي الحقيقي الذي نحن في حاجة إليه، فإن العمل به يصبح مرفوضا، إلى أن تكون شروطه مجسدة لغايات المتعاقدين، فالدولة اليوم والحكومة صارت تتصرف وكأنها ملّاك ضيعة في العصور الوسطى، ومن المفروض أن تأمر فيستجاب لها، ناسية أن هذا ممكن فقط في الدولة الرعوية التي تكون استبدادية، والسلطة فيها تستند إلى شرعيات ما فوق قانونية وتعاقدية والأفراد مجرد رعايا، لكن إن كنا كما تدعي الحكومة في دولة الحق، فالسؤال المطروح: من صاغ التعاقد الذي تتجلى فيه هيمنة واضحة للمتعاقدين على التعاقد الحقيقي الذي يقتضي أن يجسدنا جميعا؟ هل يمكن لأعضاء مجالس إدارية للأكاديميات بعضهم لم نعرف عنهم نضالا أو ثقافة أن يساهموا في المصادقة بعد نقاش وطني وصادق على صيغة قوانين لتقييد طبقات هم في الأصل منفصلين كل الانفصال عنها ولا يعرفونها؟. وهو ما يجعل شرعية ومشروعية التعاقد من طرف الذين يريدون التعاقد علينا غير ملزمة. هكذا يصبح النضال المدني مطلبا أخلاقيا، وعلى الحكومة أن تصلي لكي لا يختار الشعب خيارا آخر، لأن من صار يهدد الوطن ويفتقد للوطنية هو الحكومة العاجزة عن إيجاد بدائل لتدبير الأزمة التي ساهمت فيها بالديون، والعجز عن خلق الثروة، نظرا لأنها لم تفكر يوما في التعاقد لجهل مكوناتها به، فهم يعتقدون أن الوعود التي قدموها في لحظة الدعوة الدينية، هي نفسها التي يمكن أن تدبر الدولة في لحظة التدبير السياسي والواقعي، فلا يمكن بدافع الإفلاس الذي تعانيه الصناديق التي صارت مهددة بالإفلاس كما يروج نظرا لسوء تدبير وحكامة الذي نهبوها أن نحمل للأساتذة والموظفين مسؤوليتها وباقي المغاربة. إن الوطن سفينة، وهو الآن يعاني من ثقب كبير وخطير، والمياه تتسلل إليه، في محيط إقليمي ودولي مضطرب، ووضع داخلي مأزوم، ورغم اختلاف موقعنا وأدوارنا في هذه السفينة، فإن الغرق في الأخير يتهددنا جميعا، لذلك فإن التعاقد من طرف المتعاقدين علينا لم يعد ملزما، والحل الوحيد هو أن يتدخل خادم الإرادة العام/الملك ليؤدي دوره الدستوري، فضمانة سير المؤسسات يجب أن تتجلى هنا في وضع حد لمن صار تدبيرهم يعيقها ويهددنا جميعا، حتى لا يعتقد الشعب أن الجميع متعاقدون على التعاقد الحقيقي، وهو التعاقد الذي يخدم الشعب. * على الأساتذة الذين تم التعاقد عليهم، أن يبتعدوا عن التفاصيل القانونية التي يقحمهم فيها المتعاقدين علينا، والتركيز على مسألة بسيطة وجوهرية بنظري المتواضع:”كل تعاقد يجب أن تحدد أطرافه وغاياته، فمن تعاقدوا معنا، لم نكن شركاء في صياغة بنود عقدهم، وبالتالي فكل تعاقد معهم لايستند لشرعية سياسية، لذلك فهو غير ملزم، وهكذا فالحل هو النضال المدني إلى أن يتحقق الإدماج الذي سيكون فقط لحظة يعيد فيها كل الأساتذة طرح نقاش حول ماهيته أيضا، هل يحقق الاستقرار أم أنه صار عرضة أيضا للتدمير؟. * تدعي الحكومة وكل أجهزتها أن التلميذ يجب أن يظل فوق كل اعتبار لأنه هو الغاية الأسمى، وهي المغالطة التي نرد عليها بالقليل من البيداغوجيا معهم : طيب لنفترض أن الدولة والحكومة تشبه حافلة نقل عمومي أدى الجميع ثمن السفر عبرها، فالمسؤول عن صيانة الحافلة ومراقبة مكابحها وعجلاتها وكل شروط السلامة عل مستواها ليس الركاب، بل صاحب الحافلة وطاقمه المسير، لكن لنفترض على مستوى الطريق ظهرت علامات العياء على سائقها بسبب عدم الكفاءة أو السكر، أو أن حريقا يهدد سلامة الركاب، ففضل العقلاء منهم النزول منها، فهل المسؤول عن الأمر هم الركاب الذين نزلوا لأنهم شعروا بالخطر أم أنهم مطالبون بالاستمرارية رغم كل ما يهدد حياتهم وسلامتهم؟، بل المشكلة في الطاقم المسير للحافلة، وفي هذه الحالة من الناحية القانونية يمكن لركابها الاحتجاج ليتوقف سائق الحافلة بحثا عن أخرى بشروط أفضل مع دفع التعويضات، فكذلك التعليم فالأستاذ جاء من أجل التدريس، لكن الحافلة ومن عهد له بتدبيرها لم يوفر شروط السلامة، لذلك على صاحبها أن يغير طاقم تسييره أو سيصاب بالإفلاس، لأن لا أحد يخاطر بحياته في حافلة تهدد الناس بالخطر الوشيك، والواضح من ذلك،وهو ما ينطبق على التلاميذ فالأستاذ الذي فرض عليه التعاقد، يريد تغيير شروط السلامة في الحافلة/المدرسة برمتها، ولايمكن أن يتبع أراء غير العقلاء من ركابها، ونستمر في السفر عبر حافلة شروط السلامة فيها غير متوفرة. وأخيرا على الجميع أن يستوعبوا أن الوطن مسؤولية مشتركة وأن المعركة من أجل الحق في تعاقد سياسي واجتماعي ضد المتعاقدين علينا هي معركة مصيرية تقتضي أن ننظر كلنا لنقطة واحدة وهي إسقاط المتعاقدين علينا في هذه الحكومة.